بكر صدقيصفحات سورية

إعادة ترتيب القوى حول سوريا

 

بكر صدقي

لم يفت المراقبين هذا التزامن بين ثلاثة أحداث مفاجئة حول سوريا، ولا ارتباطها جميعاً بالحرب الدائرة على أرضها. ففي غضون أربع وعشرين ساعة فقط استقال رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، وأعلن عبد الله أوجالان عن نهاية الكفاح المسلح لحزب العمال الكردستاني في تركيا، واعتذر بنيامين نتانياهو إلى أردوغان عن مجزرة سفينة مرمرة الزرقاء. وإذا كان ميقاتي امتنع عن ربط استقالته بالحدث السوري، فقد أعلن نتانياهو ذلك صراحةً بصدد اعتذاره، في حين تحدث أوجالان عن “فهم روح العصر” في إشارة صريحة إلى التحولات الثورية ف

في حركة لا تخلو من الاستعراض، مد الرئيس الأميركي باراك أوباما هاتفه النقال إلى نتانياهو، طالباً منه الاعتذار إلى أردوغان على الطرف الآخر من الخط. أراد أوباما من ذلك إنهاء فتور عمره ثلاث سنوات بين أهم حليفين له في الشرق الأوسط، وجاءت استقالة ميقاتي متزامنة بدورها مع وصف أوباما لحزب الله اللبناني بأنه منظمة إرهابية.

كأن سيد البيت الأبيض أراد، في أول جولة خارجية له في ولايته الثانية، أن يعوِّض عن الصورة الباهتة للقوة العظمى الوحيدة في مواجهة الحدث السوري، بالظهور بمظهر المايسترو الذي يضبط إيقاع لعبة الأمم من حولها. بعيداً عن هذا الاستعراض، ما هي التحولات التي عبرت عنها الأحداث الثلاث؟

تركيا المتورطة في الثورة السورية حتى أذنيها، هي التي شهدت التحولات الأكثر أهمية. كانت الانعطافة الحادة لحكومة أردوغان، منذ بداية الثورة السورية، من حليف لنظام الأسد إلى المتورط الأكبر في السعي للإطاحة به، خطوةً عسيرة على الهضم في تركيا الغارقة في مشكلاتها المزمنة وانقساماتها الداخلية الحادة. فقد قابلت هذه الانعطافة معارضة داخلية قوية على جبهتين كبيرتين: حزب العمال الكردستاني الذي أعاد تموضعه في سوريا، مع بداية الثورة، في صف الأسد وضد حكومة أردوغان، في حين نهضت معارضة علوية – يسارية – علمانية ضدها أيضاً بدوافع متنوعة يجمعها العداء لحزب العدالة والتنمية الحاكم. وإذا كانت العصبية الطائفية تشكل دافعاً مهماً في دفاع علويي تركيا الأتراك والكرد معاً عن نظام الأسد، فقد شكلت نزعة العداء للامبريالية الأميركية وللتيار الإسلامي ذريعة اصطفاف اليسار التركي إلى جانب نظام الأسد وضد الثورة التي رأت فيها “مؤامرة امبريالية ضد النظام المقاوم”. أما التيار العلماني المتمثل في حزب الشعب الجمهوري، فهو يعارض “مبدئياً” كل سياسات الحكومة التي ترى فيها تهديداً لعلمانية النظام السياسي التركي، فضلاً عن قاعدته الاجتماعية التي يشكل العلويون الأتراك قسماً مهماً منها. الخلاصة أن أردوغان دخل معركة الإطاحة بالأسد ويداه مغلولتان في الداخل وقدماه تتعثران باللغمين الكردي والعلوي.

تركيا الطامحة إلى لعب دور امبريالي في محيطها القريب، بدأت تفكيك ألغامها الداخلية بتفاهمها مع أوجالان على تصور مشترك للحل السلمي للمشكلة الكردية. من المفترض أن يؤدي هذا التفاهم إلى إعادة تموضع جديدة للفرع السوري لحزب أوجالان بعيداً عن نظام الأسد، من غير أن يعني ذلك انخراطاً في الثورة ضده. فهو على أي حال استفاد، في السنتين الماضيتين، من انسحاب النظام لصالحه من المناطق ذات الغالبية الكردية في الشمال والشمال الشرقي المتاخمين للحدود مع تركيا، وأصبحت تلك المناطق تحت سيطرته العسكرية. وهكذا ينبئ التحول السياسي للكردستاني بإعادة إصطفاف كبيرة لمصلحة المحور الإقليمي المعادي للأسد، الممتد من تركيا إلى قطر والسعودية، مروراً بإقليم كردستان بقيادة البارزاني والقوى السنية العراقية وقوى 14 آذار في لبنان. تكمن أهمية حزب أوجالان في امتداداته عبر أربع دول منخرطة جميعاً في الصراع الدائر على أرض سوريا، ووجود قاعدة اجتماعية وازنة مساندة له.

أما الاعتذار الإسرائيلي، فهو يعبر عن إرادة أميركية لترتيب أوضاع حلفائها مجدداً في مواجهة محور طهران – دمشق، من موقع القوة المستمدة من الثورة السورية. فهذا المحور الذي انتشى بما حققه في حرب تموز 2006 في لبنان، بعد كبوة طرد القوات السورية منه في أعقاب اغتيال الحريري، ثم استولى على الحكومة في مطلع 2011، تراجع إلى مواقع دفاعية مع انطلاق الثورة السورية، وبلغ اليوم مبلغاً من الوهن سمح للمحور الآخر ببدء الهجوم المضاد. بهذا المعنى يشكل الاعتذار الاسرائيلي لتركيا واستقالة ميقاتي معاً وجهين متكاملين لإعادة تنضيد القوى عبر الإقليم لصالح المحور المتحالف مع الولايات المتحدة ضد محور طهران – بغداد – دمشق – الضاحية الجنوبية.

تتويجاً لكل ذلك جاءت الحملة القطرية المتمثلة في منح مقعد سوريا في القمة العربية لائتلاف قوى المعارضة والثورة السورية، إمعاناً في عزل النظام المتهاوي وخنقه دبلوماسياً.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى