صفحات سوريةعمر كوش

إعادة التفكير في مشروع عربي جديد


عمر كوش

أظهرت الثورات في كل من تونس ومصر وسوريا وليبيا أن الأولوية بالنسبة إلى شعوبنا هي للقضايا الوطنية والحياتية، بما يعني أن قطاعات واسعة من الناس ثارت على أنظمتها السياسية من أجل الخلاص من الحكم المطلق، وتحقيق مطالبها في العيش بحرية وكرامة وعدالة داخل كل بلد عربي، ولم تطرح القوى التي قادت الثورات أية شعارات قومية، ولا برامج من خلال أجندات قومية، وبالتالي على القوميين العرب، بشكل خاص،أن يعوا ضرورة طرح مشاريع وبرامج ديمقراطيّة وطنية، قابلة للتحقيق على أرض الواقع، وعدم انتظار الوحدة العربية على طريقة انتظار «غودو» صمؤيل بيكيت،

والكف عن الدفاع عن الأنظمة التسلطية، التي تمتطي حصان القومية والممانعة، وترفعها شعارات فارغة دون أي مضمون حقيقي، فيما تمارس أبشع الممارسات القطرية والانعزالية، وتحكم بالإقصاء والتهميش على كل صاحب رأي مختلف.

في المنظور الجيوسياسي، وعلى مدى العقودالأخيرة، نجد أن في المنطقة ثلاثة مشاريع تتنافس وتتصارع من أجل السيطرة عليها، والتحكم فيها، سياسيا واقتصاديا وثقافياً، وهي: المشروع الإسرائيلي الصهيوني، والمشروع الإيراني، والمشروع التركي.

أما الدول العربية، فلم تملك سوى مشاريع أنظمة حكم مطلقة، تهتم بأمنها وضمان بقائها في السلطة إلى الأبد، لذلك غابت مشاريع بناء اقتصاد وطني تكاملي، وغابت أصوات الرأي العام، وغابت كذلك أدوات التأثير والتعبير الشرعي للقوى الحيّة للشعوب العربية، ومع ذلك، فإن أي مشروع تعاون، وتكامل عربي،في مرحلة ما بعد الثورات العربية، لا يمتلك وجاهته، إن لم تكن نقطة انطلاقه مناهضة المشروع الإسرائيلي، والتعاون مع دول الجوار في إطار المصالح المشتركة المتبادلة.

ولا شك في أن التفكير في مشروع عربي عليه أن يذهب إلى البحث عن ممكنات التعاون والتنسيق بين الدول العربية، بما يضمن حرية الدخول والتنقل بين الدول العربية، وإزالة الحواجز الجمركية، والعمل على تحقيق التكامل الاقتصادي في سياسات الغذاء، والطاقة، والبيئة والتجارة، وبناء شبكة خطوط سكك الحديد وطرق المواصلات بين سائر الدول العربية. والعمل على تحديث المنظومات التعليمية، والتنسيق والتقريب بين المناهج الدراسية، ووضع شروط قبول موحدة في الجامعات العربية.

غير أن الأهم هو التفكير في مشروع سياسي ديمقراطي عربي، في أبعاده النظرية، بوصفه أحد آفاق التحديث السياسي الواسع، في الدولة والمجتمع، وعدم الركون إلى الطابع الأداتي للديمقراطية، بما يعني اقتصارها على الميادين العملية في نظام الحكم، وبما ينفي عنها مركباتها الفلسفية والسياسية، بوصفها الأساس المؤطرة للفعل الديمقراطي. والهدف من ذلك هو أن يكتسب المشروع السياسي الديمقراطي ممكنات إسناد، تاريخية واجتماعية وفلسفية، تسهم في تعزيزه، في سياق من التطور وإعادة البناء، تفضي إلى مراكمة الخبرات والتجارب، مع السعي المتواصل للاستفادة من مختلف الخبرات العالمية. وأعتقد أنه يتوجب على الدول العربية، التي نجحت الثورات وفيها، أن تسعى قواها المنظمة إلى قيام مشروع عربي ديمقراطي، يرتكز إلى الديمقراطية المترابطة مع العدالة الاجتماعية، بوصفهما لبنة البناء، التي تضمن مختلف الحريات، الفردية والجماعية، وتقلص الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتتيح لمختلف أبناء أفراد الشعب أن يتلقوا التعليم المناسب والعلاج المناسب والرعاية الصحية الكاملة، أي أن يعيشوا في ظل دول ديمقراطية تبني سياساتها على العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. ولم يعد ممكنا تصور نجاح ممارسة الديمقراطية، دون تمكين أفراد المجتمع وجماعاته من صناعة تاريخها، ودون إتاحة الفرصة لدور التوافق الاجتماعي والسياسي في ترتيب مجال الاجتماع التعاقدي، وتشييد صرح المواطنة. وهذه جملة من مبادئ عامة، تقف وراء بناء المشروع السياسي الديمقراطي، بوصفها قواعد بناء فضاء العلاقة بين المجتمع والدولة، وتنظم آليات السلوك العامة، ينبغي العمل على تعميمها وترسيخها في مجال تدبير الشأن العام بمختلف تجلياته وتحققاته.

وقد بيّنت التجارب أن الأنظمة العربية الديكتاتورية لم تنجح في بناء دولة لمجموع مواطنيها، بل كان المواطن فيها يشهد – وهو عاجز وحزين -عمليات تفتيت دول عربية أو تقسيمها فدراليا، كما في حالات العراق والسودان والصومال واليمن. ولم تبنِ الأنظمة مؤسسات مدنية اجتماعية واقتصادية وثقافية، قادرة على استبدال المؤسسات التقليدية والأهلية القائمة، مثل العشيرة والطائفة والعائلة وغيرها.

وترافق الفشل في تأسيس دولة المواطنين مع تغير كبير في وظيفة الدولة التعاضدية والتكافلية المباشرة، وجرى تشويه الانتماءات ما قبل المدنية، وتخريب الجماعات الأهلية من خلال أدلجتها وتسييسها واستزلامها، فضلا عن الإقصاء والتهميش لبعض المكونات. ومن الطبيعي أنه حين تتعرض جماعة بشرية للاضطهاد والقمع والتهميش من طرف سلطة طاغية أن ترتد هذه الجماعة إلى نفسها، وأن تبحث في ذاتها عن خصوصياتها، وعن الفروق التي تميّزها عن سواها من الجماعات والتكوينات التي تعيش معها أو تتساكن معها في نفس الأرض والوطن. إن المطلوب هو إعادة النظر في جوهر العلاقة بين السلطات السياسية الحاكمة ومجموع مواطنيها، لأن معظم الأنظمة العربية القمعية حاولت على الدوام القضاء على دور واستقلالية مؤسسات المجتمع المدني في كل بلد عربي، وبالتالي انتفت السياسة، وفقدت الأحزاب والحركات السياسية دورها، بوصفها أدوات للتعبير المنظم عن آراء وقناعات ومصالح جماعات المواطنين، وبوصفها كذلك إطارات لبلورة هويات حديثة تنتظم في فضاء رابطة المواطنة دون أن تنفيها. لذا فإن عملا كبيرا يجب بذله من أجل إعادة الاعتبار للتنظيمات المدنية، كالنقابات العمالية والاتحادات الصناعية والاقتصادية والمنتديات الفكرية والثقافية، والحفاظ على استقلاليته، كي تسهم في توعية المواطنين وجعلهم يسهمون في تخطي حواجز الولاءات ما قبل المدنية المفرقة بينهم، وفي ترسيخ مضامين وقيم عملية لرابطة المواطنة في تفاصيل حياتهم اليومية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى