أيمن الشوفيصفحات الناس

إعادة إعمار سوريا: الوليمة بدأت/ أيمن الشوفي *

 

 

تنفتح شهيّة الريع الاستثماري على مصراعيها كلّما دنا منها ملف “إعادة إعمار سوريا” ولامست أرباحه المحتملة. يشتهي الجميع حضور تلك الوليمة الدسمة، لكنها ستقتصر على حلقة ضيّقة من المدعوين بدأت تتكشّف مكوناتها مع ظهور المخطط التنظيمي لإعادة إعمار بابا عمرو في حمص، والآخر، بساتين الرازي في دمشق الذي يستعد للعبور نحو مخيم التضامن، ومن ثم إلى مدينة داريا. ذلك، والبلاد لم تخرج بعد من فَمِ الحرب، وكأن براغماتية مكونات الصراع تحثُّ خطاها إلى أشلاء مدنٍ منهكة، تحجز مكاناً لها قبل الآخرين، حيث تضمن الأنقاض المهدّمة ربحيّةً عالية لرأس المال الموظف في إعادة تشييدها. السيطرة على الأرض باتت تعني السيطرة على الاستثمار وعلى أرباحه، وهذا يستنزف الجميع إلى أقصى الدرجات. يعلمون ذلك.. ويرضون به.

على مائدة الإعمار

واقعياً، لم تستبقْ المؤسسة السورية الدولية للتسويق نهاية الحرب حين نظّمت ملتقى لإعادة إعمار سوريا في 24 تشرين الأول / أكتوبر الماضي، دعت إليه أربعين شركة محليّة. ولثلاثة أيام، تباحث هؤلاء بشأن إعمار حمص أكثر من سواها، باعتبارها أهم المدن السورية المنكوبة جذباً لشهية الاستثمار النائم، مهتدين بالمخطط التنظيمي الجديد لبابا عمرو الذي صودق عليه أواخر آب / أغسطس الماضي، وهو يقام على مساحة 217 هكتارا ويضم 465 مقسماً سكنيّاً.

في الخفاء، تتنافس ثلاث شركات خاصة هي LG، و “هيلتي سورية”، وIB، لاجتياز عتبة المناقصات، وإن كان معظمها يتمحور حول إعادة تدوير بقايا الأبنية المنهارة في حمص، وهذا لا يحتاج لانتهاء الحرب، إذ يحمل توظيفاً عالي الربحية يشبه في جدواه الاقتصادية إعادة تدوير النفايات. وهي شركات لا تثير الشكوك والجدل حولها، وقد تكون واجهات لشركات أخرى محليّة أو إقليمية أو دوليّة. اليقظة الاستثمارية لإعادة الإعمار كانت قد استفاقت أكثر حين رصدت الحكومة مبلغ 50 مليار ليرة لتلك المشاريع خلال موازنة العام الحالي 2015، مجافيةً بذلك ما ذهبَ إليه البنك الدولي حين خصَّ سوريا بالمرتبة الأخيرة عالمياً في تقريره “ممارسة أنشطة الأعمال” لعام 2014.

كلفة إعمار سوريا

قدّر البنك الدولي في حزيران / يونيو 2014 كلفة إعادة إعمار سوريا بنحو 200 مليار دولار، وهذا يماثل 1400 ضعف ما رصدته الحكومة لإعادة الإعمار في موازنة هذا العام. ووفق تصورات “لجنة إعادة الإعمار”، فإن 1.2 مليون منزل قد تضرر كلياً أو جزئياً، وأكثر من 5500 مدرسة تهدمت، و60 في المئة من المرافق الصحية أصابها الضرر أو تعطّلت، فيما بلغت قيمة الأضرار التي التصقت بأبنية الجهات العامة نحو 6 مليارات دولار.

لكن كلفة إعادة إعمار سوريا تنخفض وفق تخمينات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) حين تكهنت بأنها تقارب 140 مليار دولار. هناك يعمل عبد الله الدردري نائباً لمدير اللجنة التنفيذي، وهو كان المهندس الميداني لتنفيذ ليبرالية النظام الاقتصادي بين العامين 2003 و2011، ونظّمت “الإسكوا” بإشرافه خلال أيلول/ سبتمبر 2014 ندوة في بيروت موضوعها إعادة إعمار سوريا. ولكن الدردري لم يستطع تسويق الملف لدى النظام السوري. إلا أن الترويج لإعادة الإعمار لم ينضب. فعائدية توظيف رأس المال مرتفعة. مؤخراً زار وفد روسي دمشق، في جولة لم تكن برلمانيّة فحسب، بل بحثاً عن قنوات توظيف المال الروسي في مشاريع إعادة الإعمار القائمة والمرتقبة. لكن أين بدأت إعادة الإعمار في سوريا؟

الدخول من باب المخططات التنظيميّة

يتحدث سكان حيّ التضامن القريب من مخيم اليرموك بدمشق عن مساومات لشراء منازلهم يجريها وكلاء يمثلون شركة “إعمار سورية” التي تملكها وتديرها شركة “إعمار العقارية” في دبي. بصمات الشركة في سوريا لا تزال ماثلة في مشروعها العقاري الضخم “البوابة الثامنة” الذي كلّف نصف مليار دولار. كذلك يتحدث النازحون من مدينة داريا المنكوبة إلى مدينة صحنايا المجاورة لها عن عروض لشراء منازلهم يقدّمها ممثلون عن الشركة نفسها. تركّز شركة “إعمار سورية” الإماراتية نشاطها على جزء من الأراضي التي أتاحها المرسوم 66 لعام 2012 حين أعاد تنظيم المنطقة 101 والمنطقة 102 الممتدة من جنوب المتحلّق الجنوبي إلى الدحاديل واللوان ونهر عائشة، وجميعها مناطق سكن عشوائي. أما الجزء الأكبر من أراضي المنطقتين التنظيميتين، وأهمها الأراضي الممتدة من جنوب أوتوستراد المزّة إلى كفرسوسة، فقد اقتطعتهما شركة “الشام القابضة”.

وفعلياً ومنذ أيار / مايو من العام الماضي، شرعت الدولة بإخلاء نحو 1400 عائلة من أصل 8 آلاف عائلة تقطن منطقة التنظيم 101 الممتدّة من جنوب شرقي المزّة إلى خلف مستشفى الرازي. المنطقة المعدّة لإعادة الإعمار تبلغ مساحتها نحو 214 هكتار، منها 1.8 مليون متر مربع كعقارات سكنيّة، ومليون متر مربع عقارات تجارية واستثماريّة. قسم كبير من أصحاب تلك المساكن قد تهجّر، وهذا يسهّل على السلطة إعادة استملاك تلك المساكن بلا كلفة، وخلال وقت أسرع. وثّقت منظمة “هيومان رايتس ووتش”، مستعينةً بصور أقمارٍ صناعية، مساحة تقارب 41.6 هكتار من الأبنية السكنية المهدّمة في محيط مطار المزّة العسكري، وذلك بين شهري كانون الأول/ ديسمبر من عام 2012 وتموز/ يوليو من عام 2013. ووصفه تقريرها بـ “الهدم الواسع النطاق والمنهجي” معتبراً إيّاه تدميراً غير مشروع لممتلكات المدنيين، وتلك المساحة تعادل فقط خُمس مساحة تنظيم المنطقة 101.

احتمالات أخرى لإعادة الإعمار

“خطة مارشال السورية” مقالة نشرتها مجلة “فورين أفيرز” الأميركية وحظي بقراءةٍ واسعة. الفكرة تمحورت حول تكرار الوصفة التي أعادت إعمار القارة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية بقروضٍ أميركية. ووفق ذلك، توقعت المقالة بأن يكون مشروع إعادة الإعمار هنا مموّلاً من قبل حلفاء السلطة السورية، الروس والإيرانيين والصينيين.

واقعيّاً، فإن ما يُدفع في السياسة يُصرف من الاقتصاد. فروسيا لن تكتفي فقط بعقود التنقيب عن النفط والغاز في الساحل السوري التي بلغت قيمتها الأولية أكثر من 90 مليون دولار، وإيران بعقود توريد الأسمنت إلى مشاريع إعادة الإعمار، باعتبارها رابع أكبر دولة تصنّع الإسمنت في العالم، وتنتج منه نحو 70 مليون طن سنوياً. كلتا الدولتين تتفحصان حصّتهما من المشاريع العقارية لإعادة تعمير المناطق المهدّمة. وترجَّح أسماء شركات ستلعب دوراً أساسيّاً في الاعمار، من بينها الشركة العقارية الإيرانية “إيران بون” التي شيّدت مبنى السفارة الإيرانية الجديدة في أوتوستراد المزّة، ونالت حصّة من إعمار المنطقتين التنظيميتين 101 و102. وحتى لو طمأنت التصريحات الرسميّة لدمشق بأن إعادة الإعمار ستكون بأيادي وبأموال السوريين، فإن مثل هذه التصريحات تظلّ لغةً رومانسيّة فحسب. فالكلفة ضخمة لا يمكن تدبرها محلّياً على أي حال. لذا يرى البعض بأن استخدام شركات عقارية يملكها سوريون في الخليج قد يكون غطاء لرأس المال الإيراني أو الروسي. ومن بين تلك الشركات “كارتل غروب” التي يملكها محافظ حمص السابق إياد غزال ومقرها في إمارة الشارقة، وشركة “البوادي” العقارية التي تمّ إنشاؤها عام 2012، وبحسب تقارير صحافية، فإن محافظ حمص الحالي، طلال البرازي، وهو عرّاب المخطط التنظيمي لبابا عمرو، يملك ربع أسهم تلك الشركة.

دولٌ أخرى تدعم المعارضة السورية مثل قطر والسعودية وتركيا سيكون صعباً عليها قبول الاستئثار الإيراني والروسي بالمشروع الأضخم في المنطقة. ولعل الصراع على الحصص من جسد البلاد المنهك يترجم بمزيدٍ من المواجهات العسكرية، تستمر حتى بلوغ لحظة توازن مستقر قد تسهِّل المساومات، فتحضر قوّة الأمر الواقع لتوزّع الحصص على المتبارين من الدول. فهل يكون “الحلّ السياسي” حينها ممكناً كترجمة آمنة للمصلحة الاقتصادية.

* صحافي من سوريا

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى