صفحات سوريةمازن كم الماز

إعادة اكتشاف الناس العاديين

 


مازن كم الماز

كشفت الثورة السورية عن حالة استهتار عميقة بالناس العاديين , النظام لم ير في السوريين العاديين إلا أشياء يمكنه أن يجوعهم طويلا دون أن يكترث حتى لحاجتهم الأساسية الإنسانية البسيطة , و من ثم أشياء يمكنه ان يقصفها بالدبابات و الهليكوبترات , دون أن يتوقع أي عقاب أو توبيخ حتى , بشار الأسد منزعج لأن وحشية ماهر دفعت أردوغان للتذمر , و إن دون جدوى , يستغرب الجلاد أن يكون للسوريين العاديين أي وزن بالنسبة لأي كان في هذا العالم , الحقيقة أن هذا التجاهل اساسا كان هو ما دفع السوريين العاديين للانتفاض بحثا عن إنسانيتهم المهدورة , عن أحلامهم المسروقة و عن حياتهم التي لم تكن تعني أحدا , لنكن واقعيين يجب أن نقول أن معاناة هؤلاء السوريين لم تستفز أيا كان , الإيديولوجيا أو اللعبة السياسية أو الفكرية أو التجاذبات “الأكثر أهمية” كانت لعبة النخب المفضلة , قبل 18 آذار 2011 لا اليسار و لا اليمين , لا حقوق الإنسان و لا الممانعين كانوا يشغلون أنفسهم بهؤلاء البشر العاديين , كانت كل الأشياء و الأفكار و الأطروحات حالة نخبوية , امتيازات نخبوية , وضعتها النخبة لاستهلاكها هي أساسا و ليس لاستهلاك البشر العاديين …. فهم المثقفون , بما في ذلك المعارضون , الصراع في سوريا على أنه صراع بين النظام و الخارج أو بين النظام و النخبة , الناس لم يكن لهم وزن أساسا و لا دور و لا حتى كيان خاص يستحق أن يفرض نفسه بين النظام و خصومه من النخبة .. لذلك عندما تحرك السوريون العاديون كانت صدمة حقيقية للنظام كما للنخبة , تمكنت النخبة من التصالح مع هذا الحراك ( على عكس النظام الذي ليس أمامه إلا أن يقمع هذا الحراك بوحشية ) لكن على طريقتها فهي تعتقد أن هذا الحراك في الشارع يعني في النهاية أنها ستصبح في موقع النظام الحالي بشكل مبرر هذه المرة لا أنها ستتساوى مع السوريين العاديين , أن هذا الحراك يعني منح الشرعية لمشروعها هي , طالما ليس للناس العاديين ( و لن يكون ) مشروعهم الحقيقي الخاص … صورة أخرى من احتقار الجماهير السورية , جمهور السوريين العاديين , يعبر عنه في وصفهم و إظهارهم على أنهم مجرد كتلة طائفية صماء من لون واحد و أن هذه الصفة هي هويتهم الشاملة الجامعة الأساسية , يعتقد رجال الدين و الشيوخ من كل المذاهب و الطوائف أن الناس العاديين عبارة عن أرقام في حسابهم , أشياء تتقن التصفيق و الترديد و عليها أن تفعل ذلك اليوم بإيمان أكبر و استسلام أكبر و انصياع أكبر ما أن تتوقف عن فعل ذلك للنظام الذي يسحق إنسانيتها , إنهم ينكرون أن يكون هناك هوية أخرى لهؤلاء إلا كونهم سنة أو علويين أو مسيحيين أو ما شابه ذلك , هذا الموقف الذي يصر على اعتبار البشر مجرد أرقام في حساب تلك النخب أو المؤسسات الدينية فقط لا غير ينطوي هو أيضا بطريقته الخاصة على احتقار للناس العاديين , يفترض أنهم ليسوا أكثر من أتباع مخلصين , إما لنخبة ما أو لشيخ ما أو لمؤسسة دينية ما … إن انفجار النضال الذاتي لهؤلاء البشر العاديين في الحقيقة هو الذي يحمل معه الأمل بسوريا مختلفة , هو الذي يحمل معه الأمل بأن تصبح سوريا أخيرا مجتمعا من بشر أحرار و متساوين , لكن بالنسبة للنخب الدينية و غير الدينية فإنها لا ترى في الناس العاديين أية قدرة أكثر من أن يكونوا تابعين أو في أفضل الأحوال كتلة من الناخبين , أكثر ما يمكنهم فعله هو أن يختاروا النخبة التي تستطيع اجتذابهم لينصاعوا بعد ذلك لتلك النخبة الحاكمة , ناس دون هوية إلا التي تمنحهم إياها النخب و دون مشروع إلا ما تقترحه النخب , لكن دون أن يكونوا أبدا على نفس الدرجة مع النخب و رجال الدين و الشيوخ , الخ , سوريا التي يريدون لا يمكن أن تتألف من بشر أحرار و متساوين , رجال الدين و المثقفون و محترفو السياسة لم و لن يعتقدوا أبدا أنهم يتساوون مع هؤلاء الناس العاديين … عندما أقرأ سيرة حياة ستالين و تشاوشيسكو يتملكني الرعب , لقد كان هؤلاء الطغاة “مناضلين” جيدين ذات يوم , اعتقل الأول في فترة الحكم القيصري مثلا و الثاني في فترة الحكم الفاشي في رومانيا , لكن في غضون سنوات قليلة فقط كان الاثنان يمارسان طغيانا مرعبا ضد العمال و الفقراء و سائر البشر في مجتمعاتهم , هذا مرعب , فعندما تكون النخب و المؤسسات القائمة واثقة تماما بصوابيتها كمركز ضروري للمجتمع تكون مستعدة لفعل أي شيء لتفرض مشروعها , أي شيء , و تعمل في نفس الوقت على تحويل مشروعها من إمكان و احتمال قابل للنقد و للموافقة أو للرفض إلى مبدأ ثابت دوغمائي نهائي يؤسس لديكتاتورية ما جديدة … لكن الثورة السورية هزت الكثير من المعتقدات أو المسلمات الدارجة و حتى مطلقة الصحة بين النخب , فالناس العاديون هم من يحررون أنفسهم اليوم من استبداد نظام الأسد , الناس العاديون يفعلون هذا دون توجيه أو أمر من أحد و دون قيادة حقيقية , لا نخبوية و لا دينية و لا شيوعية , يثبت الناس العاديون اليوم أنه لا قمع النظام الحالي بكل بشاعته و لا أي نظام قادم ضروري لاجتماع إنساني آمن و ممكن , لكن ما ينقص الثورة السورية حتى اليوم هو أن يبدأ الناس العاديون بتنظيم أنفسهم بشكل مستقل عن النظام و عن النخب , بحيث ينظموا عمليات الإنتاج و التوزيع و الاستهلاك دون أي استغلال و ينظموا حياتهم بحيث تتخذ كل القرارات في القاعدة , بينهم , و لصالحهم … الشيوعيون التحرريون السوريون و اليسار التحرري السوري الأوسع الذي يريد الشيوعيون التحرريون إقامته في محاولة لتحويل التيار التحرري إلى تيار شعبي مؤثر في الشارع سيستمرون اليوم و غدا بالدعوة إلى و الدفاع عن التنظيم الذاتي المستقل للجماهير و لا يرون أنفسهم في هذه العملية قيادة ما بل مجرد حفازين لعملية يجب أن تكون الجماهير هي الفاعل و المبادر لها , كجزء من تطويرها لوعيها الذاتي و لمؤسساتها التي تعبر عن تنظيمها الذاتي , في شكل مؤسسات مجالسية شعبية حرة دون اية بيروقراطية دائمة أو صاحبة امتيازات , هذا التنظيم ضروري أيضا في مرحلة النضال ضد النظام , في مرحلة الثورة , لكن هذه المؤسسات ليست أيضا شيئا ثابتا , إنها نتاج خبرة الثورات الاجتماعية السابقة و تطويرها بمبادرة الجماهير ذاتها هي ظاهرة طبيعية من ظواهر الحياة نفسها التي تسير إلى الأمام عندما تدفعها الثورات الشعبية إلى الأمام .. يبقى الهدف الأول للجماهير هو هزيمة النظام و إسقاطه , منذ تلك اللحظة فقط سيبدأ البحث الجدي عن حرية حقيقية للسوريين العاديين , استمرار النظام يعني شيئا واحدا فقط , استمرار عبودية السوريين العاديين , نظام الأسد هو نقيض و نفي تحريرهم التاريخي و الاجتماعي و لا بد من إسقاطه قبل الحديث عن آفاق أبعد لحرية الناس العاديين

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى