صفحات العالم

إفلاس أنظمة الخوف.. حديث القلل المندسة والأصابع الخارجية والأطراف الثالثة


يحيى مصطفى كامل

تذهلني الأنظمة العربية (خاصة السوري والمصري) بمقدرتيهما الفائقتين على الحماقة!…تدهشني بما تلجأ إليه من أساليب مكررة أبداً حد الملل للهرب من مآزق خلقتها بنفسها! …إلا أن أكثر ما يثير العجب المقرون بانعدام التصديق هو عدم إدراك هذه الأنظمة أن العالم يتغير حولهم وأن أجهزة إعلامهم وكتبتهم لم يعودوا مؤثرين كما كانوا من قبل في عالمٍ سماؤه مفتوحة وملأى بالفضائيات؛ عالم ليس بالضرورة أكثر شفافيةً أو صدقاً إلا أن هذه الأنظمة، يقيناً ليست الأعلى صوتاً فيه ولا الأكثر تأثيراً.

أكتب هذا لأعبر عن بضعة ملاحظاتٍ وخواطر بصدد فكرة القلل المندسة والعصابات المسلحة والأجندات الخارجية والأطراف الثالثة وما شابهها من مرادفات في ترسانة الأسلحة اللفظية العتيقة لهذه الأنظمة وهي ما استعملته في أوقاتٍ مختلفة ومتباينة من عمر الثورات التي تعصف بها. يُلاحظ أنه في حين لجأ النظام السوري لفرية ‘العصابات المسلحة’ والقلل المندسة منذ البداية، فإنه أظهر ثباتاً ولم يراوح موقفه كونه ‘نظاماً ممانعاً’ ذا مبادئ بل ورفع هذه الأكذوبة إلى مصاف الأسطورة في الرواية الرسمية وكرسها مشجباً يعلق عليه كل عنفه وإجرامه، مبدياً من انعدام المرونة ما يصلح أن يحاكم عليه بتهمة الغباء ناهيك عن جريمة إبادة شعبه! في المقابل فإن النظام المصري لجأ إليها في البداية ولم تصمد لأن الثورة لم تمهل مباركاً طويلاً فانزلق حديث القلل المندسة والأجندات معه وخفتت ناره بما يعكس مرونة ً نسبية في النظام مقارنةً مع شقيقه السورى… هذا في البداية فقط…لكن لأن النظام ما يزال قائماً في معطياته وانحيازاته الأساسية وبالتالي لم ينفض مفردات خطابه وسيطرته الفكرية القديمة فقد بقيت هذه التهم مخزونة في جعبته ثم رجعت تطل برأسها في صورة اتهاماتٍ لفصائل بعينها بتلقي الدعم المالي من الخارج بما يفيد بعمالتها ويصب في خانة حرق رصيدها الوليد عند الجمهور وتخوينها، ومن الملفت أنه روعي في حملة التشويه تلك تصويب السهام إلى الفصائل الأحدث في العمل السياسي والتي يشكل الشباب عمادها لسببين في رأيي: أولاً لأنهم الأكثر تشبثاً بالثورة مستميتين في الدفاع عن مطالبها واستمراريتها واقفين في وجه العسكر وثانياً لأنهم بفعل حداثتهم في العمل السياسي وصغر سنهم النسبيين أطرى عظاماً وغير ذوي شوكة إذا ما قورنوا مثلاً بالأحزاب الدينية بما يمكن من استهدافهم والنجاح في إيذائهم خاصةً إذا أضيف إلى تلك الحملة تشنيعٌ وتهم تنال سلوكهم الأخلاقي في مجتمعٍ محافظٍ في المجمل كالمجتمع المصري.

لم يقف الأمر عن هذا الحد، فقد جد تطويرٌ في الأداء في البلدين…فقد أكسبا تهمهم المختلقة بعداً تصويرياً شيقاً ولنقل غرائبياً لا يدل سوى على الإفلاس وإن كان لا يخلو من الفكاهة! تجلى ذلك في الصور التي لجأ لها وليد المعلم في مؤتمره الصحافي لقتيلٍ يمثل به مدعياً انتماءه للأمن السوري وأنه سقط قتيلاً على يد الثوار ثم تبين فيما بعد أنها لأحداثٍ تتعلق بخلافاتٍ شخصية دارت في وقتٍ سابق في بلدٍ آخر! ولأن الاقتباس مشروعٌ في الإبداع فقد لجأ النظام المصري إلى حيلةٍ مشابهة حيث أذاع صورةً لمخزن اسلحة مدعياً تبعيته لحركة 6 ابريل ثم تبين أن هذه الصورة مسروقة من موقعٍ أو جريدة سورية كانت تحاول إثبات تهمة التسلح على الثورة السورية! …و نعم التعاون بين الأشقاء! وأخيراً (وبالتأكيد ليس آخراً…) أنشأ النظام المصري يوزع في كرمٍ ربما غير مسبوق تهم العمالة والتآمر لإسقاط البلاد في هوة الفوضى لتبرير وتمرير مذبحته الأخيرة للمعتصمين التي فضحته أمام العالم، والأنكى من ذلك والأكثر فكاهةً وعبثاً أن تشاهد التلفاز فتجد صحفياً عضو برلمان ذائع الصيت ومعروف بقربه من أجهزة الأمن يهدد أمريكا بالفناء إن هي حاولت احتلال مصر أو حتى سولت لها نفسها خدش كرامتها واستقلالها…و لا معنى لسؤاله: متى عادت مصر أمريكا في العقود الأربعة الأخيرة؟ ومضيعةٌ للوقت تذكير أمثاله والجمهور بأن النظام المصري طوال هذه العقود كان ترساً في المشروع الأمريكي وصمام أمان له في المنطقة. كل ما سبق يدل على حقيقتين أساسيتين محوريتين: أولا ً أنها أنظمةٌ لا بقاء لها دون الخوف…

أجل! إن هذه الأنظمة التي وصلت إلى سدة الحكم مرتديةً الزي العسكري انحصر مشروعها في البقاء والتمتع بالسلطة والاستحواذ على ثروات البلاد وحرمان وتهميش الشعب من المشاركة في الأسلاب وطبعاً المشاركة السياسية…أنظمةٌ فاقدة الشرعة فشلت في السلم والحرب فلم تجد أمامها سوى التركيز والنجاح في إنجازٍ واحد: خلق الإنسان المفرد الخائف..ذلك الذي لا يعرف العمل الجماعي ويخشاه كما يخشى أجهزة الدولة الأمنية والقمعية ويخشى أيضاً الخارج المتآمر وطرق الحياة المختلفة والأفكار الجديدة وجاره وحتى الحائط ذا الأذنين… إنسانٌ خائفٌ مرتعدٌ من كل شيء..كل شيء…

أما ثاني الحقائق فهو إفلاس هذه الأنظمة التام.

أدرك أن إفلاسها ليس بالجديد، إلا أن ذلك المستوى المتدني في الأداء فيه شيء من الجدة، وهو لا يرجع إلى انعدام فهم المتغيرات حولهم فقط وإنما أيضاً لانعدام المقدرة على التصرف بطريقةٍ مختلفة…إن هذه الأنظمة تكلست وتحجرت على جوهرها القمعي النهبي والاستثمار في الخوف ويدرك أساطينها أتم الإدراك أن أي تغييرٍ حقيقي في بنية السلطة أو أي قبولٍ بالمشاركة يعني فضح جرائمهم ونهايتهم الفعلية، ولذا فعوضاً عن محاولة مجابهة واقعها ومشاكلها تهرب إ لى دعاوى المؤامرات الخارجية. نحن إذن أمام أنظمةٍ تتوسل البقاء بالخوف…أنظمةٌ فاشلة تماماً ليس أدل على فشلها من كونها بما لها من منظوماتٍ أمنيةٍ قمعيةٍ تحصي على الناس أنفاسهم لم تحل دون تهريب الأسلحة إلى داخل البلاد ولم تتمكن من القبض على هذه القلل المندسة رغم مرور ما يقرب من العام، هذا طبعاً بفرض صحة زعمهم.

أربعون عاماً أو يزيد وهذا اللهو الخفي والمؤمرات الخارجية تظهر في أوقات أزمات هذه الأنظمة فيروج لها بوق الإعلام لكي تتهرب من مواجهة حقيقة وجودها العاجز أو تتصدى لمشاكل مجتمعٍ يفتقر ويتفسخ. أربعون عاماً أو يزيد والمواطن مهان ليس أرخص من دمه والخط البياني في الحضيض بينما نهضت من الوحل عمالقة كالهند والصين.. أربعون عاماً أو يزيد من الفشل الذريع المطبق..

أما آن لهم أن يرحلوا؟

‘ كاتب مصري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى