صفحات مميزةمصطفى كركوتي

إعادة تأهيل الأسد/ مصطفى كركوتي

 

 

نعم يجب أن نخاف ويدب الرعب في القلوب ويطغى الحزن على النفوس لأن ثمة من يجهد، في الإقليم وخارجه، من أجل إعادة تأهيل الرئيس السوري بشار الأسد للمشاركة في «ائتلاف» إقليمي، وربما دولي، لمواجهة «الدولة الإسلامية» التي ساهمت دمشق، مع آخرين، في تشكيل ولاّدَتِها «داعش». وها هو ذا وزير خارجيته وليد المعلم يطل برأسه بعد غياب ليحدد ثمن هذه المشاركة: على الولايات المتحدة التنسيق مع حكومة دمشق قبل شن هجمات جوية على أراضي سورية، «وأي شيء خارج هذا (الترتيب) يعتبر عدواناً على سيادة البلاد». وللتذكير، هذا نظام تُقَدَّر «سيادته» في ثلث مساحة سورية وهو مسؤول عن قتل 191369 ضحية غالبيتها العظمى مدنيون وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة في 14 آب (أغسطس) الجاري. بدأ ذلك بقيام جيش النظام وأمنه برد فعل متوحش على انتفاضة شعبية احتجاجية ضد تعذيب صِبْيَة في عمر المراهقة خطوا في آذار (مارس) 2011 على جدران بعض حارات بلدة درعا الجنوبية، شعارات تؤيد ثورات «الربيع العربي».

هذا يحدث والأزمة الدموية في سورية في منتصف عامها الرابع تقريباً من دون أي أفق للخروج منها، بل المرشح لها- مع تقدم «الدولة الإسلامية» على الأرض- أن تستمر وتزداد دمويةً وبشاعةً مع غياب كامل لأي تسوية معقولة ومقبولة في المستقبل القريب. إنها باتت في سجل الحروب والأزمات الأهلية أكثر وحشية وأطولها منذ الحرب العالمية الثانية. في ما عدا الشريط الساحلي الموصول بالعاصمة دمشق، عابراً مدينة حمص بفضل مساعدة ميليشيا «حزب الله» الحيوية، لا سيطرة للنظام على أي جزء آخر من البلاد. فالدولة في خراب مُفْقِر وتراجع يومي بدأ يُقاس بالسنوات، حيث بات ما كان يعتبر اقتصاداً واعداً جزءاً من التاريخ. البنى التحتية والثروات الوطنية تتعرض للتدمير في شكل منظم إذ إن أكثر من نصف سكان سورية يعيشون تحت خط الفقر. وثمة تقارير دولية حديثة تكشف أن مؤشر التنمية البشرية تراجع إلى مستوى ما كان عليه عام 1970. وتقدّر هذه التقارير انه ولو حافظت سورية على معدل نمو وسطي بحدود 5 في المئة سنوياً، فإنها تحتاج لثلاثة عقود كي تستعيد قيمة الناتج المحلي العام الذي كانت عليه عام 2010.

هناك واقع جديد يتشكل في مناطق واسعة في سورية وعبر حدودها مع العراق يحمل معه تهديداً غير مسبوق منذ بدايات القرن العشرين، على المستويين الديموغرافي والجغرافي، بخلق واقع سياسي واقتصادي واجتماعي يقوم على قيم لا يمكن تصنيفها ضمن أي وعي معاصر. فهذا الواقع الذي تتطلب الحيلولة دونه، خيالاً خلاّقاً لا بد أن تكون القوة الفعالة والسريعة أداته الرئيسة. فهذا الواقع يتشكل في مناطق السنّة الممتدة عبر البلدين (سورية والعراق)، لاغياً معه في كل يوم يمضي الحدود المرسومة في عام 1922 إثر هزيمة الإمبراطورية العثمانية على يد القوتين الاستعماريتين الجديدتين، فرنسا وبريطانيا. فهذه المناطق باتت في معظمها من أراضٍ تابعة لدولة «الخلافة» المعلنة.

على عكس رؤساء دول «الربيع العربي» الآخرين، فإن الأسد وأركان نظامه قرروا التصدي لشعبهم مستخدمين سبلاً دموية شتى بما فيها «الكيماوي» لإخماد ثورته السلمية المطلبية.

فقط الأسد الذي اختار المواجهة مع الشعب بدلاً من التصالح لا يزال في قصره، رغم رفضه المدعوم أساساً من روسيا وإيران، إعادة النظر في صياغة الحكم وتشكيلته بعد «فوزه» في انتخابات الرئاسة في مناطق سيطرته، وهو اختار سبيل القتل بشتى الوسائل. وبات موثّقاً كيف ساهمت أجهزته الأمنية في تشكيل القوى الإسلامية المتطرفة لمقاتلة «الجيش السوري الحر» الحديث التكوين، من خلال إطلاق حوالى 3000 «مجاهد» متطرف من سجون سورية لمقاومة المعارضة الوطنية عام 2012. الإعلام الرسمي السوري وغيره من وسائل إعلام في سورية ولبنان صوَّرت منذ بداية الحرب، المعارضة الوطنية «متطرفين موجّهين ومموّلين من قوى أجنبية متآمرة». معروف أن الانتفاضة التلقائية في سورية كانت رد فعل على انتشار الفقر والبطالة في أنحاء شتى من البلاد، وتزايد القهر المستمر منذ أربعة عقود. ومن المحزن الآن أن نلحظ كيف أن ميليشيات التطرف الإسلامي هي التي تقود المعارضة المسلحة في مساحات واسعة من سورية، في حين تنشط المعارضات المعتدلة والمدنية التوجه في الهامش، إما نتيجة عجزها وإما بسبب انحباس الدعم الذي وعدها به الغرب وقوى إقليمية أخرى. هذه المعارضات هي نفسها التي خذلها من وعدها بالدعم والتأييد للوقوف في وجه النظام.

لقد برع النظام في خلق ثقافة الرعب لدى السوريين، لاسيما أقلياتهم المتنوعة من علويين ومسيحيين مشرقيين وكرد وشيعة وإسماعيليين ودروز وتركمان وشركس وأرمن وآشوريين وكلدانيين وسيريان وإيزيديين، وجعلهم يشعرون بأن لا بديل لهم عن «حماية» يقدمها النظام في المناطق التي يسيطر عليها. وفي ظل واقع تهديد المتطرفين الإسلاميين الحتمي، فإن الخيار أمام هؤلاء معدوم تقريباً. فعندما سئل رئيس قساوسة كنيسة الكاثوليك – اليونانية في مدينة حلب المدمرة جان جانبارت في شريط إخباري عرضته «بي بي سي»، هل يتفق مع دعوة الغرب إلى تنحي الأسد، قال: «إذا كسبت الحكومة الحرب فإن ضابطاً في الجيش سيحكم البلاد، وإذا فازت المعارضة ستكون بقيادة «داعش» أو «الدولة الإسلامية»، ولكن في الظروف الراهنة، أنا أفضّل الأسد».

لا شك في أن جانبارت يعكس رأي وشعور قطاع واسع من تلك الأقليات، رغم اعتقاد قوي لدى معظمها بأن البديل الأفضل في النهاية لا بد أن يكون حكومة منـــتخبة بحرية وشفافية في دمـــشق. لكن هناك حقيقة باتت واضحة بوجود توجه قوي لدى المجتمع الدولي، يدعمــه بقـــوة الـــشريك الواعد (الجديد- القديم) للولايات المتحدة في الإقليم، إيران، لإعادة النظر في العلاقة مع الأسد. وزير خارجية بريطانيا السابق، رئيس اللجنة البرلمانية للأمن والتخابر مالكولم ريفكند كتب في صحيفة «إفننغ ستاندرد» قبل إسبوعين: «إنه لمحزن أن يصبح النظام (في دمشق) شريكاً لا يمكن تفاديه، إذا كنا نريد إلحاق هزيمة بالإرهاب».

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى