صبحي حديديصفحات مميزة

“إعلان دمشق”: بيضة القبّان أم المظلة ذات الثقوب؟


صبحي حديدي

 في وسع المرء أن يضع جانباً (مؤقتاً، في الأقلّ، وحتى تتضح حدود الغابة المخفية خلف الشجرة) شراهة معارضي الخارج السوريين إلى عقد المؤتمرات والملتقيات والمشاورات، لتشكيل مجالس وطنية أو إنقاذية أو انتقالية، عُقدت في أنطاليا أو بروكسيل أو إسطنبول أو الدوحة أو القاهرة، وضمّت محاربين قدماء وآخرين انضموا إلى النادي مجدداً، بينهم مَنْ عارض النظام طيلة عقود، ومَنْ كان مقرّباً من دوائر السلطة حتى ساعة انطلاق الإنتفاضة، وبعدها، والآن أيضاً. ليس عجيباً، والحال هذه، أن تنتهي جميعها إلى فشل ذريع معلن، أو آخر ذريع بدوره ولكنه مقنّع، أو الاستعاضة عن الإقرار بالفشل بما هو مزيج من ذرّ الرماد في العيون وقطع الوعود الخلّبية والآمال السديمية.

هذه السيرورة تكفّلت، كما يليق بها أن تفعل منطقياً، بكشف العورات هنا وهناك، وفضح هزال الغابة التي ينتظرها السوريون خلف شجرة هذا المؤتمر أو ذاك، وإسقاط أسطورة “الإجماع” على زيد أو عمرو من “نجوم” تلك الغابة (وهم، في الغالب، صناعة آلة المماحكات على الفضائيات، وليس السجال الحيوي النزيه والصادق، حول مسائل أصيلة وحيوية وملحّة). لكنها، من جانب آخر وثيق الارتباط وجدلي، كانت السبب غير المباشر، بل كانت عند البعض هي أمّ الأسباب المباشرة، في إشاعة خرافتَين: أنّ نجوم الخارج أقدر من سواهم على تمثيل حاجات الإنتفاضة في الداخل، من حيث التمثيل والتنظير والقيادة، وتسطير الدساتير والعهود والمواثيق، وما إلى ذلك؛ وأنّ معارضة الداخل الكلاسيكية، المؤلفة من الأحزاب والمنظمات والنشطاء خارج “اتحاد التنسيقيات” و”لجان التنسيق” والتنسيقيات المهنية المختلفة، ينبغي أن تمتثل للجهود التي يبذلها نجوم الخارج في مؤتمراتهم، تحت طائلة تخريب وحدة المعارضة وتفتيت الحراك الشعبي.

جرى هذا طيّ المسكوت عنه بالطبع، وكان ديدن السلوك الخفيّ للتحركات والمشاورات والمداولات، إذْ أنّ أحداً من النجوم لا يتجاسر على إغفال الداخل أو الزعم بأبوّة متعالية على الانتفاضة، بل كان العكس هو المشاع دائماً وأبداً: أنّ الأصل هناك، ونحن الفرع والامتداد. وتلك حال انتقلت، بالعدوى الفطرية، إلى بعض مبادرات الداخل (مثل “هيئة التنسيق الوطنية” في المقام الأوّل)، فبدا وكأنّ المبادرين لا يعوّلون على قوى الداخل (رغم تفاخرهم بأعداد هائلة من “الأحزاب” المنضوية في صفوفهم)، بقدر ما يتوكأون على بعض نجوم الخارج، أو كلّ ما يمكن حشده من هؤلاء. ولهذا شهدنا، تماماً كما حدث في مهازل إعلان مجالس وطنية وانتقالية وإنقاذية، شكوى بعض النجوم من أنّ الهيئة أضافت أسماءهم دون علمهم، ودون التشاور معهم؛ وأنهم قبلوا على مضض، أو جنحوا إلى الصمت حرصاً على… وحدة المعارضة!

وفي المناسبة، من الحكمة للمرء أن يؤجّل السجال مع “هيئة التنسيق الوطنية”، إلى ما بعد انعقاد ما أسمته “المجلس الوطني الموسع”، بعد أيام، في إحدى ضواحي دمشق، حيث من المقرّر أن تناقش وتقرّ سلسلة من أدبياتها، وتنتخب مجلسها المركزي. سوف يتضح، كذلك، ما إذا كان ماراثون المفاوضات في الدوحة قد أسفر عن تقارب الهيئة مع أية مجموعة محدّدة، أو مع أفراد بعينهم، بحيث يكون انعقاد المجلس مناسبة لانكشاف حجم غابة جديدة خلف الشجرة الواحدة؛ أو أنّ الدوحة ردّت الهيئة إلى سابق مبادرتها الأولى، التي أعلنها حسن عبد العظيم، المنسق العام للهيئة والأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي، أواخر حزيران (يونيو) الماضي. وثمة، في كلّ احتمال، حسابات متقاطعة أو متضاربة تستوجب انتظار الخلاصات التي سينتهي إليها المجلس، ليس أقلّها دلالة أن توافق السلطة على انعقاده في الأساس.

ما هو، في المقابل، جدير بالنقاش هذه الساعة، ولعلّه سوف يطغى كذلك على وقائع الأيام القليلة القادمة، من إعلان اسطنبول أمس إلى انكشاف أسرار ماراثون الدوحة، هو موقف “إعلان دمشق” من مسائل شتى تخصّ الانتفاضة والراهن السوري، مثلما تتصل بمشاريع المجالس الوطنية أو الإنقاذية أو الانتقالية. وليس سرّاً أنّ “إعلان دمشق” صار أشبه بـ”بيضة القبان” في غالبية تلك المشاريع، من حيث ترجيح مقدار أعلى من تمثيل الداخل، أو إسباغ معنى أوضح على مفهوم “الشرعية”، وصارت غالبية المبادرين تراهن على خطب ودّ أهل الإعلان، أو اتقاء الخلاف معهم، في العلن على الأقلّ. وفي هذا جوانب إيجابية بالطبع، لأنها تفضي إلى صيغة تفاعل وحوار أياً كانت عوائقه، من جهة؛ ولكنه ينطوي، من جهة أخرى، على تسليم ضمني بأنّ إطارات المعارضة الكلاسيكية (التي لم تكن أداة انطلاق الانتفاضة في الأساس) هي مرجعيات أولى لتمثيل الانتفاضة، وليس إحدى مرجعياتها (بالنظر إلى أنّ مواقعها في تاريخ المعارضة ترشحها لأن تكون ضمن المرجعيات).

والحال أنّ الإعلان سعى، منذ انعقاد مجلسه في خريف 2005، إلى أن يكون مظلة عريضة لفصائل المعارضة الوطنية والديمقراطية كافة، في مختلف أطيافها اليسارية والقومية والليبرالية والإسلامية، فضلاً عن اجتذاب موشور عريض من المستقلين ذوي المزاج المعارض. فهل ما تزال المظلة على حالها، صامدة بصفتها هذه على الأقلّ، أم اعترتها ثقوب وشقوق شتى تطعن في قدرتها على تأمين ظلّ مشترك للجميع، على نحو الحدّ الأدنى؟ آخر ما يزجّ بهذا السؤال إلى واجهة الاحداث ما أُعلن في اسطنبول، أمس، عن عضوية أنس العبدة (الذي يترأس مجلس “إعلان دمشق” في الخارج) في أحدث طبعات المجالس الوطنية السورية، رغم أنّ الأمانة العامة للإعلان لم تتخذ بعد موقفاً محدداً من مقترحات مجموعة اسطنبول؛ إذْ لا يعقل أنّ العبدة يمثّل جماعته (وهو رئيس “حركة العدالة والبناء”) وحدهم، ولا تشمل عضويته في المجلس الجديد تمثيل الإعلان أيضاً.

ذلك ثقب جديد يُضاف إلى ثقوب أخرى تجلّت في البيان الذي صدر مؤخراً عن قيادة الإعلان، تحت عنوان “أسس عامة لرؤية سياسية لعمل المعارضة الديمقراطية”، وتضمّن عشر نقاط شاملة للمسائل المطروحة على ساحة العمل الوطني إجمالاً، والتي تنسحب أيضاً على حال الإنتفاضة إذْ تدخل شهرها السادس هذه الأيام بالذات. ثمة انحياز إلى ثورة الشعب، وتمسّك بالطابع السلمي للإنتفاضة، ونبذ للعنف أو اللجوء إلى السلاح، وحرص على الوحدة الوطنية، وتكريس جزء كبير من الشعارات للإعراب عن رفض الطائفية والفئوية، والتعويل على اللحمة الوطنية للشعب السوري من أجل إنجاز التغيير. وثمة تشديد على أنّ موضوع وهدف السوريين الآن، والمعارضة جزء مسؤول منهم، هو الانتقال بالبلاد من حالة الاستبداد إلى الديمقراطية، عبر إسقاط النظام الحالي الفاقد للشرعية…

بناء الدولة المدنية الحديثة، يتابع البيان، يتأسس على عقد اجتماعي، ودستور جديد تضعه جمعية تأسيسية منتخبة وتطرحه على الاستفتاء العام، ليكون أساساً لنظامٍ برلماني، يضمن الحقوق المتساوية للمواطنين ويحدّد واجباتهم من دون تمييز قومي أو ديني أو مذهبي، كما يكفل التعدّدية وتداول السلطة واستقلال القضاء وسيادة القانون، واللامركزية الإدارية، واحترام حقوق الإنسان والالتزام بالشرائع الدولية ذات الصلة. ويرى البيان أنّ النظام يعتمد طريقتين للخروج من مأزقه: استخدام أجهزته الأمنية المتوحشة وملحقاتها، وتوريط الجيش الوطني في مواجهة شعبه، وتقطيع أوصال البلاد والمدن، وضرب وحدة الشعب الكيانية من خلال التعامل معه كإثنيات وطوائف؛ والطريقة الثانية هي تشتيت القوى المعارضة، والمناورة لتخفيض سقف طروحاتها، وإشغالها بمسائل متشعبة ومبادرات مرتجلة تنتج عنها مواقف متعارضة.

وإذ يقرّ البيان بضرورة عقد مؤتمر وطني سوري في المستقبل، يتولى بحث آليات الانتقال وتشارك فيه القوى المعارضة وممثلو الشعب، فإنّ عبارة “بما في ذلك مَنْ يقبل من أهل النظام، ولم تتلوث يداه بدم السوريين أو بالفساد” تعيد المرء إلى عاقبة الثقوب في المظلة، فلا تفوح منها نبرة التنطّح إلى تفصيل غير مطروح أصلاً فحسب، بل تبدو متكلفة وجوفاء، لكي لا يرى المرء فيها دغدغة لشريحة من “أهل النظام” لا يعلم احد أين تقع، أو كيف ولماذا لم تتلوّث بدماء السوريين. ثقب آخر هو العبارة التي تقول: “وسيتحقق هذا [أي الانتقال إلى دولة ديمقراطية حسب المعايير الدولية المعروفة] حين يقتنع النظام بأنّ الشعب هو مصدر كل شرعية، وهو مَنْ يحدد موازين القوى”. هل ينتظر الإعلان من النظام أي “اقتناع” بهذا، في أي وقت قريب؟ وماذا سيفعل النظام، إذا وقعت المعجزة فـ”اقتنع”؟

 ثقب الثقوب، إذا جاز القول، هو التيارات الخلافية التي تتفاعل داخل قيادة الإعلان، لا على نحو تعددي صحّي يجعلها منبع إغناء وثراء، وهذا حاصل جزئياً لحسن الحظّ؛ بل على نحو يزيد الشقة تباعداً، يوماً بعد يوم، ويحيل نقاط الخلاف إلى متاريس للتكتل تارة، أو إلى منابر تعويم غائم للمسائل الملموسة والعاجلة والحساسة تارة أخرى. وليس هذا سرّاً يُهتك، بالطبع، كما أنّ انتهاكه ـ حتى إذا وقع ـ لا يُلحق الأذى بالإعلان وأهله وقيادته، بل هو واجب أمام الشعب، وحقّ للإنتفاضة، وتعبير عن احترام التضحيات المشرّفة التي بذلتها القيادات ذاتها المنخرطة في الخلاف على أيّ نحو.

ذلك ينقذ الإعلان، والمعارضة السورية بأسرها، من مغبة تلك التقديرات الأمنية ـ السياسية، التي آمنت بها أجهزة النظام ذات يوم، وكانت تذهب إلى الخلاصة التالية: إذا واصل “إعلان دمشق” حضوره الهلامي، سياسياً واجتماعياً وإيديولوجياً وثقافياً، عدداً وعدّة وأنشطة، كما بدأ في 16/10/2005؛ ثمّ إذا انقلب، أكثر فأكثر، إلى مظلة عريضة (أي: منفلشة، مفلطحة، غامضة، شائهة التكوين…) تدلف تحتها، وتحتمي بها، وتتعطّل معها مختلف تيّارات المعارضة السورية (بما في ذلك مكوّن المعارضة الأمّ والأقدم، “التجمّع الوطني الديمقراطي” الذي تأسس أواخر 1979)، وكفى الله المعارضين شرّ المجابهة… فلا ضرر على السلطة، والحال هذه، ولا ضرار!

ولا ضرر، هنا أيضاً، من استذكار حقبة كان مأمول السلطة خلالها ـ أو على نحو أدقّ: كان مطلوباً ـ من “إعلان دمشق” أن يفاقم عطالة المعارضة السورية، لا أن يرفدها هلى نحو جدّي وملموس، لكي ينشّطها وينتقل بها ومعها إلى طور أرقى في العمل السياسي والمجتمعي والمدني المعارض. وكانت تقديرات السلطة، الأمنية ـ السياسية ذاتها، تذهب إلى أنّ الوقت لن يطول قبل أن يغرق أهل الإعلان في سفسطة نظرية طاحنة بين مكوّنات الإعلان القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية، فتنشب حروب داحس والغبراء حول أولوية مسمّى الأجندة الوطنية (التي لا مناص من أن تخدم “نظام الممانعة والتصدّي” في آخر النهار) مقابل مسمّى الأجندة الديمقراطية (التي تزعج النظام بالضرورة لأنها تضع الاستبداد في رأس المخاطر التي تتهدّد استقلال البلد ووحدته الوطنية)؛ وحول الفارق بين “الديمقراطية الليبرالية” و”الليبرالية الديمقراطية” (نعم، هكذا!)، أو حتى بين “الليبرالية الوحشية” و”الليبرالية الإنسانوية”!

 بيد أنّ الانتفاضة جبّت هذا كلّه، في ما يخصّ قوى المعارضة وقياداتها، فضلاً عن أنساق الاحتجاج ومعنى التغيير الجوهري، فلم يعد مسموحاً لـ”إعلان دمشق” أن يكون بيضة قبّان هنا، ومظلة ذات ثقوب هناك، أو في آن معاً!

 http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\15qpt995.htm&arc=data\2011\09\09-14\15qpt995.htm

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى