صفحات الثقافةمازن أكثم سليمان

إشكاليّات جامعيّة بينَ المُستويين العلميّ والإبداعيّ/ د. مازن أكثم سليمان

 

 

اشتُقَّ مصطلح (الجامعة)، في اللغة العربية، من مفردتي الجمع والاجتماع، وحمل دلالة هدف بلوغ العلم، ومن اللافت في التصنيف العالمي -وربما من المؤلم لنا- أن أول جامعتين، في المفهوم الحديث للجامعة، تأسستا عند العرب، هما جامعة (القرويين) في فاس بالمغرب، وجامعة (الأزهر) التي شيّدها الفاطميون في مصر.

لم تكن تجربتي الطويلة بين عامي (1995 و2015)، في أقسام اللغة العربية، في جامعات (تشرين في اللاذقية والبعث في حمص وجامعة دمشق) مشجعةً للحديث عن مؤسسات تعليمية ناهضة ومعاصرة بتحقيقها الائتلاف والتكامل بين المستويين (العلمي والإبداعي) الأصيل والمنتج، بفعل جملة عقبات بنيوية متنوعة.

لعل من أهم سمات الجامعة المعاصرة قدرتها على تمثل الراهن (الثقافي) في كل مرحلة، وقوننته كي يتحول إلى (معرفة)؛ لتعيد هذه المعرفة بدورها بعد ذلك -عبر حركية عكسية متبادلة- إنتاج الثقافي الجديد والمجاوز والمغاير، فإذا كان يمكن الحديث -من حيث المبدأ- عن إبداع ثقافي غير مؤطر حديًا بمعرفة علمية، بالمعنى المنهجي أو الأكاديمي البحت، فإن الحديث يصعب عن معرفة علمية أصيلة بلا عمق إبداعي، يشكل -على الأقل- خلفية ضرورية أو حاملًا نسبيًا لتقديم المعرفة الحقيقية والمختلفة باستمرار.

لطالما وصفت الجامعات العربية بأنها مدارس كبيرة، ذلك لأن سؤال البحث العلمي فيها مقيد إلى أبعد الحدود بالبعد التقني من ناحية، ولا تكمن الإشكالية في وجود هذا البعد الطبيعي؛ إنما تكمن في تقييد هذا البعد بآليات تقليدية تحتفي بالعقل النقلي لا الإبداعي، حيث يتم إخصاء العمق الثقافي، في أقسام اللغة العربية مثلًا، لصالح ما يعتقد أنه حفاظٌ على البعد العلمي، وهو لا يعدو كونه احتفاء تقييديًا بالتكرار البالي، وبالتلقين التقليدي الكابح للطاقات، على حساب اكتساب المعرفة، بوصفها قبل كل شيء طريقة تفكير مفتوحة على الجديد والمختلف باستمرار.

ومما يزيد الأمر سوءًا في أقسام اللغة العربية تحديدًا، هو البعد التقديسي الذي يجمد حركية اللغة والأدب، بدعوى الحفاظ عليهما وحمايتهما، حيث يتم تحت هذا الشعار الفارغ تأطير البعد الثقافي بما هو منتج إبداعي أو نقدي، ويتحول المستوى العلمي إلى جثة محنطة بالمفاهيم المسبقة والمؤدلجة، وهنا أذكر كيف هاجمني أحد الأساتذة الذين قدمت إليهم حلقة بحث في السنة الجامعية الثانية، وحللت فيها شعر المتنبي، وتحدثت عن نرجسيته، وفق مناهج التحليل النفسي للأدب، حيث وصل به الأمر إلى تهديدي بالحرمان من الحلقة، لأفهم -في ما بعد- أنه كان يقدس المتنبي، بناءً على موقف ديني/ مذهبي بحت!

وتكرر هذا المشهد معي بعنف أكبر مرارًا وتكرارًا، ولا سيما حينما قدمت (سيمينار) المناقشة الأولية لبحث الماجستير في حمص، وحدث ما يشبه الزلزال في قسم اللغة العربية، كاد يمنع القسم من قبول مناقشة رسالتي، لأسباب ترتبط باللغة النقدية المتراكبة، وميلي المنهجي إلى استخدام أدوات فلسفية معاصرة في دراسة المعلقات، ووصل الأمر إلى تهديد أحد أعضاء اللجنة المعينة للحكم بالاستنكاف عن قبول البحث، وأعلن جهارًا نهارًا أنه عجز عن فهمه، بينما قام أحد أساتذة القسم بتقديم شكوى رسمية ضدي إلى عمادة الكلية، بدعوى الإساءة إلى اللغة العربية، وقد أنقذني من هذا المآل (المضحك المبكي) حينذاك موقف أستاذي المشرف الباحث الدكتور (أحمد علي محمد) الذي دافع عن بحثي بكل قوة، وكذلك موقف الناقد الأستاذ الدكتور (غسان مرتضى) الذي كان عميدًا لكلية الآداب، وكان قد نهض أمام الحضور في (السيمينار) بمبادرةٍ نادرةٍ وأصيلة قائلًا: “هذا الشاب شجاع، وقد أتى بما لم يجرؤ عليه أحد من قبل”.

لعل هذا المأزق الإشكالي الذي يزيد الهوة اتساعًا بين المستويين العلمي والإبداعي يتجذر بفعل البيروقراطية الإدارية والتخصصية في الجامعة، متحولًا إلى إشكالية بنيوية بامتياز، إذ تتحالف القيود الإدارية مع القيود الأكاديمية لإحباط أي حركية ثقافية قادرة على بث الدماء الحيوية المبدعة في أوردة البحث العلمي، وهي المسألة التي تظهر بعمق في إهمال جامعاتنا )التخصصات البينية)، وترسيخ خلل (الانغلاق التخصصي القاتل)، وهنا أتذكر بشيءٍ من الغبطة والاعتزاز كيف صدم الكثيرون من أساتذة قسم اللغة العربية في جامعة دمشق، حينما طلب مشرفي على تحضير رسالة الدكتوراه، الباحث الكبير الأستاذ الدكتور (وهب رومية)، بعقلٍ منفتح وروحٍ استثنائية أنْ تضم لجنة المناقشة أكاديميًا من قسم الفلسفة، وهو الأمر الذي أثار امتعاض الكثيرين، ونظروا إليه بوصفه تعديًا على قسم اللغة العربية أولًا، وعلى هذه اللغة وآدابها وقدسيتهما ثانيًا!

مما لا شك فيه أن الحديث عن (استقلالية الجامعة) يجير إلى غير معناه المجدي لدينا، فاستقلالية الجامعات العربية أمرٌ ضروري، وهي إشكالية كبرى بالمعنى السياسي والديني والأيديولوجي، لكن الاستقلالية شيء، والعزلة شيء آخر، ذلك أن الذي نتلمسه، في كليات الجامعات وأقسامها، نمطٌ مخز من الانفصال عن الواقع والحياة وحركية المجتمع، وقد قيل كلامٌ كثير عن أهمية ربط الجامعة بالمجتمع ومتطلباته المستجدة دائمًا، ولا سيما في الاختصاصات العلمية.

من جهتي، أقرأ هذا الربط في (العلوم الإنسانية) على وجه التحديد، من ناحية تمثل الجامعة (علميًا) المنجز الإبداعي القائم على مساحة المشهد الثقافي المحيط، حيث يبدو لي أنه من المؤسف فقدان أقسام اللغة العربية دينامية تلقي النتاج الثقافي الجديد والتفاعل معه أولًا بأول، وإخضاعه لمعايير علمية منفتحة وحرة؛ إذ ليس من الصعب أن نكتشف غياب عشرات الأسماء الإبداعية الكبيرة في سورية والوطن العربي عن مناهج الجامعات ودراساتها العليا وبحوثها الأكاديمية حتى هذه اللحظة.

وفي معظم الأحيان يأتي تسويغ مثل هذا الغياب الفادح أو النفي المنظم للمختلف، والذي له خلفيات أيديولوجية وبيروقراطية، فضلًا عن الضعف المعرفي والثقافي عند التيار النمطي المتكلس والمسيطر في الجامعات، تحت عنوان أن المنجز الإبداعي الجديد أو الراهن يسيء إلى اللغة العربية وآدابها، ولهذا تقف دراسة الشعر -مثلًا- عند أحمد شوقي أو عمر أبو ريشة أو السياب، في حين علينا أن ننتظر، ربما نصف قرن آخر، كي يدرس رياض الصالح الحسين أو بسام حجار أو سركون بولص، في الجامعات العربية مع الأسف.

مما لا شك فيه أن إصلاح الجامعة يحتاج إلى تفكير ثوري شامل للإطاحة بجميع العوامل الكابحة لإطلاق الطاقات، ومما لا شك فيه -أيضًا- أن هذا التثوير مرتبط عميقًا بتحولات البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الوطن العربي، فالإشكالات الجامعية المتناثرة بين المستويين العلمي والإبداعي تمر فعليًا بسؤال الذات والهوية والآخر والاختلاف، وهي الأمور التي تعني أن تثوير الجامعات العربية -معرفيًا وثقافيًا- عملٌ مرتبط جذريًا بقضية التنوير والنهضة والحريات.

شاعر وناقد سوري

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى