صفحات الرأيياسين الحاج صالح

إعادة بث السحر في العالم/ ياسين الحاج صالح

 

 

تستأنف هذه المقالة التفكير في عالم ما بعد الديموقراطية1، وتنظر في ثلاثة أوجه من إعادة بث السحر فيه، هي المؤامرات والهويات والحقائق البديلة.

السرّ والقتل

في آب من عام 2012 انكشفت في بيروت مؤامرة من تدبير المخابرات السورية، كان بطلها وزير لبناني سابق، ميشال سماحة، وكانت تقضي القيام بتفجيرات إرهابية في لبنان، تستهدف مناطق وشخصيات مسيحية، وتُلصَق بظهر إسلاميين سوريين. لو نجحت العملية لكان مقطوعاً به أن تُنسَب لتنظيم سلفي معروف أو غير معروف. كانت ستُنشَرُ في الصحف تحليلاتٌ تتكلم على الخطر الجهادي في لبنان، ويظهر على الشاشات «خبراء» يتكلمون في أقنية موالية للدولة الأسدية، ومنهم حتماً ميشال سماحة نفسه، عن أن إضعاف الحكم الأسدي في سورية سيتسبب بانتشار السلفية الجهادية في الإقليم كله. وفي الجنازات المحتملة للشخصيات التي جرى اغتيالها كان يُرجِّح أن يظهر سفير النظام السوري في بيروت، وقد يوفد بشار الأسد ممثلاً خاصاً عنه للتعزية، وربما يكون علي مملوك أو بثينة شعبان (وكانت على علم بالمؤامرة). أما خصوم النظام فلن يكون بحوزتهم ما يمكّنهم من دحض خطاب الخوف المتذرع بالإرهاب هذا، دع عنك إظهار فبركة العملية كلها وكشف أهدافها السياسية. وحين يكون قد قُتِلَ للتو شخصيات مسيحية مهمة، ومنها الكاردينال نصر الله صفير حسب الخطة، وفي سياق الصراع السوري الذي كان إطاره الوطني يبدأ بالانهيار وقتها، من هو المستعد، في لبنان وفي العالم، للتشكك في مسؤولية جهاديين متطرفين؟ أو للنظر في احتمال أن تكون العملية من صنع مخابرات النظام الأسدي (وتكوينُها الطائفي معلوم)، وأن القاتل المباشر مسيحيٌ فوق ذلك؟ إن لم يوصف قولُ من قد يقول ذلك بأنه من مروجي نظرية المؤامرة، فإن كلامه سيكون في أحسن حال احتمالاً مشكوكاً بأمره لا يصمد أمام وقائع العملية الإرهابية التي وقعت للتو، المدعومة بسيل من العمليات الإعلامية المزامنة الداعمة، أو يعتبرَ حتى مبرراً للجهاديين، ربما لدوافع طائفية. ولكانت ظهرت تحقيقات صحفية مفصلة في جريدة «الأخبار» تكشف أسرار العملية وطرق تسلل الجهاديين إلى لبنان، ودور خصوم حزب الله في دعم «الإرهابيين» في سورية. ربما خرج حسن نصر الله وألقى خطاباً عن التكفيريين، وأثنى على إيران و«محور المقاومة»، وتحدث عن «الشرف».

ولا يبعد بعد هذا أن يتحمس سلفيون من سورية ولبنان، وقد استفزتهم تعليقات وتصريحات هنا وهناك، وشجعتهم العملية المزعومة التي يفترض أن أشباههم قاموا بها، للقيام بعمليات فعلية تستهدف قطاعات مماثلة أو مغايرة من المجتمع اللبناني.

الخطة التي كانت بتنسيق بين علي مملوك وسماحة، وبعلم بشار الأسد، انكشفت قبل وقوعها. وسُجِنَ بطلها، لعامين ونصف، قبل أن يُفرَجَ عنه، ثم يُعاد توقيفه على نحو غير مفهوم. ولا يبدو أن أحداً أراد استخراج نتائج سياسية منها، مثل أن الحكم الأسدي ورئيسه شخصياً راعيان للإرهاب، وأن النظام مستعد لتفجير لبنان وإثارة صراع طائفي فيه دون وازع من ضمير.

تُرى كم عدد العمليات التي نجحت ولم تكتشف؟ لا نعلم. لكن ليس هناك ضمانة مسبقة بأن نسبة عالية من عمليات من هذا النوع تفشل. وحتى إذا انكشف بعضها بعد حين، مثلما حدث بخصوص اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، فإنه إلى حين الانكشاف تكون صُنِعَت وقائع سياسية وأمنية ونفسية-اجتماعية تجعل الانكشاف محدود الأثر، بل وتشكك فيه. ويبدو اليوم أن الحقيقة في شأن اغتيال الحريري دُفِنَت نهائياً، أو هي فقدت أهميتها ولم تعد لها قيمة سياسية.

ليست مخابرات الدولة الأسدية من الأكفأ بين المخابرات الإقليمية، والدولية. الإسرائيليون والإيرانيون والأتراك، والأميركيون، والروس، والأوروبيون، وغيرهم، يقومون بعمليات إن لم تكن مكافئة من حيث الوحشية، فإن لها مفعولاً تضليلياً كبيراً، دون فرصة لأكثر الناس لتبيّن التضليل. ويبدو أن إقليمنا الشرق أوسطي، الذي يوصف الناس فيه، بأنهم يصدقون نظرية المؤامرة كثيراً، يعرف أكثر من غيره عمليات من هذا الصنف. يغلب أن يكون وصفنا بمصدقي المؤامرات حكماً ماهوياً، يحيل الأمر إلى خصائص غير عقلانية ثابتة لذهننا، خلافاً للعقل العقلاني الذي يميز الناس في الغرب. غير أن هذا الحكم الانتقاصي يفشل، حتى حين لا يكون ماهوياً، في إظهار النواة المعقولة وراء الاعتقاد بكثرة المؤامرات في إقليمنا، ما يمكن تسميته البنية التحتية التآمرية، أعني الطابع السري للسياسات وعمليات صنع القرار في المنطقة، ودرجة متقدمة من تبعية الأقليات الحاكمة المقررة لقوى أجنبية وانفلاتها من أية مساءلة عامة، ووزن كبير للمخابرات في سياسات الدول والإقليم، ومن الامتيازات غير العقلانية لنخب غير مسؤولة، فضلاً عن الحجر السياسي على الجمهور والحجب المعلوماتي. الشرق الأوسط هو الفضاء الجغرافي السياسي الأكثر سرية في العالم من حيث عمليات صنع القرار فيه، والمنطقة الأكثر تدويلاً في العالم، أي التي لا يتشكل تاريخها بصورة أساسية من أفعال وديناميات داخلية. فإذا كانت نظرية المؤامرة اعتقاداً بوجود عقلٍ ما، قديرٍ مستورٍ يُسيِّر الأمور في إقليمنا على نحو ما تسير، فإن عمليات مخابراتية مثل عملية سماحة التي انكشفت تدعم هذا الاعتقاد أكثر من عكسه.

توفّرُ «البنية التحتية التآمرية» أساساً كافياً لنظرية في نظرية المؤامرة، وتجعل منها مدخلاً لا يُستغنى عنه إلى التحليل الاجتماعي والسياسي في الإقليم الشرق أوسطي. لا يلزم أن يكون العقل المستور منظمة ماسونية عالمية، أو «حكماء صهيون» الأجلّاء الذين لا يعلم أحد أين مقرهم، أو حكومة سرية عالمية توجه الدول والحكومات المرئية من وراء حجاب. يكفي أن تكون حكومات وأجهزة سرية متنوعة (ولا فرق جوهرياً بينهما بفعل كون الحكومات خارج المراقبة) تنشط في إقليمنا، وتحرص على حجب عملياتها السرية وتضليل محكوميها وغيرهم في شأن أفعالها وأفعال خصومها، حتى تكون مخاطر العيش في عالم مزور وملعوب به كبيرة. من المرجح أن صورة الواقع الذي ندركه تتأثر بعمليات أمنية وإعلامية ليست مبرأة من حسابات سياسية ومالية (أعطى علي مملوك 170 ألف دولار لميشال سماحة الذي نقل المتفجرات بسيارته من دمشق إلى بيروت)، تتشابك مع حسابات دينية وطائفية. عالم الأرباب والأرواح، والملائكة المؤتمرين بأمرها، ليس غريباً عن عالم الحكم والمخابرات في مجالنا، وفي العالم. والرد على ذلك بأنه حتى لو كان هناك علميات لا نعرفها، فإننا نعرف أن ما هو أساسي في الواقع لا يعدو أن يكون إعلانَ إيمانٍ دوغمائيٍ في مثل هذه الحالة، ربما يسهل الغفلة على أصحابه بانتحال تفكير عقلاني لا ينجرّ وراء «نظريات المؤامرة». وإذا كان صحيحاً، وهو صحيح بالفعل، أن السياسةَ التي كانت مؤامرةُ علي مملوك-ميشال سماحة عنصراً فيها مستمرةٌ وبنجاح مثير للإعجاب رغم فشل الخطة واعتقال بطلها، فإنه لا وجه لاستنتاج أن مؤامرته لا شأن لها. فعدا أننا لا نعرف عن هذه المؤامرة إلا لأنها انكشفت، فإن معرفتنا بالتوجهات العامة لسياسة الحكم الأسدي وحلفائه اللبنانيين عامة وتقديرية، ونحن نعرف أننا لا نعرف الكثير من محركات هذه السياسة وتفاصيلها وتمويلها ورعاتها وعملائها السريين ونظام الثقة الرابط بينهم…، مما لا تستقيم معرفة جدية بالحال السورية واللبنانية من دونه.

الدرس المستخلص من مؤامرة مملوك-سماحة هو احتمال أن هناك الكثير مما لا نعرفه وقد لا نعرفه يوماً، وأن كثيراً مما نظن أننا نعرفه يقيناً مزور، وأن هناك من يتكفلون بأن نرى الأمور في صورة لا تطابق بحال الواقع الحقيقي ومحركاته الخفية. ولعل الأنبه منا بنى تحليلات وأفكار، وربما طور نظريات، مبنية على وقائع جرى إخراجها على نحو بعينه بغرض التضليل. هذا مرعب، لأنه يشكك بصلاحية المعرفة المبنية على أنه ليس هناك أسرار لا تُكتَنَه في الشؤون البشرية، أو أن نصيبها محدود جداً، ويقبل الإهمال.

أتكلم بفعل هذا الواقع على انسحار جديد للعالم، وإن يكن سحر العالم اليوم، وموكب الجن والشياطين والأشباح والغيلان والعفاريت، والآلهة قبل الجميع، من صنع بشرٍ قد لا يؤمن أكثرهم بأي آلهة أو شياطين. كان ماكس فيبر قد رأى في نزع السحر عن وجه العالم، أو إخلائه من الأرواح والأشباح والكائنات الخفية، جوهرَ الحداثة. وأسَّسَ نزعُ السحر لـ «الموضوعية» وللعلوم الإنسانية. الله لم يعد لازماً، ولا كذلك الشيطان والجن والعفاريت والأرواح والحوريات والغيلان، وحشد مهيب من الكائنات التي كانت تتخلل العالم. تحولت هذه إلى فن وقصص شعبي ومصدر للتسلية الجماهيرية، مثلما تحولت أسلحة الحرب القديمة إلى المتاحف.

ليس عالم اليوم مسحوراً على نحو متكافئ، لكن شفافية العالم تتجه إلى التدني في كل مكان مع «الأمننة» (securitization) المتصاعدة للسياسة في كل مكان. وتخرج القرارت التي تتخذها نخب السلطة أكثر وأكثر من الرقابة الاجتماعية، وخاصة في شؤون السياسة الخارجية والعلاقة مع البلدان الأضعف، حيث تبقى المعلومات حكراً على دوائر النخبة السياسية والاقتصادية العليا، ولا تتاح لعامة السكان في أكثر البلدان تقدماً معرفة ما يتجاوز ما توفره لهم وسائل إعلام مرتبطة بتلك النخب من معلومات يشوهها الجهل والانحياز والغَرَض.

الهويات وسياساتها

ويرتبط بهذا الوجه السِّرّاني للسلطة في العالم وجهٌ هوياتيٌ صَعَدَ على نحو ثابت ودونما توقف منذ نهاية الحرب الباردة. يجري تفسير العالم ثقافياً، بهويات وعقائد، بأديان وطوائف وثقافات، بحضارات تتصارع، ويكون الماضي على هذا النحو أباً للحاضر، تحتم المواريث الثقافية الماضية فيه حاضر المجتمعات السياسي والاجتماعي. وما الهويات؟ إنها أرواح خاصة، أشبه بكائنات سحرية من آلهة أو شياطين، تختلف باختلاف القبائل والأمم والثقافات والأديان. وإذ تصير الهويات، أي التعريف الثقافي للمجتمعات أو الجماعات، منطلقات التفسير غير القابلة للتفسير هي ذاتها، فإنه يجري إغفال وقائع السلطة المحلية والدولية، ووقائع الطبقات وأنماط إنتاج وتوزيع الثروة، ووقائع تشكل وتحلل الهويات بالذات في التاريخ بفعل عمليات تماهٍ نشطة أو فاترة أو معاكسة. يغيب بخاصة التشابك بين الهويات والسياسة، أي صراعاتها واستقطاباتها وائتلافاتها وتحالفاتها، وصعودها وانحدارها. وعلى هذا النحو أيضاً تندحر الإنسانيات التي تفسر المجتمعات المختلفة بمنطق إنساني مشترك، يتعين إرهاف أدواته وتعقيد مقارباته في كل وقت، لكنه يقوم على البشرية الواحدة الجامعة للناس فيما وراء اختلاف الثقافات. المسلمون هم كذا، وهم كذا لأنهم مسلمون: غير عقلانيين، تفكيرهم حسي (رينان)، حدودهم دموية (هنتنغتون)، حاسدون للغرب (برنارد لويس)، هناك تعارض جوهري بين الإسلام والعلمانية (لويس ايضاً)، «الاستثناء الديمقراطي» العربي أو الشرق أوسطي سببه الإسلام… إلخ.

أتكلم على المسلمين لأني من عالم الإسلام، ولأنهم أكثرية سكان الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر عالمية وانكشافاً، وسرّية، لكن كذلك لأنه يبدو أن هناك «مؤامرة نظرية» يُروِّجُ لها منذ نحو ربع قرن نظام المعلومات الدولي من وسائل إعلام ومراكز أبحاث، ولها مروجون لا يشكو عددهم من القلة ولا صوتهم من الخفوت في مجتمعاتنا ذاتها، تستثني المسلمين ومجتمعاتهم من الصلاحية الجامعة لمناهج الإنسانيات، وتقترح تفسير أفعالهم وأوضاعهم بمعتقداتهم الدينية، بروح تخصّهم وتميزهم عن غيرهم، اسمها… الإسلام. وتَلقَى هذه المؤامرة النظرية نصرةً غير محمودة مما يقرره الإسلاميون بالذات من خصوصية لا تحوّلٍ للإسلام ومجتمعات المسلمين، ومطالبتهم بحكم هذه الخصوصية استثناءاً لدينهم وأنفسهم، ولمجتمعاتنا، من قواعد مشتركة للفهم والحكم.

هناك اليوم مسألة إسلامية عالمية بفعل التقاء هذه «المؤامرة النظرية» مع البنية التحتية التآمرية، ومع النزعات العنفية للإمبرياليين المقهورين من الإسلاميين الجهاديين. لكن لا يقتصر أمر هذه المؤامرة النظرية على عوالم المسلمين، إنه يتجه إلى التعمم في كل مكان، وفي المجتمعات الغربية ذاتها (تطبيقاً على المهاجرين والأقليات بداية).

ولعقيدة الخصوصيات والحتميات الثقافية أثرٌ مشابهٌ لسرّانية السياسة من حيث أنها تُسرِّبُ كائنات سحرية خاصة وأشباحاً غامضة في الوقائع والممارسات الاجتماعية، أشياء مثل الإسلام ذاته، العقل العربي، الحضارة الغربية، الثقافة اليهودية المسيحية، وما إليها. ثم أن تصرّف الأجهزة السرية كآلهة انتقام تصنع المصائر والحقائق من عالم محجوب غير منفصل عن الهويات وتحاربها وائتلافاتها، على ما يُظهِرُ مثال مملوك-سماحة نفسه. تبدو الثقة التي تقتضيها علاقات الأشباح في عالم الأسرار الأول، المخابرات، في حاجة إلى أساس صلب لا تجده في غير عالم الأرواح الثاني، الطوائف والهويات. الإرهاب هو المدرك الذي تتكثف فيه السرّية والقتل والدين اليوم، على نحو يصلح لوصف أجهزة المخابرات عموماً، والأسدية بخاصة، أكثر من أي تشكيل سلفي جهادي.

ولا ينفتح الاستثناء من الإنسانيات، أي من «العقل»، في غير التأسيس لاستثناء من السياسة والعدالة القائمتين على المساواة، واعتماد الإبادة منهجاً سياسياً. فإذا كانت الجريمة التي يرتكبها المسلم تنبع من إسلامه، على ما يقال في الإعلام الغربي دوماً حين يرتكب مسلمون جرائماً، فالعقاب الصحيح للمسلمين على جرائمهم هو الإبادة. يمهد الإخراج من الإنسانيات للإخراج من الإنسانية، ولسياسة الإبادة دون غيرها.

وعبر تفاعل سرّانية السياسة من جهة مع الدفع بعقيدة الحتمية الثقافية وموكبها من الهويات والنفوس والآلهة والأرواح الخاصة من جهة ثانية، تجري التضحية بإمكانية فهم الإنسان في بيئاته وثقافته المختلفة، وتقوض الأسس الأبستمولوجية للإنسانيات والعلوم الاجتماعية. ما نعرفه إما أنه مزور وغير صحيح، ولا نطمئن إليه كأساس لتفكيرنا وتحليلاتنا، أو أنه خاص وغريب، يحيل إلى خصوصيات لا تقول لنا شيئاً عن الإنسان.

ما بعد الحقيقة

وهذا ميلٌ تسهم في تثبيته المناخات الفكرية لما بعد الحداثة وما بعد الحقيقة، المعادية لاستقلال الحقيقة وللموضوعية، وغير المهتمة ببلورة تصورات حول عالم أكثر عدالة بحجة الاعتراض على السرديات الكبرى المفضية إلى الطغيان.

الملمح الجوهري لما بعد الحقيقة هو محو الفرق بين الحقيقة والرأي، بحيث تكون لكلٍ حقيقته مثلما لكل رأيه، فنفقد على هذا النحو أي معيار للتمييز بين الأقوال، وتصبح كل الادعاءات وجيهة بالقدر نفسه. وهذا بالتوازي مع تحول مركز المعرفة من «الموضوع» إلى «الآخر»، و«الأنا» الذي تتشكل مقابل هذا الأخير تبدو أقل صلابة من «الذات» التي كانت تتشكل مقابل الموضوع.

فإذا كان حكم الحقيقة، سواء باسم الدين أو العلم أو الوطنية، يُعدم الرأي، فيقود إلى الطغيان، فإن الديموقراطية بنيت على ركيزتين: الحق في الرأي من جهة، واستقلال الحقيقة من جهة أخرى. فإذا ألحقت الحقيقة بالرأي نصل إلى مجتمع مجزأ، بابلي، لا يتفاهم فيه الناس، يمكن فيه تقرير أي شيء ونفي أي شيء بالقدر ذاته من الشرعية. والفوضى المتولدة عن ذلك تمهد للطغيان وفقاً لدرس أفلاطوني قديم.

ويرتبط بهذا الشرط ما بعد الحقيقي صعود السرديات وهبوط التاريخ كبحث وكبعد للتفكير والسياسة. أي أيضاً صعود ما هو متمحور حول الجماعة الخاصة على حساب ما هو مضبوط ومتوجه نحو الواقعة ومنضبط بها. السرديات مدخل إلى السحر عبر ارتباطها بالجماعات، وتالياً الأرواح والأشباح والهويات الخاصة. وفي عالم الأرواح اللينة تنتقل العدوى دونما صعوبة أكثر مما في عالم المواضيع الصلبة. الأرواح تغار من بعضها وتنزع إلى تقليد بعضها، ويوسع بعضها ممكنات جميعها. في العربية تشتق كلمات عدوى وعدو واعتداء وتعدّي من جذر واحد. نحن والعدو بيئة عدوى واحدة. وكمثال فإن الغضب الذي كان خاصية إسلامية يبدو اليوم ميلاً عالمياً، وبعد حين قد ينتج منظماته العدمية وحركاته الإرهابية.

وفي عالم مسحور من الأرواح والأشباح والآلهة والشياطين والملائكة تتراجع «الذات» التي تتشكل في مواجهة الموضوع وتنضبط به، وتتقدم «الأنا» المتشكلة قبالة الآخر والحاملة لعدواه. ويبدو أن نزع الصناعة وصعود قطاع الخدمات وتكنولوجيا الكمبيوتر تشجع على هذا التحولات الأزمية. كنا نذهب إلى المجتمع، اليوم بفعل الثورة المعلوماتية يأتي المجتمع إلينا، وإن على نحو افتراضي. وفي عالم يسوده الفرد المنعزل، يمكن له أن ينتج «حقائق بديلة»، لا تقبل أن تعرض على أي معيار تحقق جمعي.

يقوضُ عالمُ ما بعد الحقيقة المداولة العقلانية والنقاش العام، ويفتح الباب لأن تكون دعاوى ديماغوجيين مساوية في الوجاهة العقلية لنظرٍ متروٍ في الشؤون العامة، إن لم تتفوق عليه. ليست هذه أجواء مناسبة للديموقراطية. والاعتقاد بأنها يمكن أن تكون ملائمة للأفراد والجماعات الصغيرة ضد الكيانات والدول الكبيرة يبدو مضللاً. روسيا البوتينية هي البلد الأنشط تصنيعاً لحقائق بديلة، لعالم كامل بديل، لا تكون الديموقراطية فيها غير خطة للسيطرة الغربية على العالم.

عالم مسحور/ منزوع السحر

عالم اليوم الذي يعود السحر إلى الانبثاث فيه، متولدٌ جزئياً على الأقل عن تناقض عملية نزع السحر عن وجه العالم التي أسست للعلمنة والموضوعية والإنسانيات. بينما كان يجري نزع السحر من العالم الاجتماعي في بلدان الغرب الرأسمالي، كان يجري الكلام على عقلانية أوروبية خاصة وعلى معجزة أوروبية حديثة وريثة للمعجزة اليونانية القديمة. ماكس فيبر نفسه قدم تفسيراً ثقافوياً للحداثة، فأعاد على هذا النحو السحر إلى العالم الذي كان يقول بنزع السحر منه.

لم تكتمل عملية نزع السحر في أي وقت، والتملك الخاص للعقلانية أضفى الشرعية على عمليات توسع استعماري أوروبي، استنفرت الهويات والأرواح الهاجعة كثيراً أو قليلاً في مجتمعات متعددة، منها عالم الإسلام. هذا فوق أن عملية نزع السحر، أي موضعة العالم، أفضى إلى أزمة بيئة خطيرة تهدد الحياة على الكوكب. الذات التي تكونت عبر إزالة السحر والموضوعية كانت شديدة الأنانية، تتعامل مع البشر كمواضيع، ما اقترن بالاستعمار والعنصرية، وتتعامل بالصورة نفسها مع الكوكب، ما إدى إلى التهاب الأرض، إصابتها بحمى قد تكون مميتة.

إلى ذلك كانت الموضوعية اختزالية دوماً، تهمل أو تهمش الفردي والعارض والفظيع والمجهول والسرّي، ومن هذه الهوامش يعود مقتحماً المتنَ التفكيرُ ما بعد الحداثي وما بعد الحقيقي، فضلاً عن هويات مقموعة. تفترضُ الموضوعية عالماً شفافاً لا أسرارَ فيه. اليوم نتشكك في هذا العالم الهيغلي السائر نحو وعي ذاته في النهاية، نهاية التاريخ. هناك ما يضيع ويُنسى ويموت طوال الوقت، لا تحيط به «معرفة موضوعية»، ولا يبدو مُخزّناً في أي ذهن.

في الوقت نفسه يبدو الانسحار الجديد للعالم معززاً لأزمة نزع السحر وليس رداً عليها، ولا هو شق لدورب جديدة تحمي الحياة والإنسان. الآلهة السرّية التي تتولى القتل والتزوير، وحروب الهويات وسياساتها وثقافاتها، وعالم الحقائق البديلة المضاد للمجتمع، هذه أرواح شريرة، مسالك تحطُّمٍ ذاتيٍ إضافية، سحرٌ أسود.

الأزمة مضاعفة، أزمة نزع السحر وتناقضاتها، وأزمة إعادة بث السحر الأسود، المدمر.

الخروج من الأزمة يقتضي، كاتجاه عام، نزع الأوراح الشريرة، والعمل في الوقت نفسه على إعادة بثِّ روحٍ خيّرةٍ في العالم على نحو يحمي الحياة والأحياء. لكن هذا يعني لا أقلَّ من عالمٍ جديد.

موثع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى