صفحات الرأي

إعادة الاعتبار لنقد الفكر الديني/ موسى برهومة

 

 

لا تعني الفظائع التي يرتكبها «داعش» وأشقاؤه في القتل وحزّ الرقاب وتدمير التراث البشري، سوى أول «الغيث المالح» في صحراء أيامنا الممتدة من الفقر والجوع والتخلف إلى الاستبداد.

وقياساً على «من يعش رجباً يرَ عجباً» فإننا ننحت «من يعش داعش يرَ الفواحش»، لأن ما نتخيله أمراً غير مسبوق في توحشه، سيغدو مع مرور الأيام والكوارث أمراً عادياً أو مألوفاً، فغاية هذا التنظيم الإثارة وهي منتهى أربه وسدرة منتهاه.

ويغدو من المُهلك حقاً أن نظل متفرجين، لأن ذلك سيورثنا عاهات فوق عاهاتنا وإعاقتنا العقلية والنفسية. لا بد من خطوة «استفزازية» بالمعنى الإيجابي، تهتبل «الفرصة التاريخية» لإعادة الاعتبار لنقد الفكر الديني وروّاده الذين أبصروا، قبل زمان بعيد، ما نحن فيه من حيرة، لو تركنا «السيولة الدينية» تتدفق على عواهنها من دون ضبط فقهي صارم يعمل على رسم خريطة طريق للمسلمين كي يتبيّن لديهم الرشد من الغيّ.

فالذين ينبرون الآن لمكافحة التطرف الديني، واختطاف الإسلام، واحتكار النطق بلسان السماء، هم أنفسهم الذين ساموا العلماء والمفكرين سوء العذاب، وتشويه السمعة، والرمي بالزندقة، والتضييق عبر تفعيل «قانون الحسبة»، فمنهم من قضى نحبه اغتيالاً، ومنهم من سُجن وعذّب، ومنهم من فرّ إلى بلاد «الفرنجة» كي يراود المستحيل في غربته العمياء.

هؤلاء المفكرون والفقهاء المتنوّرون الذين اتهموا بـ «الزندقة» كتبوا فيما نتخاصم ونشتجر حوله من ضرورة نقد الأحكام الدينية، وتطوير المفاهيم الشرعية كي تتناسب مع روح العصر، وهؤلاء هم الذين دعوا في زمن مبكّر إلى وضع السياق النصي في إطاره التاريخي، من أجل فهم الدين على حقيقته، ومعرفة أن حرارة النصوص تختلف وفق بنيانها مواقيتها واستجابة الواقع لشروطها، وهو أمر لا يتعارض، البتة، مع القيم الإيمانية.

نال هؤلاء، مع الأسف، قسطاً وافراً من التعنيف، والطرد من حيز الفضاء العام، وجرى استعداؤهم، مع أن كثيراً منهم تحلى بالبصيرة التاريخية التي كان يمكن أن تنجينا من جحيم القتل المقدس والحرق المقدس وتدمير روح الإنسان باسم تعليمات «اللوح المحفوظ» في قلوب هؤلاء القتَلَة المتوحشين.

إن كان المتحمسون لتنقية صورة الدين مما علق بها من تشوهات، جادين في عزمهم، فعليهم في البدء أن يقرأوا ما حثت عليه تلك الكوكبة النادرة من المفكرين العرب، وغالبيتهم في العصور الأخيرة، وتوطين أفكارهم، وتسليط الضوء على مقارباتهم، وفتح ورشة عمل للأخذ بتصوراتهم واقتراحاتهم السابقة عصرَها، لأن غالبية هؤلاء صدروا عن إحساس عميق بأن فيضان الدين بتفرعاته الفقهية، وانثيالاته الشرعية، وتعدديته غير القابلة للحصر نتيجة تعددية مرجعياتها، ينذر بطغيان المقدس على الحياة المدنيّة، خصوصاً أنهم استدركوا مبكراً أن «الحاكمية» شعار أيديولوجي، وأن «الإسلام ليس ديناً ودولة»، كما جهر بصوته الشجاع الفقيه المعمّم علي عبدالرازق الذي أكد أن «الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام، وأن هذه المسألة دنيوية سياسية أكثر من كونها مسألة دينية، ولم يرد بيان في القرآن ولا في الأحاديث النبوية في كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه».

وينتسب عبدالرازق إلى طائفة كبيرة من المفكرين الشجعان في قديم التاريخ العربي الإسلامي وفي راهنه تمتد من ميراث المعتزلة والمتصوفة وابن رشد، ويتصل ما يقوله بطه حسين، وشبلي شميل، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبدالرحمن الكواكبي، وسلامة موسى، حتى نصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وفهمي جدعان، وأدونيس، وحسن حنفي، وعادل ضاهر، وطه عبدالرحمن، ومحمد شحرور، وحسن الترابي، ومحمود محمد طه، وحسين مروة، وطيب تيزيني، ومحمود أمين العالم، وفهمي هويدي، وعبدالمجيد الشرفي، وعبدالجواد ياسين، وعبدالله القصيمي، فضلاً عن مفكرين إيرانيين كعلي شريعتي وعبدالكريم سروش، ومحمد مجتهد الشبستري، وكذلك المفكر الهندي محمد إقبال، وسواهم من مفكرين كتبوا بغير اللغة العربية، وقدموا قراءات جديدة عالجت التراث الديني برؤية تتخطى النظر التقليدي لهذا التراث.

إلى هؤلاء ومن سار على هديهم يتعيّن أن تتجه بوصلتنا. فلا يفلّ الحديدَ إلا الحديد!

* كاتب وأكاديمي أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى