رفيق شاميصفحات مميزة

إعراب ليس فقط للمبتدئين 3/ رفيق شامي

إلى فلورنس غزلان

 وأمين مارديني

وحسام الدين محمد

لأنهم من الد أعداء الخطابات

ملاحظة عابرة: كتب لي أحد الأصدقاء يهنئني على الإعراب الأخير ” أكل إنسانٌ كتاباً” لأني على حد زعمه “شرّحتُ” هناك شخصية قدري جميل بمِشرَط جراح وكأني تنبأت بإقالته” التي حصلت، أي إعادته من نائب فاعل إلى مفعول به.

أولاً: الأدب الساخر إما ان يكون جراحة دقيقة عبر مبالغته أو فهو للتسلية فقط والصهصنة (بعامية دمشق الضحك الفارغ). ثانياً: كان لدي جيش جرار من المفعول بهم الذي حولهم النظام لنائب فاعل ليركلهم من جديد وأخذتُ قدري جميل لأنه من أكثرهم بشاعة فكرية. المقالة نشرت في “كش ملك”  قبل أسابيع من سقوطه لكنها كانت قبل أشهر في المخزن.

إعراب: ألقى القائدُ خطاباً:

ألقى: فعل ماض يبدو بسيطاً، ولكنه بألف وجه ومن يبحث في “لسان العرب: أو “المحيط” يجد أقارب لهذا الفعل لا يصدقها عقل، من إلقاء أي شيء على الأرض إلى إلقاء السلام إلى اللقاء والتلاقي (وهو لغوياً بمعنى القيامة)  والاستلقاء (وهذه المفردة لها مئة وجه). ولسان العرب يشرح على امتداد خمس صفحات كل أفراد قبيلة هذا الفعل. ومن معاني هذا الفعل أيضاً ما لم يعرفه لسان العرب آنذاك مثل: ألقى الشرطي القبض على اللص الصغير (لأنه ولا حتى لواء في الشرطة يُسمح له بلمس اللصوص الكبار)، وفي هذا الاستعمال لفعل (ألقى) تناقض كبير فألقى تعني التخلي عما في اليد، والقبض بمعنى مسكه باليد كما في الجملة المفيدة (قبض الثوار على الشبيح فلان الفلاني). أو قبض علي حيدر أجرة أتعابه من الثوار بالقبض عليه.

وعلى ذمة الراوي كان الفعل عند ولادته في قديم الزمان يمتلك الف عادية واقفة (أو ممدودة كما يسميها البعض) في نهايته كما في مطلعه، لكن ولكثرة ما ألقى العرب من خطابات (بشأن تحرير فلسطين والإسكندرون وإذا بقي عرب لتحرير الأندلس، ليش لا؟)  انطعجت الألف الأخيرة لسقوطها على الأرض (وسميت مقصورة احتقاراً لها وحُكِمَ عليها أن تظل إلى الأبد كَذَنَب أعوج  للكلمات). لكن لماذا تسقط كلمة على الأرض؟ 99% من الخطابات، ونتائج انتخابات الزعماء العرب… إلا صدام النحس فلقد حصل على 100% قبل أن ينهفي.

نعود لموضوعنا، 99% من الخطابات تلقى شفهياً، والكلمات الشفهية كائنات حية لا تعيش طويلاً إن لم تجد أذن صاغية، فهي آنذاك تسقط على الأرض وتهلك، ومن المعلوم ان 99،99 % من الخطابات لا تصل لأذن أحد، فهي ضجيج يولد ويموت هكذا بدون ترك أثر. أو هل من عاقل يريد أن يقول لي إنه تعلم جملة مفيدة من خطابات الزعماء العرب؟

مرة من المرات أخذت ثلاثة خطابات شهيرة لعبد الناصر وياسر عرفات ونايف حواتمة طبعها أتباعُهم حرفاً بحرف، وكأنهم- يخزي العين- ماوتسي دونغ أو لينين، وأمضيتُ أسبوعاً بسادية ماسوخية في تحليل النصوص وحذف ما ورد فيه من تكرار أو خروج عن الموضوع او علاك مصدي لا قيمة له (مثل نكت عبد الناصر، شتائم ياسر عرفات، وجمل نايف حواتمة الفارغة الطنانة كتكراره لكلمات الماركسية اللينينية والصراع الطبقي والبروليتاريا… وكل هذا في دمشق، وبرعاية حافظ الأسد!) فلم يبق من كل خطاب (والذي أمطر به الخطباء برذاذ بصاقهم رؤوس جمهوره لمدة ثلاث ساعات!) سوى صفحات هزيلة يمكن إلقاء محتواها بعشر دقائق.

القائدُ: فاعل دوماً سواء أرادت الجملة (جمهرة من الكلمات أو الناس) أم لا. ومن لا يعجبه ذلك ليشرب ماء البحر. وفي المعجم: قاد الدابة، أي مشى أمامها آخذاً بمقودها. والدواب أذكى من البشر، فهي لا تثق بالإنسان وتتركه يسير قبلها ليواجه بأنفه أي خطر قادم.

قائد البشر يقودهم من الخلف، يختبىء عند الخطر في حلب ويناشد من يقوده أن يتقدم في الجولان (كما فعلت قيادة البعث في حرب 67). ومن يقوده القائد يدعى مُقاد (أو منقاد وهو ما يقال أيضاً في العامية). و(رُبَّ قائد كان للأمس مُقاداً) كأغلب انقلابيي بني يعرب.

والقيادة من الخلف تسمى لغوياً (السَّوْق) فقُوَّادُ جيوشنا سواقون سوقيون ساقوا شعوبنا من هزيمة لهزيمة واحتفلوا بها بدل ان يمارسوا الفن اللطيف “هاراكيري”، بالعكس، القواد العرب هم النموذج الوحيد في العالم الذين يخرجون بعد كل هزيمة منتصرين!

ومن هنا سبب القرب الشديد لكلمة (قائد) من كلمة (قَوَّاد)، ولمن لم يلوث عينيه بمثل هذه الكلمة نشرحها له برفق: القواد هو من يتوسط لقاء مبلغ أو منفعة مادية بين رجل يدعى عادة الزبون وإمرأة مسكينة، فإذا كانت هذه المرأة زوجة القواد يدعى القواد حينها “ديوث” (وتلفظ بعامية دمشق ديوس). والوطن السليب المهزوم أشبه بإمرأة جميلة مسكينة لا حول لها ولا قوة (كما في مجتمعنا يخزي العين عنه وعليه)، والاستعمار الغربي هو الزبون ومن هنا يتبين حتى لطالب ابتدائي (شرط أن يتقن جمع واحد زائد واحد) وظيفة الديكتاتور العربي.

خطاباً: مفعول به، والخطاب لا يأتي فاعلاً ولا مرة في آلاف الكتب بل هو دوما مفعولاً به، ولذلك يحمل فتحتين على رأس ألفه والأصح  قول: المفعول عِبْرِهِ لأن الخطاب أداة للتأثير على الآخرين. والعامة تكره الخطابات لذلك تستعمل التعبير أحياناً بمعنى قنبلة يدوية. مثلا في تعبير: “نسفته خطاب طَيَّرْت له ضبانات مخه”. وقد يكون ذلك لتقارب دوي وجعجعة الخطاب من قرقعة القنابل، فنحن العرب نلجأ لرفع أصواتنا كلما نقصت قناعتنا بالذي نقوله أو أدلتنا على صدق ما نقوله، ومن لا يصدقني ليتفرج مرة واحدة على برنامج فيصل القاسم “الاتجاه المعاكس” والله، لم أُثَنِّها.

والخطاب العربي لا يكتمل إلا إذا هاج المستمعون وماجوا وصفقوا وهتفوا حتى انبحَّ صوتهم. ويحكى أن بشار الأسد ترك أحد الممثلين الذين يشبهونه جدا يلقي خطاباً من شرفة مطلة على ساحة وتنكر ونزل إلى الشارع ليرى شعبه ويسمع ما يحكي عنه.. لاقى الناس تصيح تحت البلكون بصوت عال: “بالروح بالدم نفديك يا بشار” .. قام صفن صفنة طويلة لدقيقتين. فنكشه رجل ختيار بقربه وقال له : “هتوف يا ابني، هتوف، وإلا بياخدوك ع بيت خالتك!” وبيت الخالة تورية للسجن السياسي.

وهذا يدل كم يحب الدمشقيون خالاتهم.

ولكلمة خَطَبَ عدة معان إلى جانب معنى الكلام أو الحديث أمام جماعة من الناس لإقناعهم برأي ما، منها مطلع الرسالة، وأيضاً الشأن، ومنها الارتباط الرسمي بين رجل وإمراة قبل الزواج، ويعني هنا طلب يد (وهو تمويه لما يراد به أكثر من يد) إمرأة من أهلها. ويسمى الرجل خطيب والمرأة خطيبة. وفي هذه الحالة يحاول كل من الخطيب والخطيبة أن يظهر في أفضل صوره أحياناً كخداع تعلمه الإنسان من الحيوان الذي ينفش ريشه كالديك ويصيح ويجول ويصول إلى أن يصل لهدفه من أنثاه… وبينما ينفرد في عالم الحيوان الذكر في التباهي أمام أنثاه يتباهى كل من الرجل والمرأة بألوانهما ليغريا الآخر… لا بل تتجاوز المرأة الرجل بزيادة تبرجها لتلفت نظر الرجل. ويقال إن هذا نتج عن معرفة المرأة أن الرِّجَال قصيرو النظر، والله أعلم.

وقد تكون فترة الخطبة هي الفترة الوحيدة التي تحتوي على بهجة وألوان وأحلام قبل أن تأتي رياح الزواج الباردة… ومن النادر وليس المستحيل دوام أفراح الخطبة وازديادها بعد الزواج لزوال الضغط المفروض على الشريكين…

لنعود إلى موضوعنا. يقال عن الرجل خطّاب كوصف سلبي لمن تكثرُ خطبُه. والخطيب هو وصف من يحسن فن الخطاب.

إعراب الجملة:

الجملة غير مفيدة وهي ضيف دائم يومي على صفحات الجرائد ونشرات الأخبار وهي هنا في الماضي ولكنها ذات صلاحية طويلة المدى ولأني متشائم فيسظل الزعماء يرقعونا بخطاباتهم في الحاضر والمستقبل، والجملة تسمى “جملة غير قابلة للنفي”. أغلب الجمل قابلة للنفي كأن تقول “أصدق فلاناً” أو “لا أصدق فلاناً” أما جملة “لا يلقي القائد خطاباً” فهي محذوفة من كل التراث العربي. وأهم ما في هذه الجملة هي “ال” التعريف وما أدراك ما لهذين الحرفين من تأثير ليس فقط أنهما يحولان رجل نكرة “مو معروف قرعة أبوه منين” إلى رجل معروف بالذات. وبإضافة مَدّة صغيرة فوق الألف يتحول الحرفان إلى قبيلة كقولك آل مخلوف نهبوا البلد وآل خدام طمروا السموم في أرضنا الجميلة وعبد الحليم خرفان ما عاد يعرف وين طمرها. وهو خرفان بشكل أنه يعتبر نفسه معارضة على نمط المجرم رفعت الأسد الذي بدأ أيضاً بالخرف لكثرة ما بلعه من فياغرا فصار الأخ أيضاً (معارضة) ولذلك سيقرر إعادة ما سرقه من خزينة البنك المركزي عام 1985 لبناء حدائق للأطفال شرط أن يحصل مقابل ذلك على عفو لقتله آلاف الأبرياء العزل في تدمر وحماة.

وبهذه الجملة نكون قد خرجنا نهائيا عن الموضوع.

© رفيق شامي

تشرين الثاني 2013

نشر المقال بوافقة الكاتب

موقع كش ملك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى