صفحات سوريةنجيب جورج عوض

إعادة قراءة للخارطة: من مع ماذا ولماذا؟


نجيب جورج عوض

كثرت في الشهور الأخيرة من عمر الثورة السورية الأيدي التي تحاول أن تخيط الثوب السوري الجديد وأن تأخذ الأحداث إلى مآلات أخيرة. لم يعد المراقب يستطيع أن يتحدث عن طرف واحد مقابل طرف وحيدٍ آخر. ولم يعد بالإمكان الحديث عن موقف الشعب السوري أو موقف المعارضة أو حتى موقف المؤيدين بعبارات نهائية، أحادية وجمعية على الإطلاق. أثبتت الشهور الأخيرة أن المشهد السوري أعقد من ذلك بكثير وأن خارطة الثورة السورية أكثر تعرجاً وتشعباً وتنويعاً من أي ثورة سبقتها أو ربما ستأتي بعدها في العالم العربي.

إن أردنا أن نعيد قراءة الخارطة السورية في الشهور الأخيرة، يمكن القول أن هناك في الساحة صراعاً بين فضاءين في سوريا: فضاء سوري يريد بقاء النظام وبقاء سوريا الممثلة فيه، من جهة، وفضاء سوري مقابل لا يريد بقاء النظام ولا بقاء سوريا المجسدة بما يصنعه هذا النظام، من جهة أخرى. أتحدث عن فضاءات عوضاً عن أطراف أو جهات، لأنني أعتقد أن المشهد يدعونا لننتبه بتعمق وتأنٍ لحقيقة تجاوز المواقف لأطر «طرف ـ مقابل ـ طرف» أو «جهة ـ ضد ـ جهة» الضيقة والتخصيصية، ولندرك أن ضمن فضاءي الصراع هناك أكثر من جهة وأكثر من طرف على حد سواء. لهذا، الواقع يدعوني للحديث عن فضاءات متصارعة وليس أي شيء آخر. ومن المهم جداً أن نتذكر دوماً أنَّ كلا الفضاءين سوري ومحلي بالمعنى السوسيولوجي والسياسي والبشري، وإن لم يكن جغرافياً، إذ يتواجد أيضاً العديد من أفراد هذين الفضاءين خارج حدود الأراضي السورية، في بلاد المهجر سواء العربية او الأجبنية.

ضمن الفضاء السوري الراغب ببقاء النظام عندنا التنويعات التالية: هناك، أولاً، فريق يدافع بشراسة عن بقاء النظام بكل مفرداته ومكوناته ورموزه، ويريد للنظام أن يدافع عن وجوده بكل الطرق والوسائل والأساليب، مهما كانت لاأخلاقية ولاسياسية ولا دولتية وعنفية وقمعية وانتقامية وقذرة، مقابل بقائه. هذا الفريق هو فريق المستفيدين من وجود النظام والذين يربطون مصيرهم ووجودهم به بنيوياً. هناك، ثانياً، فريق يريد للنظام أن يبقى وأن ينجو من هذه الثورة وأن يحافظ على بقائه في السلطة، ولكن بطرق أكثر حنكة وبراغماتية ودهاء سياسياً من مجرد اللجوء للعنف والقتل والقوة، وإن كان يرى أن تلك الأخيرة أدوات لازمة وضرورية ولكن لخدمة المنطق السياسي والتفاوضي والحسابات البراغماتية. هذا الفريق يربط أيضاً مصيره بالنظام وببقائه، ولكنه يحسب أيضاً نتائج لجوء النظام للعنف والقتل والمواجهة المفتوحة وتداعياتها السلبية عليه وعلى وجوده. ويسأل نفسه: كيف أحافظ على بقاء النظام من دون أن يتحول بقاؤه بالأسلوب العنفي والقمعي والدموي إلى فخ أقع فيه وسلاح ينقلب عليَّ وعلى وجودي في النهاية. وهناك، ثالثاً، فريق من مؤيدي بقاء النظام يتمنى بقاءه لأنه لا يؤمن بأن بديله سيكون أقل ديكتاتورية وقمع وأحادية وهيمنة وسلبية منه. بالتالي، الأفضل بالنسبة لهذا الفريق أن يبقى نظاماً سيئاً نعرفه على أن يأتي نظام جديد يعادله سوءاً، أو ربما أسوأ، ولا نعرفه ولا نعرف كيف نتعامل معه. إلا أنَّ هذا الفريق يعلم أيضاً أن على النظام أن يعقد صفقة ما مع أفرقاء فضاء الرفض لوجوده ويتقاسم معهم كعكة السلطة في البلد، بشكل يضمن بقاءه وعدم استبداله ببديل جديد أشد خطورة ويجعل مناهضي النظام يشعرون بأنه جزء من لعبة السلطة.

على الجانب الآخر، ضمن الفضاء السوري الراغب بتغيير النظام هناك التنويعات التالية: هناك، أولاً، فريق جمهور المواطنين العزل والسلميين، الذين ينزلون إلى الشوارع منذ خمسة عشر شهراً معلنين موقفهم الرافض لوجود النظام ومنادين بالحرية وبسقوط النظام وبرحيل الرئيس وحزبه. هؤلاء هم قلب وعصب الثورة الأصلي والحقيقي والفعلي على الأرض، الذين يعتم عليهم الإعلام العربي والعالمي بشقيه المؤيد لأي من الفضاءين والمعارض لأي منهما على حد سواء. هذا هو فريق الناس الذين يتعرضون لماكينة قتل النظام الغاشمة بصدور عارية وبسلاح واحد وحيد قوامه الكلمة والصوت والقلم. هؤلاء هم الناشطون الثوريون على الانترنت والفيس بوك والمدونات وفي الجامعات والمدارس ومؤسسات المجتمع الأهلي. هؤلاء هم فريق المواطنين الأحرار الذين يعتقلهم النظام ويعذبهم ويقمعهم ويرهبهم بكل الطرق، ويمنعهم من الخروج من أو الدخول إلى سوريا. هؤلاء هم الثورة الحقيقية في سوريا، التي لا تحظى في الحقيقة بدعم أي طرف خارجي، ولا تنطق باسمها جمعاء أي جهة معارضة رسمية داخلية أو خارجية. لا بل إنها تلك الفئة من الثوار التي تتعرض أحياناً لآلة قتل وتهجير وتنكيل وعنف ومعارضة وثورية معينة، يملكها تنويع معارض معين يقف في الفضاء نفسه.

إلى جانب هذا الفريق الثوروي الأصيل والجوهري، هناك، ثانياً، فريق معارض للنظام يتمثل بأجسام معارضة رسمية تريد إسقاط النظام وتغييره كلياً وجذرياً، ولكن بالطرق السياسية والعمل الشعبي العام، وعن طريق الضغط الجماهيري والسياسي الداخلي والعربي والعالمي عليه، لجعله يتنحى ويخرج من معادلة السلطة بأقل الخسائر البشرية والشعبية الممكنة، له ولكل أطراف النزاع بشكل عام. هذا الفريق يتفهم لجوء بعض أطياف الشارع السوري للسلاح للدفاع عن النفس، في قلب صراع دموي وعنفي، مفتوح أشعله النظام وجرّ البلاد إليه. إلا أنه لا يعتقد أن الاضطرار الحدثي لحمل السلاح للدفاع عن النفس يتماهى مع اعتماد السلاح والعنف المضاد سياسة واستراتيجية لتحقيق هدف تغيير النظام. هو فريق يؤمن بأنَّ الحل الوحيد هو حل سياسي براغماتي يبني على معطيات الأرض ويؤسس على تنازلات معينة من كلا الطرفين المتنازعين، للوصول إلى صيغة تؤسس لسوريا جديدة، ولمستقبل سياسي ودولتي لا وجود فيه للنظام الحالي.

ضمن هذا الفضاء الرافض للنظام، هناك، ثالثاً، فريق معارض ذو تنظيمات رسمية يريد إسقاط النظام بكل الوسائل المتاحة. هو يعتقد أن الوسيلة الوحيدة الناجعة والمطلوبة لإسقاط النظام هي باللجوء إلى الحل العسكري، والتعويل على مساعدة قوى الغرب للثورة، عن طريق إما ضرب النظام عسكرياً أو تسليح الثوار ومدهم بكل الوسائل والعتاد اللازمين للانتصار على جيش النظام وقواته الأمنية والتشبيحية. يعتقد هذا الفريق أن الحديد، لا يفله إلا الحديد وأنَّ المجرم لا يمكن التحاور معه، بل يجب تجريده من أدوات القتل بالقوة، لا بل وربما قتله أيضاً، حين يتمنع عن ذلك ويقاومه. يلعب هذا الفريق لعبة إعلامية وتعبوية شعبية وسياسية وعلاقاتية، قوامها تقديم المشهد السوري للعالم على أنه ساحة صراع دموي ومعركة موت أو حياة بين نظام باطش قاتل وشعب مسكين ثائر، يدافع عن شرفه وعرضه بالسلاح ويحارب النظام في معركة طاحنة، وأنَّ هذا الشعب المسكين المناضل يحتاج إلى السلاح والعتاد والمساعدة كي ينتصر في المعركة. أي أنَّ هذا الفريق يختزل المشهد السوري بسيناريو المعركة، ويعطي للعالم الانطباع أن هناك طرفين فقط داخل سوريا: طرف النظام وجيشه، وطرف الثوار وجيشهم، في مشهدية نمطية وهمية اختزالية تبقي في الواقع فريق الثوار المدنيين العزل والسلميين في ظل التهميش القاتم وترسم سوريا على أنها ساحة معركة فقط، لا ساحة ثورة؛ والفرق كبير بين الإثنتين. هذ الفريق يدعم الجيش السوري الحر وجنوده المنشقين عن الجيش النظامي، ويشجع على انشقاقات أكثر وأوسع في الجيش المذكور. وهو فريق مدعوم من تركيا وأميركا وفرنسا والدول العربية التي شهدت ثوراتها الخاصة مؤخراً، بشكل أساسي ورئيسي. وهو يطرح نفسه بديلاً شرعياً وسياسياً للسلطة الحالية.

ثم هناك، رابعاً، فريق معارض يقرأ الثورة على أنها صراع ديني طائفي يستحضر تاريخ قديم عمره أكثر من الف عام من العداوة والبغض والكراهية العمياء بين أتباع المذهب السني والمذهب الشيعي.هذا الفريق لا يعنيه كثيراً منطق إسقاط النظام بحد ذاته لأنه منطق يعطي للصراع بعداّ سياسياً ودولتياً بامتياز، وهذا بعد لا يخدم منطلقات هذا الفريق الدينية وافتراضاته الدوغمائية والإيديولوجية والطائفية. يقرأ هذا الفريق الصراع في سوريا على أنه صراع طائفي بامتياز، وإن لم يكن صراعاً دينياً (فهو لا يعتقد أن عدوه هذه المرة هو المسيحي أو غير-المسلم)، بين أكثرية العالم الإسلامي السنية، التي حُرمَت من حقوقها وُظلِمت وقُمعَت واستُعبَدت في عهد نظام البعث والأسد، وأقلية علوية ذات جذور وخلفية شيعية، هيمنت على الأكثرية وقمعتها وظلمتها واستعبدتها عبر العقود الأربعة الماضية. هذا الفريق يعتبر نفسه في معركة انتقام وثأر دموية مفتوحة مع ممثلي الطائفة العلوية سياسياً، ولا يقرأ الثورة على أنها حراك شعب ثائر ضد نظام قمعي استبدادي (وإن كانت جبهاته الإعلامية تكرر هذه المفردات كجزء من خطابها التعبوي) ولا حتى صراع معارضات سياسية ذات مشروع دولتي معين ضد نظام سياسي مضاد وسلطته الدولتية (مع أنَّ الناطقين باسمه يتواصلون مع ممثلي المعارضات السياسية التوجه ويرددون أيضاً خطاباً سياسياً أعرج باستمرار). هذا الفريق هو الذي يدعم بقوة أعمالاً عسكرية وعنفية مسلحة مضادة في سوريا، وهو الذي يمكن تسميته بالطرف الإرهابي والسلفي والانتقامي. ميليشياته تختلف عن الجنود االسوريين المنشقين عن الجيش الذين شكلوا الجيش السوري الحر (والذي تنسق معه وتشرف عليه المعارضات التابعة للفريق الثالث في هذا الفضاء). وتمويله ودعمه اللوجستي والمعنوي والسياسي يأتي من دول الخليج، مثل قطر والسعودية، بشكل أساسي. ومع أنَّ السلفية ليس لها تاريخ إيديولوجي قديم وفاعل في الساحة السورية التاريخية، إلا أنَّ هذا الفريق هو بدايات زرع بذور هذه السلفية في سوريا القادمة ومحاولة تعميم نموذج الدولة والحكم الأيديولوجي الإسلاموي المتطرف.

مما سبق عرضه، نستخلص أنَّ خريطة المشهد السوري بالغة التعقيد والتنوع وشديدة التطيُّف، لدرجة يصعب معها، بل ولا يجوز، الحديث عن معارضة بعينها أو موالاة بعينها كطرفين في الصراع. باتت تلك المفردات مثل «معارضة» و»موالاة» و»ثورة» غير مفيدة وغير مناسبة للتعبير بشكل موضوعي وشامل ودقيق عن سوريا وما يجري فيها. عندنا في سوريا أطياف من المعارضات وأطياف من الموالاة، والأهم من هذا أن ما لدينا هو أنماط وأطياف من الثورات تجري في وقت واحد، وعلى عدة مسارات متوازية. أحياناً، تتقاطع مسالك تلك الثورات مع بعضها البعض وتتفاعل. وأحياناً تتضارب وتتصادم فتعيق بعضها البعض، لا بل وتؤذي بعضها البعض أحياناً. وأحياناً تخدم مسارات تلك الثورات بعضها البعض وتساعد في مسيرة نجاحها، وأحياناً أخرى، وهذا هو الأسوأ، تضر بعضها البعض ولا تخدم سوى مناهضيها في فضاء الداعمين لبقاء النظام. أحياناً تعطي للمراقب العربي والعالمي انطباعاً بأنها ثورة سلمية شعبية. وأحياناً تجعله يعتقد جازماً أنها حرب أهلية طائفية بامتياز. وأحياناً أخرى تجعله يظن أنها مأساة إنسانية بشرية، فيها نظام يقتل شعبه ويصفيه بشكل جماعي منظم، في مشهد يذكر بالمذابح في دول أفريقيا. أيٌّ من تلك المشاهد لا يمكن أن يلعب دور المعبِّر الوحيد والشامل عما يجري في سوريا. فما يحدث في المشهد السوري هو كل تلك المشاهد على التوازي من دون أن يهيمن أحدها وحده على المشهد. لا حرب أهلية أو طائفية فعلاً في سوريا، ولا مذابح شعبية عامة وشاملة، ولا أيضاً مجرد ثورة سلمية مدنية. في سوريا ثورات وحراكات وصراعات وفرق عديدة تتناحر مع بعضها ضمن فضائها الخاص، ومع الفرق الأخرى ضمن الفضاءين المتضادين.

في ضوء هذه الخارطة وتعقيداتها الهائلة، ليس غريباً أبداً أن لا نشهد موقفاً عالمياً واحداً وموحداً أو تصوراً واضحاً ومحدداً للحل وآفاق الختام في المشهد السوري. ولهذا أيضاً لا يجب أن نستغرب عدم وجود صوت معارض سوري موحَّد وجامع. التنويعات في المشهد السوري ليست تحدياً أو عائقاً. إنها في الواقع البنية الأنطولوجية المكونة للمشهد بحد ذاته. وكل مسعى لاختزال المشهد بطرفين وحيدين فقط أو يدعو لتوحيد المواقف والرؤى ستفشل حتماً، لأنها تطلب ما لا يمكن أن ينسجم مع التركيبة البنيوية والطبيعة المكونة والمعرِّفة لماهية الصراع وعناصره. إلا أن بداية الوصول إلى حل تكمن في قراءة خارطة الثورة السورية بطريقة جديدة وشجاعة ودقيقة تأخذ بعين الاعتبار والجدية التنويعات والتشعبات بين مكونات فضاءي الصراع، وأن لا تتعامل مع تلك التشعبات، والتنويعات على أنها تنويعات شكلية أو مظهرية أو عملانية فقط. يجب على العالم أن يخرج بتصور لحل انطلاقاً من تلك التنويعات ومن تقييمها وتفنيدها بعمق، وليس بالرغم من وجودها أو بمعزل عنها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى