صفحات المستقبل

إعترف أين الفايسبوك؟


فادي ريحان

رفض الصديق الشاعر السوري أن يأتي الى بيروت كي يشارك في أمسية شعرية دعي إليها. قال إن مجيئه الى بيروت سيخضعه الى جلسات مطولة من الاستجواب حين يعود الى دمشق، وسيكون ذلك في المركز الحدودي، الذي لم يعد واضحاً إذا ما كان مركزاً لشرطة الحدود أم للمخابرات، لشدة تأثير المخابراتيين على المركز وتكاثرهم فيه، بل واحتلالهم المكاتب الأساسية منه، وهم هناك الأكثر انشغالاً وتراهم يغلون كقفير نحل كلما مرت جماعة من السوريين العائدين من لبنان الى بلدهم سوريا. يقول الصديق السوري الشاعر إن مركز الحدود السوري يعتبر لبنان جبهة “محاربة” ضد النظام، وأن القادمين من لبنان لا بد لهم علاقة ما بأي “مؤامرة” قد تدبر لإسقاط النظام السوري. فأرباب النظام يعتقدون أن من مصلحة لبنانيين كثر تقويض نظام البعث السوري.

وهو لم يعد يكتب على الفايسبوك أي جملة سياسية، كل ما يكتبه يتعلق بالحب والعواطف والمشاعر الجياشة تجاه إمرأة غائبة دوماً. يقول إنه منذ اعتقل عدد من أصدقائه بسبب ما كتبوه على الفايسبوك دعماً للثورة، بات يخاف أن يبدي رأيه مما يجري، خصوصاً وأنه يعيش في دمشق ولا مفر له الى أي مدينة أخرى خارج سوريا، ويقول إن هذه حال عدد كبير من أصدقائه الشعراء والمثقفين والكتاب الصحافيين ممن يعيشون في داخل سوريا. وخوفه هذا ليس مرده الاعتقال فقط، وهو أصعب من درب الجلجلة لمن يعرف قسوة السجان السوري، بل هو خوف من العقاب الجماعي، فقد ابتكر نظام المخابرات السوري وسيلة فعّالة جداً لدرء المعارضين وهي معاقبة أهاليهم، من أقرب المقربين الى أبعدهم، وهذه وسيلة تنفع لردع المقيمين في سوريا أو في خارجها. ففي كل الأحوال ستتم معاقبة العائلة بأكملها، إما بصرف الموظفين من أعمالهم، وإما بتحرشات يومية من قبيل التحقيق أو الإهانة، وصولاً الى الاعتقال. يقول صديقي الشاعر السوري الشاب، إن الثورة التي تعتمل في نفسه ونفوس أقرانه تخبو قبل تمكنه من التعبير عنها، وأنه يقع في حيرة مقيتة بين أن يكون داعماً للثورة علناً وبصوت مرتفع ومن دون مواربة، وبين أن يحمل همومها في داخله ويكبتها هناك، وغالباً ما ينتصر الخيار الثاني.

والحزن الذي كان في عيني هذا الصديق الشاعر قبل انطلاق الثورة، أي حزن كونه سورياً مجبراً على العيش في ظل نظام فاسد وقامع ومتوحش ولا يقبل بالرأي المخالف. الحزن الذي يأتي من كونه يشعر بأنه مستعبد وبأنه خانع. وهو يعرف أنه كذلك فعلاً لأنه لا يتمكن حتى من رفع صوته بكلمة نقدية ولو بسيطة في مواجهة هذا النظام. هذا الحزن تفاقم بعد الثورة بدلاً من أن يتخفّف. بل تحوّل الى شعور بالحسرة والخوف. يقول هل يمكنك أن تتخيل خليط الحزن والحسرة والخوف؟ إنه مزيج قاتل لا ينفع معه أي نوع من أنواع حبوب المهدئات. يقول، أنظر الى المتظاهرين الشجعان في جميع المدن السورية، وأشعر بأنني غريب عنهم، كأنني لست منهم ولا مواطناً في بلدي مثلهم. أراهم يتظاهرون ويؤلفون الرديات والشعارات التي تعلن بشكل واضح بأن الشعب يريد إسقاط النظام أو إعدام الرئيس، وأنا قابع أمام شاشة التلفزيون أنظر إليهم وأثمّن شجاعتهم، بينما ألملم جبني في داخلي. ولم أستطع أن أشاركهم في ما يفعلون لأنني شاعر ومراقب. المخابراتيون وكتبة التقارير لا يكفون عن مراقبتنا نحن الشعراء، يعتقدون أن الشاعر أعلى رتبة من العامة وأن له تأثيراً يفوق تأثير أولئك، وأن مشاركته العلنية في الاعتراض ستؤدي الى نتائج مختلفة عن تلك التي ستنتج عن عدم مشاركته. لذا فإن المراقبة الشديدة تكون دائماً على المثقفين والكتاب والصحافيين.

سأله أحد الشرطيين في مركز الحدود مرة إذا ما كان يحمل “فايسبوك” في حقيبته. كانت هذه طرفة مضحكة أن يظن الشرطي بأن الفايسبوك هو آلة تحمل في الحقيبة، لكن هذه الطرفة لم تضحكه، بل أنزلت دمعتين من مقلتيه، دمعتان خفرتان ومليئتان بالهزء من النفس. كانت دمعتا الشفقة على هذا الشرطي الذي لا يعرف ما هو الفايسبوك، والشفقة على الذات التي تضطر أن تكون محكومة بحذاء هذا الشرطي الأميّ. “أكاد أشعر بقيود تكبل يدي خلف ظهري” راح يقول، “أشعر بها كأنها حقيقية وموجودة، حتى أني أرى في أوقات مختلفة بعض الدم يخرج من معصمي نتيجة هذه القيود. أشعرني أفقد عقلي”، راح يردد فيما غصة عالقة في حنجرته.

كتب: “رهبة الليل ستجلوها شمس قادمة لا محالة”، هذا أكثر ما أمكنه أن يكتبه عن مشاعره تجاه ثورة أقرانه السوريين. قال إنه يستغرب تظاهر العمال السوريين أمام السفارة السورية في بيروت دفاعاً عن النظام. هؤلاء يبدون في حالة يرثى لها، بؤس يخالط قسماتهم، ويبدو واحدهم وكأنه يأكل كل ثلاثة أيام مرة واحدة، وهم بالتاكيد قرروا المجيء للعمل في بيروت في ما يشبه أعمال السخرة، لأنهم أنهوا دراستهم والخدمة العسكرية في سوريا ثم وبسرعة كبيرة دخلوا الى سوق البطالة الذي يتسع لملايين من الشباب السوري. ثم يردف بأنه يتفهم هؤلاء الذين يسوقهم عدد من المخابراتيين من الورش التي يعملون فيها الى السفارة ويحملونهم صور بشار الأسد لابساً نظارات شمسية تبرز كل ترفعه وتكبره وإنفصاله عن شعبه. يتفهمهم لأنهم مهددون بلقمة عيشهم، وأهلهم في سوريا مهددون في حياتهم. وبعد نفس عميق، يتساءل الصديق الشاعر السوري الشاب عما اذا كان هناك فعلاً نفس مطمئنة وتعود الى ربها راضية مرضية، في بلد كسوريا لا يتواني حكامه عن قتل شعبه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى