صفحات الناسعزيز تبسي

إعادة النظر بالشوارع في حلب/ عزيز تبسي *

 

 

لأن صاحبة الصوت توفيت منذ زمن، لم يسمع صوتها الذي كان يرافقه ليحذره، هو العجول دوماً، من تفتت زوايا الدرجة السادسة “انتبه الدرجة السادسة مكسورة” ليجنبه مخاطر الانزلاق على باقي درجات السلم الحجري الدائري للعمارة التي سكنها مع أسرته. المرأة التي ترافقه اليوم حتى باب البيت تبقى صامتة. هي ليست أقل خوفاً عليه من انكسار عظامه والتدحرج على الدرجات التي زادت احتمالاتها بعد أن أمسى الصعود والهبوط في الظلمة التامة، إنما لأنها تعلم أنه لم يبقَ مكان في جسمه لم يتعرض للرضوض والجروح، ولن تزيدها السقطة على هذه الدرجة سوى رضّة مُضافة. فمعظم الطرقات محفّرة، وحفر الأرصفة التي تشكل مكان السير الآمن للمشاة، أشد عمقاً.

هي تخاف عليه من أخطار أعظم لا بد أن تواجهه في حركته اليومية، في تلك الأمكنة الواسعة والشوارع التي تقطعها الحواجز الإسمنتية، حيث الاضطرار للحركة والتنقل.هنا لا أحد ينتبه لنفسه ولا لغيره، كلٌ يضع عينيه في الأرض ويمشي إلى غايته وقدره.

أكياس الزبالة تعلوها قططها، مركونة على جانبي بوابات العمارات وأمام نواصي الشوارع. الطوابير ذاتها أمام الأفران، وطوابير أخرى تقف أمام صهاريج منتظرة، ستجلب في زمن غير معلوم المياه وعبوات الغاز.

بصوت رقيق، يخاطب الرجل المرأة، التي تسير قربه “كفّي عن البكاء، الناس يرون دموعك”، ويتابعان السير المتمهل المتجه في أحد تفرعاته إلى مشفى حكومي، حيث ستتلقى المرأة الباكية علاجاً لمرض مستتر.

تتحلق مجموعة من الرجال والفتيان حول صندوق خشبي، وضعوا فوقه لوازم قهوة الصباح. يسترسلون في الكلام، بعدما وزعوا القهوة على فناجينهم، عن النصابين الذين تتزايد أعدادهم كل يوم، متخذين هيئات مختلفة “لو مدَّ الله قدمه لسرقوا حذاءه”.

تتمهل المرأة التي تحمل حزمة من أكياس النايلون، وتسأل عن الحافلة التي تصل إلى السجن. ينظر العابرون إلى السماء، كأنهم يطردون هذا الاسم المرعب من مخيلتهم: لا نعرف إلا “سجن المسلمية”، لكن ما من حافلات تذهب إلى هناك. السجن، كل مكان مغلق يحمل قابلية التحول إليه، هناك حيث ما انفك السجناء يفنون أعمارهم بين جدرانه، وهم يتذاكرون الحرية، ويعقبون مصائرها.

يستفسر الرجل وابنه الذي يرافقه، عن مركز توزيع السلات الغذائية، وعن الاجراءات اللازمة للحصول على سلة غذائية.. ويتابعان سيرهما بعد تلقي سيول من الإجابات والتوضيحات، لأن هذه الأمكنة باتت معروفة لكل العابرين، وأمسى الإرشاد إلى مواقعها من البداهات.

يتذكرون، وهم يقتربون من الحواجز العسكرية، المقولة الراسخة “خليك طبيعي”، أي لا تظهروا أي تباريح على وجوهكم، أو ارتباك في أياديكم أو تلون في وجناتكم. تأكدوا من وجود بطاقتكم الشخصية، بتمسيدة رفيقة على الصدر حيث تتموضع جيوب قمصانكم.. بغير ذلك تكون مؤشرات على مخالفات تعملون على إخفائها، وتكشف حقيقتكم. لكن ما هي حقيقتهم؟ أناس يمضون لجلب بعض الخضار والخبز لأسرهم، قد يعودون إلى من ينتظرونهم وقد لا يعودون.

علق الصيدلاني على الواجهة الزجاجية لصيدليته، لوحة من الورق المقوى، كتب فوقها “وصلتنا لقاحات مأمونة ضد الكريب”.. وهي سانحة لتذكر مصائر الذين أخذوا، دون علمهم، لقاحات غير مأمونة.

***

يخاطب العسكري زميله العسكري “هسع وين يحطون كريم الثوم ع الفلافل إلا على الشاورما”، “وين يريدون يحطونه” ويرفع صوته بزهوّ للبائع الذي يحضر السندويشات، “كثر لنا كريم ثوم” حاسباً هذه الإضافة اللزجة من غنائم الحرب.

بصوت عال يرد الرجل الذي يرتدي لباسا رياضيا أنيقا على مكالمة الصوت الآتي إلى جواله “بس لا أنا ولا عيالي منعرف نسبح يا خيو، معناتو كان لازم نعمل دورة سباحة مع دورة الألماني”، ويتابع المشي السريع والرد على الأسئلة اللجوجة الآتية من قارة بعيدة.

ينهر صاحب محل الحلويات الولد الواقف أمامه ويطالبه بمغادرة المكان، وحين لا يستجيب يخرج من مكانه ويشده من أذنه ويجره حتى طرف الرصيف. حالما يتعرض أي طفل لمهانة من أحد، حتى تظهر على وجهه تباريح البكاء، تغضن في الجبين، التواء ذابل في الشفتين، التماع مخنوق لدمعة في العينين، إنحناء للجذع لحجب كل ذلك، بعدها يلتفت راكضاً ويقول كلمته الخالدة: “سأشكوك لأمي”.

لكن لا أم اليوم ليهرع إليها ويشكو من إهانة، ولا ذراع تلم تبعثر كينونته، ولا تربيتة حانية من يد دافئة على كتفيه، لتنفض عنه غبار المهانة. يجب العودة إلى القبو المعتم حيث المكان الجديد للإقامة، للإضطجاع بين الأخوة، وإيقاف التسكع في الشوارع، لتشهي الحلويات الساخنة، والانتظار الصبور للمصائر الساخنة للبطاطا.

***

ماتت وداد أيضاً. صورتها الملونة في الزاوية اليسرى من ورقة النعوة الملصوقة على جدار المدرسة، ربما لأنها كانت معلمة. نعوتها وجيزة، لا شجرة لعائلة كثيفة الأغصان تتفيأ تحت ظلالها في هذا الامتحان، وأسرة تبعثرت في بلاد الله. مكان العزاء في بيت الفقيدة. في صالة العزاء حينما ذكروا سبب موتها، تمتم وهو يحدق في السقف العالي، قوتان لمّا نزل عاجزون عن دحرهما وإنتاج مصول مضادة لهما: الاستبداد العربي ومرض السرطان.

وقعت الشوارع في تصحرها، التي طالما كافح أهلها للتفلت منه، الوراء يشبه الأمام واليمين يشبه اليسار، كما هو الحال في القفار. هناك كان الرعاة يهتدون بالنجوم لترشدهم إلى يقين الدروب، وبحمحمة الخيل لتحملهم إلى مناهل المياه، يترقبون في وحدتهم لملمس يرتمي على أكتافهم كدثار من الأشواق، يحملهم خفافاً إلى منازل الأهل.. من القلب استخلصوا عاطفته، ومن الحليب قشدته وزبدته، ومن العزلة الكلام.

وضع أكياس الخضار فوق الرصيف، دلك يديه ليعيد الدم إلى أصابعهما والذي حبسته مقابض الأكياس، رفع عينيه إلى جدار العمارة، قرأ للمرة الألف العبارة المكتوبة بالدهان الأزرق من عام 1968 وحمى ثباتها الزمن: هبط الملاك في بابل، لا تنسوا مشاهدة مسرحيات مسرح الشعب في حلب.

* كاتب من سوريا

السفير العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى