إحسان طالبصفحات الرأي

إشكالية القيم والمفاهيم في ثورات الربيع العربي

 

    احسان طالب

-1-

    تأسست الانتفاضات الجماهيرية الثورية تاريخيا على قيم ومفاهيم مشتركة هي في الأساس قيم الحرية والعدالة والمساواة والاستقلال في مواجهة ظلم اجتماعي واستبداد سياسي أو ديني، و احتلال داخلي كان أم خارجي، وجاءت التصورات العامة لمفاهيم تلك القيم متشابهة حيثما تنقلت عبر أمكنة وأزمنة مختلفة ومتعاقبة، إلا أن الرؤى الداخلية التفصيلية وتطبيقاتها العملية في الدولة والمجتمع جاءت متفاوتة بل ومتباينة لحد التناقض والتضاد.

    تبدو للوهلة الأولى التغييرات الثورية في مجتمعات الربيع العربية سطحية لم تتعدى تغييرا جزئيا في سلطات وأنظمة الحكم السياسية، بحيث لم تزل عديد القوى السياسية التي كانت مؤثرة سابقا موجودة على الساحة السياسية بل وفاعلة أكثر من أي زمن مضى. ففي مصر أسفرت الانتخابات الرئاسية عن تفوق طفيف لمرشح الإخوان المسلمين على رجل الدولة العسكري في نظام مبارك اللواء أحمد شفيق آخر رئيس للوزراء في زمن ما قبل الثورة، وإذا علمنا بأن جماعة الإخوان المسلمين كانت مشاركة بفاعلية في العملية السياسية خلال عهود الاستبداد، حيث تراوحت حصتها من مقاعد مجلس الشعب المصري حوالي 25 بالمائة عبر دورات انتخابية عدة ، يمكننا هنا تبصر حقيقة أن الشكل السياسي والاجتماعي لمصر الدولة والمجتمع لم يحقق قفزة واسعة خارج منظومة السائد والمستقر في المكون الفكري والقيمي والسياسي لما قبل الثورة، ولا يشكل هذا انتقاصا أو تقليلا من شأن التغيير الناتج عن الانتفاضة الثورية المصرية بقدر ما يعين على فهم أعمق للآليات ومآلات التغيير.

    إشكالية الديمقراطية:

    أبانت التجربة الديمقراطية لبلدان الربيع العربي عن تقدم ملحوظ لأكثرية سياسية صبغتها الرئيسة اقترابها بل وانبثاقها من رحم تجارب الإسلام السياسي، المحتوى في جله داخل فكر ديني سياسي وسطي منفتح على قدر كبير من البراغماتية ومتخليا لحد معقول عن الأيديولوجية الدينية المعيقة لقيام مجتمعات سياسية مدنية، قادرة على بناء توافق بين الالتزام الديني الشخصي وبين تحديات الحكم ومتطلباته الواقعة خارج منظومة المرجعية الدينية في تفصيلاتها الكلية.

    ولما كانت الممارسة الديمقراطية وليدة لا تمتد جذورها عميقا في التاريخ الحديث للدول العربية موطن الثورات فلقد سبقت الممارسة الثقافة، وانخرطت جموع الناخبين في عملية تنافسية، مندفعة برغبة جامحة ومشاعر متأججة نحو القيام بفعل حقيقي يترتب عليه مستقبل الأجيال الحالية واللاحقة. والحق يقال فإن الجموع الناخبة لم تعرف في سياق ممارستها السياسية الضحلة في ظل عهود الاستبداد سوى تيارين رئيسيين وثالث هامشي، فتيار الدولة المتمثل بفكرة النظام الحاكم وكيان الدولة المشتمل على القوة القادرة على فرض الأمن وحماية الحدود وتأمين الاستقرار والحد الأدنى من متطلبات الحياة الضرورية ، ولمفهوم الدولة الشعبي اقتران بالهيبة والسمعة التاريخية العالية ، فالدولة بمفهومها الشعبي تعني الوطن والتاريخ كما تعني جملة الأنظمة المدنية الضابطة لإيقاع الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، كالأمن والشرطة والقضاء وكافة المؤسسات الحكومية الاقتصادية، كالمصانع والمقار الحكومية الرسمية والقطاع الطبي وغيره من مظاهر الحكم والتحكم . من هنا جاء رسوخ أهمية تيار الدولة المتداخل مع نظام الحكم بصرف النظر عن معاني الاستبداد أو الديمقراطية.

    التيار الثاني هو التيار الديني، شعبيا كان أم نخبويا، منخرط بالمعارضة التقليدية لأنظمة حكم أعاقت تحقيق العدالة الاجتماعية وحاصرت الحريات العامة وأهانت كرامة الإنسان ولم تكترث لحقوقه، ما أفرز نقمة عميقة تراكمت عبر عقود طويلة من الظلم والقهر، كما أفرز ميلا وجدانيا تلك المعارضة التي دفعت فاتورة باهظة ثمنا لبقائها ووقوفها في وجه الطغيان، وهذا ما يفسر جزئيا تقدم المعارضة الإسلامية التقليدية. ولقد نال ذانيك التياران نصيب الأسد من أصوات الناخبين المنخرطين في العملية الديمقراطية الناشئة، أما أكبر الخاسرين في تلك العملية فهم تيار النخبة الثقافية العلمانية اليسارية الليبرالية، فهؤلاء لم يكونوا محل جذب أو انتباه لأمزجة المشاركين في الحركة السياسية المتولدة بعد الانتفاضات الثورية، ومرد ذلك انفصال تلك النخب عن الشعب ومسايرتها لنظم الاستبداد، وانفصامها عن الرغبات والمتطلبات الحقيقية للمجتمع، فتطلعاتها الطوباوية لثورات فاضلة كاملة ناجزة نحّتها جانبا. لقد كانت الحركة السياسية المنبثقة من صميم النظم السائدة والخارجة من رحم الإسلام السياسي أكثر واقعية وبراغماتية من نخب علمية وثقافية لم تستوعب جوهر الديمقراطية ألا وهو : السيادة للشعب، وليس لما يظن أو يعتقد أنه الأفضل، فإرادة الناخبين هي الأفضل حتى ولو لم تكن كذلك بالتجربة ، لكن دينامية المسار الديمقراطي يفترض بها الوصول للأفضل.

    هكذا تبدو العملية وكأنها تحقيق صارم لرغبات وتطلعات الأغلبية السياسية المستندة في بعض وجوهها لمرجعيات دينية أو قومية، وهذا ليس صوابا، فالديمقراطية لا تقف عند الحاجز العددي والأكثرية العددية ليست إلا مظهرا محدودا لعدالة النظم السياسية، في حين أن الديمقراطية في جوهرها نموذج فريد لتحقيق التشاركية السياسية الكاملة التي لا تتأتى إلا بحفظ حقوق الأقلية وإتاحة الفرصة الكاملة لها للتأثير في القرار و بنظام الحكم.

    يلح كثيرون من المحللين السياسيين على أن الضامن لتحقيق أهداف الديمقراطية و البعد عن مثالبها أو عيوبها يكمن في دستور مدني علماني غير منحاز سوى للعدالة والحرية والقيم الإنسانية العليا، والواقع أن ثورات الشعوب في البلدان العربية إنما جاءت مندفعة ومتحركة ضمن فضاء قيم إنسانية وطنية دينية تتداخل فيما بينها متجاوزة الفوارق والفواصل المدرسية، لذلك ينبغي على الهيئات التأسيسية العاملة على كتابة الدساتير القادمة عدم التهيب من معارضة جماهيرية لبنود تؤكد عدم انحياز الدولة لجانب دون آخر أو انحيازها لصالح أيديولوجية دون سواها ، والحقيقة أن هذا المفهوم هو صلب الغاية العلمانية المجتمعية. في دولة الحق والقانون لا سلطة لكهنوت أو مرجع سوى القانون أو الدستور ، ولعلنا نستشف تفاؤلا حقيقيا من خلال إقرار محكمة القضاء الإداري المصري في منتصف أيلول- سبتمبر 2012 لقرار حل مجلس الشعب المصري الذي أصدره سابقا المجلس العسكري ، ذلك المجلس كان يهيمن عليه الإخوان والسلفيون، ومصدر التفاؤل عائد لصدور ذلك الحكم في ظل رئيس إخواني هو السيد محمد مرسي، إذن حكم القانون طغى على إرادات الجماعة وحزب العدالة والحرية اللذان سعيا لنقض قرار المجلس العسكري بحل مجلس الشعب عبر عقد جلسة طارئة تحديا لسلطة المجلس العسكري قبل إحالة معظم زعماء الأخير للتقاعد بقرار رئاسي ، هكذا هي الحالة عندما تكون سلطة القانون فوق الجميع. فلا سلطة العسكر اعترضت ولا الأكثرية البرلمانية امتنعت، أليس ذلك تطبيق عميق لدلالات الديمقراطية بفصل السلطات وسيادة القضاء ؟

    لا تختصر الديمقراطية بعربة نستقلها مرة واحدة للوصول لسدة الحكم ثم نترجل منها، ربما كان هذا المفهوم النفعي للديمقراطية سائدا في نظرية السياسة الشرعية لبعض الأحزاب الإسلامية، إلا أن الوعي الشعبي لن يسمح بتكرار ما حصل في غزة، حيث وصلت حركة حماس الإسلامية للرئاسة وشكلت الحكومة ومن ثمة ألقت بعربة الديمقراطية جانبان وباتت تحكم بسلطة الأمر الواقع متهربة من انتخابات مستحقة تخشى الحركة الخسارة فيها. الوعي الشعبي هو من أوصل التيار الليبرالي الليبي ليكون الكتلة الأكبر في المؤتمر الوطني،وهو الضامن الأكبر والأهم لاستمرار عربة الديمقراطية فوق السكة المستقيمة والمستمرة.

    هذه الديمقراطية التي نمتدحها ونضحي لأجل تطبيقها، أوصلت للحكم رجلا تسبب بمقتل ملايين البشر ـ هتلر ـ كما أنه تحت وطأة حكمها تم إعدام مبتكر علم الأخلاق ورائد المفاهيم الفلسفية – سقراط ابن الحجار – وهي ذاتها حامية المحاصصة الطائفية في كل من العراق ولبنان، لكنها اليوم سمحت في كل من ليبيا ومصر وتونس واليمن بإزاحة استبداديات فردية تسلطت على رقاب البلاد والعباد عقودا طويلة، العبرة هنا أن النظام الديمقراطي ليس مثاليا وليس إلهي كما ليس مقدسا، وفي ذلك مكمن صوابيته ومصداقيته، حيث يتحلى بمرونة وسعة تسمح لتطبيقاته بالتطور والتأقلم حسب الحاجة الملحة والطارئة، كما تتيح آليات تمكن أعتا ديمقراطيات العصر من إبداع نماذج صارمة ودقيقة لتداول السلطة وانتقالها سلميا من اليمين إلى اليسار وما بينهما.

    قد يكون استيعاب تلك اللحظة المؤجلة بين الركون للاستبداد وبين طلب الحرية والإصرار عليها والتضحية في سبيلها مفاجئا بل صادما للباحثين عن جذر الانتفاضات الجماهيرية وثورتها على الطغيان والاستبداد، الذي رزحت تحت سطوته عقودا طويلة، حتى بدا وكأن تلك الجماهير تخلت عن حقوق طبيعية سلبتها أنظمة حكم تفننت باختراع أنواع وأساليب لأشكال سلطات عائلية وراثية تفارق مفهوم الدولة الحديث، ككيان سياسي لا يستقيم بناؤه ما لم يؤسس على قيم الحرية والديمقراطية والمواطنة.

    مفهوم الدولة:

    لقد كانت النماذج السياسية الحاكمة في مجموع البلدان العربية مهد الانتفاضات الثورية منفصلة عن العقلانية بعيدة عن أبسط مبادئ قيام الدول، المستندة في شرعيتها إلى الشعب كمؤسسة رئيسة وأولية مانحة للثقة ومصدر للشرعية، قادر على سحبها حال وجود اختلال أو اعتلال متعارض مع شروط موضوعية متسقة بالحقوق والواجبات المعتمدة في شرعة حقوق الإنسان أو مخالف لمبادئ دستورية ضامنة لبقاء قيم الحق والعدل والمساواة والحرية كجوهر للنظام السياسي الحاكم والمسيطر.

    الدولة من حيث البناء النظري مفهوم مجرد، يتمثل بكيان سياسي مؤسساتي قائم على أسس فلسفية مادية، تتبنى المبادئ والقيم الإنسانية، تجسد ماهيتهُ العقل، وتتمظهر الحرية والأخلاق بموضوعه كروح أصيلة، يفقد حقيقة وجوده بغيابها ويتحول إلى مجرد سلطة جوفاء تمارس السيادة والحكم. وعليه فإن القوة الغاشمة المالكة لأسباب القهر والإخضاع القادرة على فرض سطوتها فوق بقعه جغرافية محددة تتحكم بمصائر الأفراد والجماعات دون اعتبار للعقلانية كنهج، والحرية كأساس جوهري، والأخلاق كناظم للعلاقات التبادلية بين الحاكم والمحكوم، ليست دولة بقدر ما هي سلطة سياسية قاهرة متحكمة، يرتبط شرط وجودها بشرعية القوة لا بقوة الشرعية، تقيم كيانا سياسيا مشوها يتموضع فوق مفهوم الدولة، مستعينا بأشكال تنظيمية اجتماعية عائلية وقبلية وعشائرية سالفة على التعبير الحديث عن العلاقات السياسية المعاصرة التي نشأت وفقها الدول الحديثة ، فأنظمة حكم عائلية جمهورية كانت أم ملكية لا تعتبر دولا ما لم تكن مبنية على أسس دستورية وقيم فلسفية فكرية تجعل من الإنسان المواطن الفرد ـ كل مواطن إنسان وكل إنسان فرد ـ مقياسا لتقدمها وتحضرها وتطورها، ذلك الفرد المكون الأساس للمجتمع المدني والمنتظم في جماعات مختلفة استنادا إلى خلفيات دينية أو إثنية أو سياسية أو اجتماعية، ينبغي له الحصول على الحرية والمساواة والعدالة تحت مظلة نظام سياسي ديمقراطي يصون حقوقه ووجوده ويضمن وسائل سعادته واستقراره، في مثل هذه الأجواء ينطبق وصف الدولة على التجمعات البشرية المتواجدة ضمن حدود سياسية محدودة ومعترفا بها. من هنا ندرك حجم الهوة الواسعة بين أشكال النظم السائدة و المسيطرة على المجتمعات والشعوب العربية قبل بزوغ فجر الربيع العربي، وبين المفهوم الصائب للدولة الحديثة ، تلك الهوة كانت مقدَمة وإرهاصا للانتفاضات التي ستطيح بأنظمة حكم جائرة وباغية.

    هكذا نجد كيف تصبح قضية الحرية في صلب مسألة الدولة، بما أنها ليست فكرة متعالية عليها أو منفصلة عن وجودها، وكلما كانت تلك القضية أمرا وجوديا لموضوع الدولة كان تطابق الوصف مع الموصوف حقيقيا.

    لقد كان هدف التغيير أشد عناصر الانتفاضات جلاء ووضوحا، فالشعب يريد إسقاط النظام، و إرادة التغيير لم تكن منصبة على الإسقاط فحسب، بقد رما هي منصبة على البناء وفق أسس وقواعد جديدة، تحقق إنهاءً لحقب من الغوغائية السياسية السائدة وما نتج عنها من فوضى وفساد تحول مع مضي الزمن إلى أشكال عاتية من الجريمة المنظمة يحميها استبداد وطغيان أمني قهري، اختفت في ظواهره قيم بات مستحيلا استمرار وجود تلك الكيانات الهشة رغم ما تملكه من آلة عسكرية وتنظيمات أمنية محكمة، بدا وكأنها قادرة على قمع أية مظاهر احتجاجية ناهيك عن قطع السبل على أية إمكانية لتغييرها أو تطويرها، وهنا أيضا نجد أن قيمة الحرية في صلب وجوهر الانتفاضات الثورية التي عبر عنها شعار الثورة السورية ، الله سوريا وحرية وبس. ليس مرادنا هنا إقصاء عوامل اقتصادية واجتماعية وتاريخية كان لها أثر فاعل في رفد إرادة الثورة والتغيير، شكلت في مجملها تلك الصهارة البركانية التي تسببت في تهيج الانتفاضات وانبعاثها لتكون ثورات حقيقة تطيح بما دونها ، تفاوت تقييم النتائج التي آلت إليها الاحتجاجات الثورية الشعبية في خضم الربيع العربي يفرض علينا تفحص الوقائع بحيادية معلقين أية نتائج أو أحكام مسبقة، اخذين بعين الاعتبار استمرار المد الثوري وعدم الاكتفاء بما حدث من تغيرات، فالمقدمات لم تكتمل بعد لذلك يستحسن التريث في استباق تقويم النتائج.

    مفهوم الحرية :

    الحرية مفهوم وجودي مرتبط بماهية الإنسان وطبيعته وإدراكه لكينونته المصاحبة للعقل فلا وجود للإنسان بلا حرية. وهو مفهوم ذاتي بالمقام الأول يتمحور بداية حول الذات الإنسانية وتتجلى ظاهراته في بناء الوعي وتوجهات أحكام الفرد على الموضوعات المحيطة به وتميزه عن الأشياء كما تتجلى تلك الظاهرات في علاقة الفرد بذوات الآخرين. بهذا نستطيع تفسير مسرب من مسارب الاستبداد، فنلحظ تناقض الأنظمة الاستبدادية مع الإنسانية لأنها عادت الحرية فتحول عداؤها ميكانيكيا للإنسان فاختفى وجوده في ظلها، وفي هذا ما يفسر جزءً من التعامل العنيف والاستخدام السافر للقوة العارية في وجه الاحتجاجات التي قامت بها الشعوب، فتلك الأنظمة لا تعترف بالإنسان، وما تصفيته الجسدية إلا إحدى مظاهر فقدان وجوده أصلا في منظومتها الفكرية والإيديولوجية .

    إن أقرب التعبيرات المصاحبة لفكرة الإنسان هو لفظ الحرية ، فلا وجود حقيقي له بدونها، بتقدير أنها الصفة المركزية المعبرة عن كينونته المصاحبة للعقل، فهو جسد مادي روحي عاقل حر، وكلما اقتطعت أجزاء من حريته غابت أجزاء من إنسانيته، ولعل تلك العبارة التي أطلقها أحد المواطنين السوريين ردا على امتهان كرامته واعتقاله بقوله : (أنا إنسان مالي حيوان ، وكل هؤلاء الناس حولي مثلي.) تفصح عن إحساس جذري عميق داخل وعي الفرد بذاته بارتباط الأنسنة بالحرية والكرامة، فالإنسان حر بطبعه ، حيث صنعت الحرية ماهيته ومفهومه، خلافا للتصور النخبوي عن الحرية باعتبارها ممارسة ومكونا اجتماعيا منضويا تحت رايات وشعارات سياسية منحازة لمفهوم يقضي باعتبارها مطلبا وهدفا وممارسة، تحول مع مرور الزمن إلى شعار أجوف فارغ من مضمونه، حيث وجدنا أحزابا شمولية جعلت الحرية شعارا ولم تدركه كمفهوم وجودي مرتبط بماهية الإنسان وطبيعته ، فما كان من تلك الأحزاب عندما سيطرت على الحكم إلا أن سجلت أعلى مستويات لقمع الفرد والمجتمع وأوضح ممارسات قاهرة سالبة للحرية معادية لها، بل ومتعدية على أبسط مظاهرها. غياب المساواة بين المواطنين وتصنيفهم على مبدأ الولاء والعمالة للسلطة السياسية كان واحدا من مظاهر إزراء الاستبداد د للحرية والإنسان ، فالمساواة واحدة من تجليات الحرية، وكلما زاد الوعي الاجتماعي بها ترسخت مستويات إدراك الفرد ككائن اجتماعي بحريته، وكلما ارتقت القوانين والأنظمة نحو تحقيق مساواة أكمل وأشمل تحققت الحرية في المجتمع، فإزالة كل الفوارق التي تصنف الناس على أسس عرقية أو دينية أو جنسية أو طبقية اجتماعية تجعل من المساواة مسألة حيوية في مفهوم الحرية. بهذا التفحص نصل إلى تحديد فصل نظري بين المفهوم وبين تجلياته وممارساته التي تظهر في مستوى فكري نفسي ومستوى واقعي عملي، فعلى الصعيد الفكري والنفسي نتلمس التدقيق الصوفي بالحرية على أنها ممارسة نفسانية وجدانية جوانية تدور في فضاء ميتافيزيقي ترتقي فيه النفس بالتأمل والتهذيب والزهد فتصل إلى الصفاء والنقاء فتتحد بالوجود متحررة من أثقالها المادية وشهواتها المستعبدة للذات وتستحيل اللذة بطعم الحرية تحللا من التكليف والالتزام . وبهذا المفهوم تبدو الحرية قيمة منعزلة ومنفصلة عن المجتمع وهياكل التعاملات الاجتماعية والسياسية بمعنى أنها خارج الدولة . وتختلف عموم الرؤية الدينية في فكر الإسلام السياسي للحرية عن تلك الرغبة الروحية بالتحليق والطيران نحو العلا بواقعية عملانية تبدأ بالتحرر من استرقاق الفرد للفرد بالتحول إلى العبودية المطلقة لله، ترتبط ابتداء بالاختيار وانتهاء بالتكليف، وتتحفظ تلك الرؤية على الفهم النظري لمظاهر الحرية باعتبارها مدخلا مفتوحا للفكر والبحث والتفحص عن الحق والحقيقة نحو فضاء لا نهائي ما يعني السماح بتجاوز المسلمات الإيمانية والاعتقادية وقد يفضي إلى تخطي الضوابط الاجتماعية السائدة والمتعارف عليها دون التعرض للمسائلة، وبناءً عليه يكون خطأ في فضاء الحرية الدينية كون العقل ضابطا وحيدا للعقلانية. هذه الرؤية تنحاز لمرجعية ضابطة للفكر مستمدة من نصوص تاريخية يتحقق فيها الحق والصواب وتشتمل على كامل الجوهر المفضي للخير والمنفعة، رؤية مفارقة لمفهوم العقل الاجتماعي المنتج لما يلزم من قيم وقواعد متحركة يتوافق عليها أفراد المجتمع بما يضمن صالحهم ورفاههم وسعادتهم.

    على الصعيد الواقعي العملي تعتبر الحريات العامة والخاصة مرتكزات لتحقيق الحرية المدنية وظواهر دالة على توفرها كحالة فردية ومجتمعية في ظل نظام سياسي واجتماعي ما، ولا يصح في فضاء الحرية العام، أي في المجال الحيوي المجتمعي، حصرها بحزمة محدودة من الخيارات أي ليس من الحرية أن أخيّرك بين أن تنصاع لأوامري وتنطوي تحت جناح حمايتي أو أقتلك أو أن أخيرك بين الاقتناع بما أومن به أو أعتبرك مواطنا من الدرجة الثانية ، لعلنا هنا نلحظ نقطة الارتباط بين المساواة والحرية، وعليه نقرر أن ترك المجال مفتوحا لانتقاء واحد من الخيارات المتاحة هو جزء مبتور من الحرية بل ربما كان مسلكا من مسالك سلبها وخنقها. إن الفرد الحر في مجتمع مدني منظم له الحق في تشكيل جماعته الخاصة كما هو متاح له حق الاختيار من بين عدة أطروحات متعددة المشارب والمنابع، سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية، كما أن له الحق في اجتراع سياقات جديدة غير مطروحة ضمن حزمة الخيارات المعروضة عليه.

    تداخل مفهوم الحرية بمفهوم الدولة:

    ( إن الحرية التي هي الحرية العقلانية توجد داخل الدولة، ذلك أن الحرية خارج الدولة طوبى خادعة) عبد الله العروي

    في سياق العلاقة بين الحرية والدولة وفيما إذا كانت القيمة داخل النظام أم خارجه، نتمكن من تحديد طبيعة الدولة وشكلها وهندستها ، فعندما تكون القيمة جزء من البنية الأصيلة لقواعد البناء تأخذ الدولة صبغة الحداثة والمدنية والديمقراطية أما في حالة اعتبار القيمة طارئة وإضافية لا تشكل أساسا عقديا ولا بنيانا تنظيميا يتحول الهيكل ليصبح على شاكلة الدولة الدينية المعاصرة التي تحمل في طياتها مظاهر ثيوقراطية من حيث المرجعية الدستورية والقانونية، ومن حيث وجوب انتظام الأفراد بمظاهر الانقياد والانصياع لمنظومة فقهية تراثية مجددة أو محدثة تحيط بكافة جوانب حياتهم وعلاقاتهم الطبيعية والاجتماعية ، فإتاحة حرية الالتزام الشخصي من صلب الحرية في حين أن الإلزام القانوني مناقض لها، فإشكال الحرية ليس منصبا على حيز ومضمون الإرادة لأن القضية ليست قضية إرادة حرة بقدر ما هي قضية فرد حر في مجتمع مدني متعدد الخلفيات والمرجعيات مفتوح على التلاقح الحضاري والثقافي دون قيود مسبقة .

    لا يمكن لأكثرية مجتمعية أو أقلية اختيار ما يناصب الحياة والإنسانية وعلم الأخلاق العداء، فليس من حق مجتمع مدفوع بمفهومه الخاص عن الحرية والديمقراطية أن يختار استعباد النساء أو العودة بالمجتمع إلى نظام الرق، كما ليس من حقه استفتاء الناخبين على إقصاء دين أو مذهب أو طائفة فهذا مناقض لمفهوم الحرية المحتوي في أساسه لمبدأ المساواة، وعليه يكون توافق الأكثرية على تجريم حرية المعتقد أمرا مرفوضا، ولم يعد بإمكان أية أكثرية في مجتمع ما التوافق على حرمان الفرد رجلا كان أم امرأة من حقه في العمل والتعلم وممارسة طقوسه الدينية ، فالحرية كما أسلفنا مفهوم مجرد قائم على بناء نظري عقلاني كما أن الدولة بناء عقلاني. فجنس الدولة من جنس الحرية والعقل، وأي تناقض لهما يفقد الدولة صفتها ويحولها لكيان سياسي مشوه عرفنا عدة نماذج منه سادت وانتهت، ولا يصح لنا أن نعيد التجربة على أسس وقواعد اللعبة القديمة ونحن نظن بإمكان خلق نموذج جديد، وكلما كانت القواعد النظرية لبناء الدولة المنشودة صحيحة وحديثة كلما تجنبنا الوقوع في مطب استبداد جديد. لقد كان إدراك فقدان الحرية لدى الشعوب في ظل أنظمة الاستبداد دافعا لرفعها كرمز للثورة، فالقناعة برسوخ ممارسات سلطوية جبرية يعمق الإحساس الواعي بتقييد الممارسة الطبيعية للفرد والجماعة بما يتناقض مع إفساح المجال لإرادته الحرة بالتصرف وفق قناعات وجدانية دون قيود سياسية وقانونية تنصب على إخضاع الفرد والمجتمع لإرادة سلطة طاغية تحكم الناس بالقوة الغاشمة ، ذلك الإدراك عمق الوعي الجمعي لمجتمعات خاضعة للاستبداد بفقدان الحرية والكرامة فشكل تراكما كميا ضاغطا تسبب في انفجارات احتجاجية متصاعدة أطاحت بتلك الأنظمة المستبدة. الدولة المرتقبة والمنشودة نتيجة لثورات الربيع العربي ينبغي لها البعد عن تكرار تجربة حالة الاستبداد الكامنة والمتمثلة في غياب مفهوم الحرية عن مفهوم الدولة.

    أثر التناقض الاجتماعي في إثارة قضية الحرية :

    هل التناقض الاجتماعي كان وراء تجذر قيمة الحرية في صلب الدوافع الأولية للانتفاضات الثورية الجماهيرية العربية ؟

    لقد حول الاستبداد المتعايش عضويا مع الفساد بعد عقود طويلة من التسلط والتحكم بمصائر وأقدار الأفراد والمجتمعات الرازحة تحت طغيانه الشعوب العربية إلى طبقتين لا ثالث لهما: طبقة الحاكمين

    وطبقة المحكومين

    وكان التناقض بين هاتين الطبقتين يفرز طغيان وضغوطا مستمرة ومتزايدة من الأعلى نحو الأسفل ، فمع مرور عشرات السنين من حكم الاستبداد أخذت ملامح الطبقة الوسطى بالمجتمعات العربية بالتلاشي والضياع وبات الرفاه الاقتصادي أو الصعود في السلم الطبقي الاجتماعي مرتبط بالمسلك والمسارب الموصلة إلى السلطة ورموزها المكونة للطبقة الحاكمة . ذلك الشكل المتخلف من العلاقة السائدة بين السلطة والشعب شكل ضغطا متزايدا في وعي الشعوب كان يتراكم على مر السنين تاركا أثره البالغ في شحن الطاقة الكامنة المهيأة للانفجار حالما أتاح الظرف السياسي والاجتماعي إمكانية الحركة، فالإحساس بغياب حرية العمل وحرية المشاركة الاقتصادية وتراكم الثروة في يد قلة ضئيلة بسبب امتلاكها القدرة على التحكم باتجاهات السياسة والاقتصاد ولد حالة من الغضب الشعبي الكامن ،تلك القدرة الهائلة المتراكمة جراء تصاعد الطغيان المترافق مع تزايد القيود السياسية والاجتماعية سلح عامة المواطنين بوقود حيوي لا ينفذ مازال يغذي التوق نحو اكتمال الخلاص وتحقيق المراد دون كلل أو ملل ، ولعل ذلك يفسر جانبا أساسيا في استمرار الثورة في مصر بعد سقوط حكم الرئيس حسني مبارك وزمرته والشأن نفسه في الحالة اليمنية الثورية المتصاعدة ، في حين نجد تجليات عظيمة لتلك الطاقة في التوق الأسطوري لثورة الحرية والكرامة التي يخوضها الشعب السوري ضد الاستبداد والطغيان .لقد تسببت محاولات إقامة علاقات اجتماعية جديدة برعاية أنظمة الاستبداد بردود أفعال سلبية ساهمت في عودة محمومة لخيارات دأب الاستبداد على تسويقها فتسبب بانتكاسة مجتمعية اقتصادية كان لها أثر بالغ في إفقار الشعوب وإدخالها ضمن دوائر الفقر والعوز. الفقر والحرمان قيود غليظة على ممارسة الحرية، فضغط الحاجة واللهاث لتأمين قوت اليوم والليلة كان على الدوام واحد من أساليب الاستبداد لإشغال عامة الشعب عن الخوض في قضايا السياسة والحرية، لكن السحر انقلب على الساحر وباتت مسألة احتكار الثروة وتكدسها في يد الفئة الحاكمة ورموزها سببا مباشر لبث الحياة في روح النضال والمطالبة بالتغيير الحقيقي، فشعار المتظاهرين في أول حركة احتجاجية كبيرة بمنطقة الحريقة في وسط العاصمة دمشق في منتصف شباط 2011 كان : ( حرمية ، حرمية ، ) في مواجهة رجال الشرطة وعناصر الأمن تضمن إشارة واضحة لسرقة أموال الدولة والوطن من قبل المتنفذين والزمرة الحاكمة، كذلك كان الحال فيما بعد في مدينة دوما بريف دمشق كرر المتظاهرون المطالبون بالحرية والكرامة : ( بدنا نحكي ع المكشوف حرمية ما بدنا نشوف ) تضمن دلالة صريحة بتوجيه تهمة السرقة والنهب لأسماء بعينها معروفة بغناها الفاحش الذي تكدس خلال فترة زمنية قصيرة من حكم الاستبداد، واشتهر عن تلك الأسماء كونها جزء من العائلة الحاكمة.

    -2-

إشكالية الحرية في ظل الإسلام السياسي

    إشكالية الحرية كقيمة مجردة:

    يتداخل مفهوم الحرية في الثقافة الجمعية السائدة عربيا وإسلاميا بالانعتاق من العبودية والتحرر من المحتل المستعمر للأوطان، إلا أن بزوغ فجر التحرر من الاستبداد والطغيان فتح آفاقا جديدة لمعاني الحرية ودلالاتها. وجد الإنسان على وجه البسيطة حرا متحررا لا يقيده عرف أو قانون ولا يحكمه قائد أو سلطان، ذلك المعنى الطبيعي ما زال ذو قيمة فردية أصيلة تولد مع الإنسان وتتطور داخل بنية تربيته وتعليمه حتى يبلغ مرحلة النضوج الفكري ويستوعب آليات البقاء حرا مع التزام بقوانين وأعراف المجتمع.

    كلما اقترب الفرد نحو مستويات اجتماعية راقية وبنى فكرية إنسانية حداثية اقترب من المدلولات الطبيعية للحرية، كذلك الحال يتطور داخل البنى الاجتماعية ليتم تنظيم العلاقات بأقل قدر ممكن من الإعاقة أو القيود، ربما يبدو للوهلة الأولى ذلك المعنى الواسع لدلالة الحرية الطبيعية مخالفا لما تعارف عليه الباحثون من ضرورة الامتثال للقوانين والأعراف مع إتاحة هامش متغير من مجتمع إلى آخر، بحيث تكون القواعد الضابطة للرغبات والتطلعات الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية للفرد مقدمة على حريته الطبيعية، هذه هي إشكالية الحرية منذ البداية: أيهما أولى بالحق الفرد أم المجتمع؟ وهل ينبغي الحت من حرية الأفراد لضمان حقوق المجتمع، وإلى أي حد يجوز للسلطة دينية كانت أم قبلية أو سياسية فرض قيود على الأفراد؟

    هذه التساؤلات وغيرها تتفاوت الإجابة عنها من مجتمع لآخر طبقا للبيئة المعرفية والفلسفية التي قامت عليها عصبة المجتمعات، ومن المرجح أنه مع انتشار الحضارة وزيادة رقعة الليبرالية السياسية والاقتصادية كلما نال الفرد قسطا أوفر من التحرر من القواعد والضوابط أيا كان صنفها أو مصدرها، وربما يتجلى سمو المجتمع وتطوره بقدرته على الاستفادة من التناقض الحاصل بين خلق فرد مبدع فعال وبين تجنب التضحية بالجماعة لصالح الفرد.

    قضية الحرية في ظل الإسلام السياسي:

    لقد كان صعود الإسلاميين صارخا ومدويا نحو سدة الحكم كنتيجة أولية للانتفاضات الثورية الشعبية في البلدان العربية ولم كن ذلك مفاجئا بحد ذاته بقدر ما كانت المفاجئة بالسيطرة الكبيرة للتيارات الدينية والنسب العالية التي حصلت عليها من خلال إجراء ا انتخابات حرة ونزيهة وشفافة إلى حد متوافق مع الشروط والضوابط الدولية للممارسات الديمقراطية.

    إن حصول التيار الإسلامي الرئيس في تونس المتمثل في حركة النهضة على ما يقرب من 40% من مقاعد الجمعية التأسيسية التونسية ـ البرلمان ـ وترأسها للحكومة المقبلة لأمر جدير بالمتابعة والفهم، وإذا أدركنا أن الدولة التونسية ولمدة تزيد على نصف قرن كانت دولة علمانية لائكية قامت تشريعاتها على ثقافة الفصل التام بين الدين والدولة وسعت مؤسساتها طيلة تلك الفترة الزمنية الطويلة على ترسيخ فكرة العلمنة المناهضة للفكر الديني خاصة الجانب الأصولي الأيديولوجي والإنغلاقي منه.

    نستطيع هنا إدراك أهمية جذر الحرية كقيمة وإرادة مستوطنة داخل الوعي الجمعي في إمداد الثورة بالقوة والطاقة اللازمة للسير نحو تحقيق التغيير الكامل لما كان ظاهرا مستقرا في المجتمع التونسي. لم تستوعب حكومة زين العابدين بن علي التونسية حقيقة رسوخ وعي الحرية والتوق الإنساني نحو الخلاص فكانت معالجاتها التجميلية السطحية غير مجدية بل لعلها ساهمت بإذكاء نار الثورة التي أشعلها الشهيد محمد بو عزيزي في مدينة سيدي بوزيد فكانت الشهاب الذي أضاء سماوات الربيع العربي القادم.

    ولعل المثال الجلي والصاعق المعبر عن تغير أمزجة الناخبين بعد الانتفاضات الثورية العربية حصول التيار الإسلامي السلفي في مصر على ما يربو من 20% من مقاعد المجالس التشريعية ـ مجلسي الشعب والشورى ـ وبمشاركة من حركة الإخوان المسلمين الممثلة بحزب رئيس ـ العدالة والديمقراطية ـ وحزب الوسط ـ وحصولهما على 35 % من المقاعد التشريعية يعني إمكانية مباشرة لرئاسة الحكومة المصرية المقبلة بتحالفات سياسية في متناول اليد . انزياح كتلة ضخمة من الناخبين المصريين نحو ترجيح كفة الإخوان المسلمين لم يكن في واقع الأمر شيئا مفاجئا أو غير متوقع بل هو منسجم مع تاريخ الجماعة وصراعها السياسي مع السلطة ومشاركتها بالانتخابات كلما استطاعت إليها سبيلا، أما أن يحصل حزب النور السلفي الذي شكل بعد ستة شهور من بداية الثورة في 25 يناير حيث أشهر في منتصف شهر يونيو، على خُمس مقاعد مجلسي الشعب والشورى فذلك لم يكن بالحسبان وكان عصيا على التفسير والتبرير خاصة وأن تاريخ الحركة السلفية في مصر والبلدان العربية متغاضيا عن الصدام مع السلطات الحاكمة بل ومائلا نحوها ومنحازا لمسالمتها وعدم مناهضتها. يمكننا بسهولة رد نجاح أحزاب حركات الإسلام السياسي في اعتلاء منصة الحكم في بلدان الربيع العربي إلى ثلاثة عناصر بارزة، إلى جانب ثبات هياكلها التنظيمية واستمرار وجودها الفاعل في الميدان الثقافي والإعلامي، وتفاعلها الاجتماعي مع عامة الشعب عبر الجمعيات الخيرية وارتباطها الوثيق بأئمة المساجد وخطباء الجمع، كما لا يجوز استبعاد الدعم الإعلامي الكبير لرموزها من خلال مؤسسات إعلامية بارزة ورئيسة في الفضاء الإعلامي العربي كشبكة الجزيرة الإعلامية في المقام الأول، هذه العناصر هي :

    أولا: الثقافة المجتمعية السائدة المرتكزة أساسا على الموروث الثقافي الديني الإسلامي وارتباط ذلك التراث تاريخيا بنجاحات وانجازات حضارية وسياسية أممية ، فشلت أنظمة الحكم التي سادت خلال زمن ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي، في مجاراة تلك النجاحات حقيقية كانت أم مزعومة، حيث لم تتمكن تلك الحكومات من الاستقرار والاستمرار وسقطت تحت سنابك انقلابات عسكرية استولت على الحكم وأنشأت أنظمة استبدادية حاربت الفكر الديني وناصبت حركات الإسلام السياسي العداء.

    ثانيا : تلازم ارتفاق الاستبداد بالفساد مع أشكال مشوهة من الحاكمية العلمانية ـ سوريا والعراق كنماذج مثالية ـ التي اختبأت تحت عباءتها سلطات الحكم العربية في مهد الربيع العربي طيلة خمسة عقود طويلة من القهر والظلم وتدهور الحالة المعاشية والإنسانية للفرد والمجتمع واختزال الدولة والوطن في شخص دكتاتور تحول تحت راية شذوذ إعلامية إلى إله يأمر وينهي يطاع ولا يعصى، فازداد الفرد فقرا وذلا، وازداد المجتمع تفسخا وتفككا وتخلفا، ومع كل يوم تقضيه البلاد خاضعة لسلطة الدكتاتور، كان الخروج عن كل ما يتبناه ويدعو إليه يتفاقم ويتعاظم ، وتحولت الدولة يومها إلى دولة محسوبيات أمنية و وساطات عائلية وفئوية تديرها ثلة من الضباط العسكريين المهيمنين على السياسة والاقتصاد مسلحين بتنظيمات وتشكيلات أمنية استخباراتية تعد على الناس أنفاسهم وتحصي تحركاتهم. مع استمرار الاستقرار الزائف كانت القبضة الأمنية المسلطة على رقاب العباد تزداد إحكاما وحصارا ويزداد الفرد عزلة وفقرا وحاجة حتى بات عاجزا عن تأمين أوليات معاشه وضرورات حياته اليومية ، فصار للتواصل الاجتماعي المنظم عبر مساعدات الجمعيات والمنظمات الخيرية أهمية بالغة وتأثير واضح، أشكال التواصل الاجتماعي تلك سيطر عليها الإخوان المسلمون في مصر والتيار المشايخي في سوريا وهما كان وما يزال لهما الدور الكبير في تحديد خيارات رجل الشارع العربي السياسية والاجتماعية.

    ثالثا: امتهان الكرامة والإحساس العميق بالعبودية والذل المرافق لسلطة الاستبداد المستند إلى منظومة قانونية تجعل من الفرد أداة مسخرة لتحقيق إرادات الطبقة أو الفئة أو العائلة الحاكمة. لقد وجدت الأغلبية الناخبة في دفعها لتصدر التيار الديني لمقدمة القيادة السياسية للدولة فرصة لتحقيق إرادتها الحرة، واستجابة لوازع ديني يرفض الذل والعبودية ، وهي بهذا المنطق تناهض ما درج الاستبداد على ترويجه من عمالة وسوء نية حركات الإسلام السياسي، فأرادت معاقبة السلطات الظالمة السابقة التي حرصت على إقصاء رموز التيارات الدينية عن السياسة. تلك الأغلبية إذن تُركت أمام خيارات محدودة محصورة بين تيارات ليبرالية ويسارية تقترب في ظاهرها من منظومة السلطة البائدة الفكرية والثقافية وبين تيارات حاملة لفكر وثقافة متفاهمة مع ما تعتقده وتؤمن به وما كان تاريخيا في الجانب المخالف والمناهض للاستبداد، وهو تيار الإسلام السياسي المنظم والذي تمرس في نشر توجهاته ورآه واستقطب عامة الشعب ونخبه الاجتماعية والاقتصادية ، بذلك كانت الأغلبية الناخبة تمارس إرادتها الحرة التي حرمت منها طيلة عقود طويلة.

    صحيح أن قضية الحرية لم تكن أولوية في أطروحات الإسلاميين ولم يتم التركيز عليها لاستقطاب أصوات الناخبين، هذا في الواقع يشكل انسجاما داخليا مع طبيعة التكوين الثقافي للمجتمعات في البلدان العربية، لكن ذلك لا يستثني إدراكنا لحقيقة أن الشعوب التي مورس عليها القهر والتسلط وقيدت حركتها بتقييد خياراتها السياسية إلى أبعد حد ممكن، كانت تتوق بشدة لكسر الطوق ضاربة عرض الحائط بما كان يفرض عليها من تصورات مترافقة مع ضغوط أمنية سياسية قانونية، وضغوط اقتصادية جائرة، صادرت إرادتها فمنعتها من التعبير الحر عن توجهاتها ورغباتها، فالناخب الذي صوت لجهة تسليم زمام المبادرة لقيادات إسلامية إنما كان يمارس حرية مغتصبة مفقودة ويحقق توقا كامنا نحو أجواء من الحرية المنفلتة من عقال قهر غاشم لم يترك فرصة يغامر فيها بتهميش المواطن أو إذلاله إلا استغلها واقترفها، لذلك كانت خيارات هذا المواطن بعيدة كل البعد عن أشكال التوجهات السلطوية البائدة.

    في هذا السياق لا يمكن استبعاد تجربة حزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا حيث حقق نتائج ايجابية في مضامير عدة على مستويات اقتصادية واجتماعية وسياسية كما في الدبلوماسية الخارجية، فكان لتلك التجربة أثرها المباشر لدفع الناخبين المتحركين في فضاء الربيع العربي لاختيار نماذج قريبة من شكل تلك التجربة الناجحة.

    لقد حاول الإعلام الرسمي المناهض لثورات الكرامة والحرية اختزال مفهوم الحرية بالفوضى والتحرر من القيم والمبادئ ونقض سيادة القانون امتثالا للانسياق وراء الشهوات والغرائز ، لكنه فشل في ما صبا إليه، فجمهور المتلقين والمنصتين شب عن الطوق، وذاق طعم الحرية الحقيقية ولم يعد يصغي لترهات إعلام سلطات غاشمة ظالمة فاسدة. لقد قام الناخبون في بلدان الربيع العربي بممارسة حريتهم عندما توجهوا أولا للقيام بالدور المناط بهم بفرض خياراتهم الذاتية، بعيدا عن ضغوط من سلطة حاكمة، وقاموا باختيارات مخالفة تماما لتوجهات حكامهم السابقين، وهم بذلك يردون الصاع صاعين لأولئك الحكام الذين سلبوهم حريتهم وفرضوا عليهم قيادات منعزلة عن قناعات وتصورات كامنة في الوعي، لم يزدها البطش والظلم إلا رسوخا وقسوة، فصار لسان حال الأكثرية الساحقة المتنوعة، يصرح بأن من استطاع إسقاط أعتا دكتاتوريات تسلطية ثبتت أقدامها في الحكم طيلة نصف قرن، قادر على منع ظهور دكتاتوريات أو استبداد جديد، قد يفكر في امتطاء حافلة الديمقراطية للوصول إلى سدة الحكم وبعدها ينحي الحافلة جانبا، تاركا كل من يسعى لمعارضته خارج المعادلة ، إن تحقق ذلك المشهد السريالي سيكون انتكاسا وردة سافرة على مسيرة الانتفاضات الثورية العربية، وعودة إلى تأسيس سلطات غاشمة تحت شعارات ورايات متباينة عما كان عليه الحال قبل الربيع العربي ، من هنا ينبغي ايلاء قضية الحرية ما تستحقه من ثقل وقيمة في ثقافة وعناية الفرد والمجتمع الفاعل والمؤثر في المرحلة اللاحقة لما بعد رياح التغيير العاصفة.

    لقد باتت مسألة الحرية جوهرا فردا في صناعة الانتفاضات والثورات وليس من السهولة بمكان أن تتراجع مكانتها أو تختفي تأثيراتها المباشرة في وعي علاقة الذات بذاتها وعلاقتها بذوات الآخرين، وعليه لن يكون تراجع موقع قيمة الحرية في فكر وثقافة الإسلام السياسي كافيا لتنحية المسألة جانبا، أو إعادتها لما كانت عليه في ظل الاستبداد الفاسد ، ستظل قضية الحرية حية وفاعلة بغض النظر عن صفة أو صبغة الحاكم وسلطته.

    ولا بد هنا من التنويه إلى أن ما نقصده بمصطلح الشعوب العربية أو المجتمعات العربية إنما هو للعموم والغلبة وليس للشمول فتلك المجتمعات والشعوب المنسوبة للعربية تحمل في ثناياها وجوهرها تعددا قوميا وإثنيا رئيسا ذو جذور تاريخية عميقة راسخة، تمتد إلى ما قبل الوجود العربي في سوريا والعراق ودول جنوب حوض المتوسط، فالقومية الكوردية مثلا جزء لا يتجزأ من ديمغرافية منطقة بلاد الشام، كذلك هو الحال في بلدان المغرب حيث يشكل الأمازيغ العنصر البشري الأقدم وجودا في تلك المنطقة ، ووجود تلك القوميات كان وما يزال جزءا من التاريخ والطبيعة والاجتماع، ولما كنا اعتبرنا أن المساواة في صلب قضية الحرية كان لزاما الإشارة إلى صلب الموضوع عندما يجري الحديث في العموميات. تتطلب الحرية السياسية اعترافا دستوريا بوجود أقليات دينية وقومية لها خصوصياتها وثقافته المتميزة، وبغير ذلك الاعتراف تضيع حريات خاصة لفئات رئيسة من المجتمعات وتتحول لعنصر زعزعة للاستقرار الأهلي والسياسي، ولا يعني ذلك أن إثبات الحقوق القومية والإثنية منة أو إحسان بل هو مكون رئيس لبناء ثورات انبعثت رفضا للعبودية والفساد والطغيان والحرمان وللتخلص من استبداد امتهن الكرامات وانتهك الحرمات.

    لما خلق الناس أحرار كان جدير بمن يحكمهم المحاولة الحثيثة لبقائهم كذلك وما القصة الشهيرة عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي يروى أنه اقتص من حاكم مصر لتجاوزه على حقوق مواطن عادي إلا دليل، ينبغي العمل به ، على أهمية الحرية الطبيعية والسعي ما أمكن للاقتراب منها.

    هل ينجح الإسلاميون في بناء صرح سياسي منحاز للحرية كما جاءت في سياق الدليل التاريخي السابق أم أنهم سيلجؤون لتغليب الانحيازات الأيديولوجية عند صياغة دساتير وطنية مدنية حديثة لبلادهم ؟ المسؤولية هنا مشتركة، والكل ملزمون بخوض غمار معركة الاستقلال الثاني بعد التخلص من الاستبداد وبناء دول قوية حديثة تصون الحريات وتحفظ الكرامات ولا تغلب المصالح الحزبية أو الفئوية على الحقوق المدنية والمواطنية. ثورات الربيع العربي هي ثورات حرية وعدالة من الخطأ الفادح حرفها لتتحول إلى معركة بناء نموذج خاص بطائفة سياسية أو دينية، أو نموذجا يمثل جماعة أو فئة قد تمثل أكثرية لكنها لا تمثل وطنا يشكله التنوع والاختلاف . التشاركية الكاملة والمساواة على أساس المواطنة دون أي اعتبار آخر، وإعادة الاعتبار للفرد والحق والقانون، هي السبل الواجبة واللازمة لإعادة بنيان الدولة والمجتمع على قواعد ثابتة تؤمن السعادة والازدهار وتحقق الاستقرار الأهلي والسياسي العميق والراسخ بعيد عن سلطة القهر والفرض والإخضاع.

    بعض مراجع رئيسة للبحث :

    ـ مفهوم الحرية : عبد الله العروي : المركز الثقافي العربي الدار البيضاء

    ـ وردة في صليب الحاضر : جاد الكريم الجباعي : دار الفرات ، دار بترا

    ـ التشدد الديني والإسلام السياسي : إحسان طالب : دار الرأي

    ـ مفهوم الدولة : عبد الله العروي : المركز الثقافي العربي الدار البيضاء

    ـ الحقوق والحريات العامة : تحرير وتقديم محمد كامل الخطيب : وزارة الثقافة . دمشق

    ـ معنى ومفهوم الحرية بكل أنواع الشرائع السماوية والعلمية والفلسفة: مجموعة من الباحثين والكتاب : حيدر حسين عبد السادة، عبدالرحمن العلوي، إبراهيم غرايبة، وغيرهم : منتديات سما نت

    ـ دولة حزب الله : وضاح شرارة :دار النهار طبعة رابعة 2066

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى