صفحات الرأي

إعجاز أحمد مُعرَّفاً العلمانيّة والطائفيّة و… الخفّة المنهجيّة/ حسام عيتاني

 

 

حاسب إعجاز أحمد إدوارد سعيد حساباً عسيراً على الخفة في القفز بين المناهج والمدارس الفكرية. ولامه في فصل «الاستشراق وما بعده» من كتابه «في النظرية»، على تداخل غير مقبول بين مقولات ميشال فوكو وأنطونيو غرامشي ومؤرخ الآداب الكلاسيكية إريك أورباخ.

في رأي إعجاز، من المحال عقد مصالحة بين منهجي فوكو وغرامشي القائمين على ما يسميه فوكو «الانحباس الماركسي ضمن الأبيستيم (النموذج المعرفي) الغربي» من جهة، وعقد مصالحة ثانية بين فوكو وأورباخ بسبب امتداد تفسير هذا الأخير تاريخ الغرب الى الآداب اليونانية، وتشديد فوكو على ارتباط ظهور الغرب الحديث بعصر الأنوار، ومصالحة ثالثة بين غرامشي وفوكو وأورباخ من جهة وجوليان بندا اليميني المتطرف المعادي للطبقة العاملة الذي يعود سعيد إليه تكراراً في «الاستشراق»، لكن إعجاز كرر الأمر ذاته وإن على نحو أبسط في مقالتيه «التمرد والرجعية» و «أم المعارك» اللتين نشرهما في مجلة «فرونتلاين» في 2011 و2014.

فمخطط تدمير الدول المناهضة للهيمنة الأميركية الذي يصوغه إعجاز، يتعارض مع أبسط محددات المصالح الأميركية. ذلك أن الأنظمة المستهدفة تلام، في مكان من نصي الكاتب، على تبنيها سياسات نيوليبرالية، لكن الهدف النهائي من المخطط الأميركي التكفيري هو تخريب هذه الدول وإقامة اقتصادات مرتبطة بواسطة السياسات النيوليبرالية بدوائر العولمة. يستغرب القارئ هنا علة هذه الدورة المفرغة: إذا كان الهدف استتباع الدول العربية التي قامت فيها الثورات للسياسات النيوليبرالية، فما الهدف من إطلاق التكفيريين والجهاديين والسلفيين عليها ما دامت هي نفسها تتبع النهج النيوليبرالي؟

يتساكن في تحليل الكاتب الهندي مستويان أو منهجان في تناول الأنظمة العربية: الأول هو مستوى النظر الى الآليات الاقتصادية – السياسية المحلية التي تشير الى تبنّي أنظمة الاستبداد، بما فيها الأنظمة الممانعة، سياسات نيوليبرالية تتمركز فيها رؤوس الأموال بين أيدي طغمة عسكرية – عائلية من دون أن تبالي بانكماش قاعدتها الاجتماعية وعزلتها عن شرائح واسعة من السكان. والثاني هو وقوف الأنظمة ذاتها ضد التمدّد الأميركي في المنطقة، ما أثار غضب المحافظين الجدد (في عهدي بوش الابن ثم جاء باراك أوباما ليتابع خطتهم) وقرروا إطاحة الأنظمة التي تعارضهم من خلال مجموعة من الشبان الذي تلقوا دورات في «فريدوم هاوس» وما يشبهه من مؤسسات أميركية. ما الهدف من هذا المخطط الرهيب الذي انتهى الى تسليم الإسلاميين السلطة في مصر وتونس قبل إزاحتهم عنها، وإغراق سورية والعراق في حرب طائفية عبر «داعش» و «القاعدة» وغيرهما من حلفاء الغرب وصنائعه؟

تبدو مآخذ إعجاز على تخبّط سعيد في اعتماد حقل دلالي لمقولاته ومنهجه مألوفة جداً عند قراءة تشخيص أحمد الوضع في العالم العربي بعد 2011. فالاعتراض على وضع شاتوبريان واللورد بايرون وهنري كيسنجر في خندق واحد في مواجهة «الشرق»، كان يتطلب من صاحبه إبداء حرص أكبر على الدقة عند تناول العلاقات بين المكونات الاجتماعية العربية وأنظمتها السياسية وتصاعد الاعتراض وصولاً الى انفجار الانتفاضات. وكان من الأجدى لمن رفض مزج إدوارد سعيد اللاتاريخي بين أدبيات العصر الكلاسيكي وعصر الأنوار في تناول «الآخر» الشرقي والعربي ومدى عكسها حقيقة هذا الآخر الموضوعية، أن ينتبه الى لا تاريخية مطابقته الغزو البريطاني للعراق في 1914 والغزو الأميركي في 2003، ذلك أنه حذا حذو منقوده في نزع سمة التطور والتبدل عن موضوعه.

ما من دارس متواضع للمنطقة يقبل تشبيهاً كهذا ينطوي على وسم المجتمع العراقي بصفة سكونية لم تتغير على مدى قرن من الزمن. وتتّسع العينان دهشة عند الحديث عن استبدال الأميركيين نظام البعث في العراق، «وهو واحد من أكثر الكيانات السياسية علمانية» (!!)، بالإمارات الطائفية التي ستظلّ ممسكة بخناق بعضها في المستقبل المنظور، ولاعتبار نوري المالكي ديكتاتوراً صنعه الأميركيون ليضيف هذا الاعتبار دهشة على دهشة يصنعها غياب الفاعل الإيراني الذي لا يأتي إعجاز على ذكره مرة واحدة مقابل تعداد فصيح لكل الدول العربية المؤثرة – سلباً – في الثورات العربية.

ومثل كل يساريي العالم الثالث، لم يفت إعجاز أحمد أن يعرج على المسألة الطائفية نافياً أصالة صدورها عن مجتمعات المنطقة وأساليب تفاعلها، وهذه واحدة من أسهل طرق مقاربة اليساريين الموضوع الطائفي. لإثبات ما يذهب إليه، يستند الكاتب الى «عدد كبير من استطلاعات الرأي الوطنية» أجريت بين 2003 و2013 (من دون أن يتبرع بتسمية واحد منها أو الجهة التي أشرفت عليه)، يخلص إعجاز الى أن الجماعات العراقية السنية والكردية والشيعية تؤيد عموماً الدولة المدنية وتنبذ الطائفية، وأن إسباغ التديّن على الدولة جاء مع الغزاة الأميركيين الحاملين معرفة استشراقية تزعم أن المسلمين فائقو التدين وأن قيم السياسة العلمانية غريبة عنهم.

يصعب جدال هذه المعطيات الغامضة المصدر ما دامت منسوبة الى استطلاعات رأي. بل إن إعجاز أحمد يعثر على المصدر الحقيقي لهذه «المعرفة الاستشراقية» المعلية من شأن الطائفية: إنه لبنان. لكن اللبنانيين لا يقلون براءة من السبّة الطائفية عن نظرائهم العراقيين، ذلك أن الاستعمار الفرنسي هو من فرض دستوراً طائفياً جعل من المستحيل قيام حكومة مستقرة أو بنية دستورية علمانية حديثة. عاهتا غياب الاستقرار والبنية الحديثة صحيحتان. لكن كيفية فرض الفرنسيين الدستور الطائفي على لبنان تحتاج عودة مطوّلة الى التاريخ اللبناني والى الحروب الأهلية التي تعصف بلبنان منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر. وهو ما ألّفت عشرات الكتب في شرحه وتفسير ارتباطاته بالتركيبة الاجتماعية الاقتصادية المحلية من جهة، وأثر الأزمة العامة للسلطنة العثمانية من جهة ثانية، ومفاعيل الثورة الصناعية في الغرب من جهة ثالثة، ولا يبدو أن أياً منها وصل الى يدي الكاتب.

لم يتسامح إعجاز أحمد مطلقاً مع افتقار «الاستشراق» الى التناسق المنهجي. وأخذ على إدوارد سعيد إهمال كتابه «تغطية الإسلام» جرائم الأنظمة الإسلامية أثناء تنديده بالتغطية الإعلامية والأدبية للإسلام في الغرب. ورأى أن المستوى المتفاوت للإدانات التي أصدرها الكتّاب المقيمون في آسيا وأفريقيا لفتوى الإمام الخميني بقتل الكاتب سلمان رشدي، عكس ارتباط هؤلاء بالشبكات الإعلامية الكبرى من جهة، وتواطؤهم مع أنظمة بلدانهم وحكوماتها من جهة ثانية. سؤال مشابه يطرح نفسه على إعجاز أحمد وعلى أشباه له في الطيف اليساري العالم ثالثي: ما هي التأثيرات التي تجعلهم يغضّون النظر عن مآسي الشعوب العربية المحكومة من أنظمة لم يعد هناك من يصفها بالعلمانية غير تابعيها وعملائها.

* كاتب وصحافي من أسرة «الحياة».

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى