سمير العيطةصفحات سورية

إشكاليّات التشغيل “الكريم واللائق”/ سمير العيطة

 

 

معظم المجتمعات العربيّة أضحت ذات أغلبيّة شبابيّة. والمشكلة الأساسيّة التي تواجههم هي فرص العمل في اقتصادات لم تستطع بالرغم من وتائر نموّها في منذ بداية الألفيّة الثالثة مواكبة أعداد القادمين الجدد كلّ عام. لذا بات قدر هؤلاء الشباب هو العمل غير المهيكل informal أو الهجرة.

تعبير غير المهيكل يشير إلى تشغيلٍ دون عقود عمل ودون حماية اجتماعيّة، ويرادف غير منظّم لكنّه يفضّل عليه لأنّ الخروج عن منظومة القوانين قد يعني بسلبيّة أعمالاً إجراميّة، في حين يمكن أن يكون العمل غير المهيكل في القطاع الاقتصادي المهيكل أو في ذلك غير المهيكل بأجر أو للحساب الخاصّ.

تمّ إطلاق تعبير غير المهيكل من قبل منظّمة العمل الدوليّة على ظاهرة كانت في البداية تخصّ النشاطات الاقتصاديّة «التقليديّة» العائليّة التي كان متوقّعاً أنّها ستزول مع انخراط المجتمعات في الاقتصاد الحديث. إلاّ أنّ الواقع أثبت أنّ التشغيل والقطاع الاقتصادي غير المهيكلين ينموان باطراد.

لقد أضحيا سمتين أساسيّتين من سمات الاقتصاد المعولم الذي يخلق تنافسيّة بين البلدان تبحث فيه الشركات الكبرى عن أدنى تكلفة للعمل من الناحية الماديّة كما لجهة الحقوق الممنوحة للعاملين. وما يسمّيه البعض ليونةً. بالتالي بات انعدام الهيكلة للعمل كما للنشاطات الاقتصاديّة جزءا من بنية الاقتصادات الحديثة.

وأمام تنامي انعدام الهيكلة المطرد، لم تعد منظّمة العمل الدولية تفرض وتتأكّد من تطبيق الاتفاقيات الدوليّة حول العمل بل فقط عن إيجاد تشغيلٍ… لائق decent. وباتت مقدّمة دستورها في 1919 بعيدة، تلك التي تنصّ على «أنّ السلام العالميّ الدائم لا يمكن أن يقوم إلاّ إذا تمّ تأسيسه على العدالة الاجتماعية».

وباتت، كما سياسات الدول، أسيرة المعضلة الواقعيّة التي طرحها مديرها في 1991: «هل يجب تفضيل القطاع غير المنظّم بنيويّاً unstructured بحجّة أنّه يوفّر عملاً ودخلاً، أم يجب على العكس أن نسعى لتطبيق أحكام الأنظمة القائمة والرعاية الاجتماعية على هذا القطاع مع المخاطرة بتقليص قدراته على تأمين نشاطات اقتصاديّة للسكّان الذين تتزايد أعدادهم باستمرار؟».

إلاّ أنّ إشكاليّة التشغيل غير المهيكل هي في صلب جذور «الربيع العربيّ». إذ لم يكن البوعزيزي الذي أطلق شرارته سوى بائعٍ متجوّل غير مهيكل فقد الأمل بالرغم من أنّه يحسب في الإحصاءات الرسميّة أنّه مشتغل وليس عاطلاً عن العمل.

كما أتى الكثير من المقاتلين في الحروب القائمة منذ انطلاقة اضطرابات الربيع من صفوف المشتغلين غير المهيكلين. ذلك حدا بالبنك الدوليّ أن يصدر تقريراً يقرّ فيه أنّ بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تشهد أدنى نسب تشغيل في العالم وأعلى نسب بطالة، بالرغم من أدنى مشاركة للنساء في قوّة العمل.

وأنّ ثلث الناتج المحلّي الإجمالي المنتج في كلّ بلد يأتي وسطيّاً من القطاع غير المهيكل، في حين يعمل 65% من المشتغلين بأعمال غير مهيكلة، علماً بأنّ قسماً ملحوظاً من المشتغلين – الأكبر سنّاً بشكلٍ عام- يعملون في القطاع الحكوميّ.

لا تطرح إشكاليّات التشغيل غير المهيكل بالطريقة ذاتها في كثير من الدول، أمّا في الدول العربيّة الأخرى فالتشغيل غير المهيكل وانعدام الحقوق يخصّان المواطنين؛ وخاصّة الشباب منهم. ذلك مع وجود أوضاع خاصّة، مثل حالة لبنان، حيث يشغل اللاجئون الفلسطينيّون والهجرة السوريّة الموسميّة حيّزاً كبيراً من التشغيل غير المهيكل.

وبشكلٍ عام ينشطر «سوق العمل» أجزاءً متنافسة نحو الأدنى مع أفواج هجرة الريف إلى المدن الصغرى والضواحي ومع موجات الهجرات الضخمة بأيّ مقياس التي تعيشها بعض الدول من جرّاء الاضطرابات والحروب.

رغم كلّ هذا، ورغم غايات العمل اللائق في أهداف الألفيّة للتنمية أو في أهداف التنمية المستدامة، لم ينل التشغيل غير المهيكل الحيّز الذي يستحقّه في نقاشات التنمية القائمة، سواءً في مراكز الأبحاث العربيّة أو في السياسات الحكوميّة. وكأنّ الاقتصاد يقوم على رأس المال والاستثمار وحدهما دون الالتفات إلى طبيعة قوّة العمل.

ولا يجري الربط بين الاقتصاد والتشغيل غير المهيكلين وبين النموّ الحضريّ العشوائيّ الضخم الذي عرفته معظم المدن العربيّة مؤخّراً. فالعشوائيّات بنظر بعض المسؤولين هي فقط سرطانٌ يجب إزالته، علماً أنّ من يقطنها هم بشرٌ يبحثون عن قوت عيشهم.

والأنكى في هذا الهروب من مواجهة واقع التشغيل غير المهيكل ونموّه المطرد في البلدان العربيّة أنّ السياسات تجاهه ليست سهلة، ولا يُمكن بناؤها سوى بدراية من خلال تحليل خصائص كلّ بلد. فلا وصفات سحريّة، والجدال الاقتصادي والاجتماعي والسياسيّ حولها حادّ.

ينقسم الاختصاصيّون إلى مدرستين كبيرتين. تنظر الأولى إلى المعضلة انطلاقاً من أوضاع الشركات والمؤسسات غير المهيكلة والتي تجب هيكلتها إنّما عبر مزيدٍ من التحرير الاقتصاديّ وعبر تحرير القيود الإداريّة والأطر القانونيّة، خاصّة فيما يخصّ حقوق المشتغلين (مثلاً عبر إمكانيّة صرفهم بسهولة). وترى أنّ انعدام الهيكلة هو في الأساس خيار للتهرّب من الضرائب والتعقيدات الإجرائيّة.

أمّا المدرسة الثانية فتنظر إلى القضيّة انطلاقاً من أوضاع المشتغلين بحدّ ذاتهم. وترى أنّ انعدام الهيكلة ليس خياراً طوعيّاً، وإنّما إقصاء مفروض من قبل القطاع المهيكل الذي بات، خاصّة في قطاع الخدمات وهو الأوسع اليوم، مؤسسات جوفاء تستغلّ العمل غير المهيكل، الذي أضحى نمط إنتاج سائد في الاقتصاد الحديث.

كما لا ترى أنّ انعدام الهيكلة يرتبط بالفقر وحده بل يطال شرائح واسعة من المجتمعات. والمعضلة الأساسيّة بالنسبة لهذه المدرسة ليست الهيكلة بحدّ ذاتها بقدر ما هي أنّ العاملين غير المهيكلين يحصلون على دخلٍ أقلّ من أقرانهم المهيكلين وهم دون حماية اقتصادية واجتماعية. وجوهر المشكلة هو عدم وجود أقنية للتفاوض الاجتماعي للدفاع عن حقوق غير المهيكلين، مع خطر أن تذهب الانفجارات الاجتماعية عندما تحدث إلى الفوضى.

بالنتيجة يجب أن يأخذ التشغيل والاقتصاد غير المهيكلين وكذلك العشوائيّات العمرانيّة حيّزاً رئيساً في النقاش العام، كما لدى المهتمّين بالتنمية. إذ لا مخرج من اضطرابات الربيع العربيّ دون أن يجد ملايين الشباب العربيّ كرامة وأعمالاً لائقة وحقوقاً.

البيان

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى