بكر صدقيصفحات سورية

إعادة «فرمتة» المعارضة السورية/ بكر صدقي

 

 

بين مؤشرات صريحة وتسريبات مقلقة، يمضي مصير سوريا والسوريين في النفق الدموي المظلم الذي ارتآه لهم العالم. الرئيس الفرنسي الجديد ماكرون افتتح ولايته بانقلاب صريح على سياسة سلفه في سوريا، بوقاحة لم يسبقه إليها أحد: «نظام الأسد هو عدو للشعب السوري، وليس عدواً لفرنسا» قال. حقاً لا يمكن لعبقرية الانحطاط أن تجترح فكرة أكثر شناعة! وذلك بصرف النظر عن أنها رسمت صورة واقعية لكل السياسة الدولية تجاه المأساة السورية. فنظام بشار الكيماوي هو فعلاً ليس عدواً لأي دولة في العالم، بل هو عدو للشعب السوري وحده. لندع الأبعدين جانباً، ونذكر فقط الأقربين: وزيران من الحكومة اللبنانية بصدد زيارة جزار دمشق، بصفتهما الرسمية، لتنسيق الشؤون «ذات الاهتمام المشترك» بين الحكومتين، منها مثلاً كيف يعيد لبنان الهاربين من جحيم الأسد إليه، ومنها شراء الكهرباء الذي يحرم منه النظام مناطق سيطرته، وضمناً مجتمع مؤيديه.

والحق أن وزن فرنسا في معادلات القوة الدولية قد تراجع إلى حد كبير، ولا قيمة كبيرة لتوجهات الرئيس ماكرون، في سوريا أو غيرها، ما لم تستقو فرنسا بالظل الذي يمكن أن تمنحه لها الولايات المتحدة. وفي سوريا بالذات، لا وزن لأوروبا كلها أمام ثقل الروس والأمريكيين. لكن قيمة تصريحات ماكرون تقتصر على جانبها الدلالي، من حيث أنها ترجمة دقيقة لتوجهات «المجتمع الدولي» بصدد إعادة تأهيل نظام الأسد.

أما الإدارة الأمريكية فهي غارقة في مشكلات البيت الأبيض الداخلية التي من المحتمل أن تنتهي إلى إقالة الرئيس ترامب، بعدما فشل في الانسجام مع المؤسسة الحاكمة كما فشل في ترويضها بما يتفق مع شذوذ مسالكه السياسية غير القابلة للتنبؤ. وما زالت «بلورة» سياسة أمريكية متسقة في سوريا خاضعة للتكهنات والأمنيات. بكلمات أخرى: السياسة الأمريكية في سوريا ترسم يوماً بيوم، أو هكذا يبدو الأمر لأي مراقب من خارج أروقة صنع القرار. لكن ما هو ظاهر، منذ اتفاق هامبورغ الشهير بين ترامب وبوتين حول «خفض التصعيد» في جنوب غرب سوريا، بمحاذاة الحدود مع إسرائيل، هو استئناف لسياسة الرئيس السابق باراك أوباما في تسليم مصير سوريا، «المفيدة» منها على الأقل، لروسيا. روسيا التي أخذت توزع الكعكة السورية «بمعرفتها» على الدول الإقليمية، في سياق تثبيت دورها كبلطجي أول في سوريا وجوارها. فأصبحت موسكو هي محج مسؤولي كل الدول الإقليمية المعنية، بشكل أو بآخر، بالصراعات الدائرة على الأراضي السورية، بدلاً من واشنطن.

ولم يغير الروسي، قيد أنملة، من مقاربته لـ»حل سياسي» مزعوم للمشكلة السورية، بل غيرت كل الدول الأخرى باتجاه التقارب مع الرؤية الروسية، بمن في ذلك المبعوث الأممي ستافان ديميستورا الذي يواصل الضغط على الهيئة العليا للمفاوضات من أجل ترويضها أكثر وأكثر. وإذا صدقت التسريبات التي راجت مؤخراً يبدو أن الهيئة العليا للمفاوضات مقبلة على انقلاب أبيض يطيح برياض حجاب ويأتي بأحمد الجربا بديلاً عنه، مع ضم منصتي موسكو والقاهرة إلى جسم الهيئة. وما يعنيه ذلك، إذا نجحت الدول الضاغطة في مساعيها، من نسف الأساس السياسي الذي قامت عليه الهيئة، باتجاه القبول ببقاء بشار الكيماوي في السلطة «أثناء الفترة الانتقالية».

بصرف النظر عن صحة التسريبات من عدمها، وعلى رغم موازين القوة المختلة لغير مصلحة المعارضة، يبقى أن هذه تملك ورقة قوة لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها، هي رفض التوقيع على صك استسلام لنظام بشار الكيماوي، وهذا هو المعنى الضمني لأي تهاون بشأن بقاء بشار في السلطة ولو ليوم واحد بعد أي اتفاق سياسي مفترض بين النظام والمعارضة.

يقول البعض إن شخص بشار هو مجرد تفصيل بلا قيمة، مقابل تمسك المجتمع الدولي ببقاء النظام، تحت صيغة «مؤسسات الدولة». صحيح أن بشار بذاته تافه كشخص، لكنه مهم جداً لتماسك النظام، إضافة إلى أن بقاءه مع وجود أدلة صريحة على ضلوعه في جرائم حرب، على ما أعلنت عضو لجنة التحقيق الدولية كارلا دل بونتي، يعني القبول بتلك الجرائم وإفلاته، ونظامه، من أي محاسبة محتملة عليها في المستقبل. هذا ما يمكن أن نسميه بإنشاء حل سياسي على أساس إجرامي.

لم يكن الرد السعودي في تكذيب ما نسب إلى وزير الخارجية عادل جبير، في إطار الضغط على «الهيئة العليا» مقنعاً للسوريين، بل كان أقرب إلى تأكيد التسريبات. وحتى إذا كان ما يتم تداوله بشأن احتمال ترئيس الجربا على «الهيئة» من نوع بالونات الاختبار، فهذا يشير إلى توجهات من أطلقوها، لتلمس ردود الفعل من جهة، ولتطبيع فكرة من هذا النوع من جهة ثانية، أي لتمهيد الطريق عملياً أمام الانقلاب الأبيض الذي يراد القيام به على المعارضة السورية.

في السنوات الأولى للثورة السورية، كانت هناك جهات دولية تراهن على حدوث انقلاب داخل القصر على السفاح بشار الأسد، بما من شأنه أن يفتح الباب لحل سياسي يوقف نزيف الدم السوري. ومن أبرز المحطات في هذه المراهنات، ما قيل عن اتصالات بين صهر بشار، آصف شوكت، وفرنسا. ومن المحتمل، وفقاً لهذا السيناريو، أنه تم اغتيال شوكت وزملائه في خلية إدارة الأزمة، بعدما انكشف أمر تلك الاتصالات.

وتمثلت المحطة الثانية في وزير الداخلية غازي كنعان الذي لاقى مصير شوكت نفسه بعدما انكشف «تآمره» على النظام، وفقاً لتعبير بشار الأسد بالذات في تصريحات أدلى بها إلى مجلة مصرية.

ودارت تكهنات مماثلة بشأن إبعاد وزير الدفاع السابق علي حبيب.

كلها تكهنات، وستبقى كذلك إلى حين انكشاف حقائقها يوماً ما. الفكرة هي أن «المجتمع الدولي» الذي فشل في تطويع النظام من خلال انقلاب من داخله، ربما يهيئ اليوم لإجراء انقلاب داخل المعارضة، بهدف تطويعها للقبول بـ»حل سياسي» يدفن كل عقابيل ثورة الحرية والكرامة، ويبقي مجرم الحرب في أعلى منصب في سلطة تقوم فوق أشلاء ما كان يسمى سوريا.

لندع جانباً التوصيف الأخلاقي لحل من هذا النوع، ونطرح السؤال الذي يفهمه «المجتمع الدولي» الذي يقوده أمثال ترامب وبوتين وماكرون: من الذي سيموّل إعادة إعمار ما دمره صبيهم المعجزة في سبع سنوات لتمكينه من حكم سوريا؟

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى