تهامة الجنديصفحات الثقافة

“إكتبي عن منجزات الحركة التصحيحية”: ها أنا صفحة بيضاء تنتظر الصباح/ تهامة الجندي

 

 

جاءني مروان في واحدة من أبشع مراحل يأسي، إمرأة وحيدة في الخامسة والثلاثين، مطلقة وعاطلة عن العمل، في مجتمع متعدد المشارب والأهواء، لكن الذهنية الذكورية المحافظة، تحكم حياته العامة. مثل ساحر فتح لي كل الأبواب الموصدة في وجهي، عاملني بنبل وسخاء، واستفاض بتقديره لعقلي الحر وسيرتي وتاريخ عائلتي، أشعرني أني ملكة قلبه، وطلب مني الزواج. وثقتُ به، وغرقت في حبه، وتيقنّت أن بلدي بألف خير، وأن كل ما مررت به من كوابيس خلال ثلاثة أعوام، لم يكن سوى سوء طالع عابر، وسوء تكيّف واختيار وتدبير من قبلي.

مروان كاتب متحرّر، على أبواب الطلاق من زوجته البلغارية، يكبرني بعامين، ويعشق مثلي التسكّع في دروب الحياة. كان واحداً من أبناء البعث والسلطة، الذين ينادون بالانفتاح الاقتصادي، والانفراج السياسي والإصلاح، وكان متحمّساً لعودة «عقولنا المهاجرة« إلى تراب الوطن، الذي يحتاجها في طريقه إلى التغيير المنشود، أو هكذا بدت لي الأرضية التي أسست لعلاقتي العميقة به، الأرضية المشتركة ذاتها التي جعلت خبير اقتصادي، مثل عصام الزعيم، يرجع إلى سوريا، ويتقلّد منصب وزير التخطيط.

مع صديقي العزيز، مشيّتُ على زبد البحر، حتى أشرقتْ شمسي، ذهبت إلى جزيرة أرواد، صعدّت قلعة حلب، وتجوّلت في سوقها المقّبي القديم، أدهشني متحف دمشق، وصليت في الجامع الأموي، وعلى ضفاف نهر العاصي شربت العرق في مطعم «ديك الجن«، وفي تدمر مسّني السحر، وأنا أعبر مملكة زنوبيا عند الغروب. مع صديقي بلغت أعلى مراتب العشق، واكتشفت أني وُلدت في أجمل وطن.

كانت صلاته واسعة في كل مكان، وكان اخوه وزيراً، ولم يتلكأ عن تسخير كل علاقاته لخدمتي، وما إن انتقلت إلى العاصمة بعد ثلاثة شهور من هاتفه الأول لي، حتى استطاع أن يحقق كل امنياتي في العمل داخل دوائر الدولة، وإن كانت البداية بلا عقود توظيف، والأجر بالقطعة وعلى الساعة. بعدها انسحب مروان من حياتي بهدوء وبالتدريج، وسافر إلى بلغاريا، لينهي إجراءات الطلاق ويعود، اشتقتُ إليه كثيرا، لكن مشاغلي الكثيرة خفّفتْ من لوعة الفراق.

قبل سفره، وقبيل انتقالي من اللاذقية، عرّفني مروان على شخص متنفّذ في جريدة «البعث«، عاملني الرجل باحترام شديد، ودعاني إلى الكتابة في المنبر بكل دماثة. بدأت بحوار مع الفنان التشكيلي نزار صابور، ثم صرت أجلب له أربع مقالات في الشهر، وكانت مفاجأتي سارة، أنه لم يتأخر عن نشر أي منها، ولم يحذف أية كلمة مما كتبت، مع أني كنت أنتقد بجرأة، وأتابع المثقّفين المصنّفين في خانة المعارضة.

كان يشجعني، وينقل لي إعجاب فريق القسم الثقافي بقلمي، لكن الحسرة كانت تخنقني أول الشهر، حين لا تتعدى مكافأتي على المقالة الواحدة المئة وثمانين ليرة سورية (أقل من أربعة دولارات) ثم صعقتني الصدمة، حين طلب مني أن أكتب عن منجزات الحركة التصحيحية، بمناسبة عيدها السادس والعشرين، قلت: «انا لا أفقه، ولا أكتب بالسياسة«، أجابني: «حاولي، حتى يصبح موقفي قوياً، وأطلبك للتوظيف عندنا«. لم أحاول، ولم أكتب لـ«البعث« بعد ذاك اليوم.

في أحد مطاعم حلب التقينا بصديقه، مندوب مجلة «نغم« الفنية الملوّنة، وبينما كنا نتسامر ونحتسي البيرة، كتب مروان ورقة تكليفي بالعمل في مكتب المجلة بدمشق، لقاء خمسة آلاف ليرة بالشهر، ووقع المندوب الورقة. وحين اتصلت بالمكتب، كان محمد الأحمد، هو من يديره، وأرسلني لتغطية مهرجان دمشق السينمائي، ثم عملت معه لشهرين أو أكثر، ولم أتقاضَ أجري، فتركت الـ«نغم«، بعد أن تبين لي أن صاحبها مفّلس، ولن يدفع قرشاً واحداً، لأي من العاملين لديه. لكني بمشورة صديقي العزيز ودعمه، استفدت من ورقة التكليف بالتسجيل في اتحاد الصحافيين السوريين، والحصول على استثناء لتركيب هاتف في منزلي، خلال شهر وبالرسم الفعلي، في الوقت الذي كان فيه طلب الخط الهاتفي، يستغرق سنوات من الانتظار، أو أضعاف رسمه، لو تقدمت به بصفتي مواطنة عادية.

مع أخيه الوزير ذهبت إلى كلية الآداب في دمشق، وقابلت عميدة قسم الإعلام التي استقبلتنا بابتسامة عريضة، ومنحتني ساعة تدريس في الأسبوع، ووعدتني بالمزيد في الفصول المقبلة. قبل درسي الأول ذهبت إليها لأستوضح بعض الأمور، لم أرَ ابتسامتها، ولم تعرني أي انتباه.

اشتريت كتاب «مناهج البحث العلمي« المكلّفة بتدرسيها، قرأت، ولم أفهم الكثير، كانت المعلومات قديمة، واللغة غير واضحة، وعلى الأرجح كانت ترجمة رديئة لكتاب صدر بلغة أجنبية ما. بدأت بدراسة الموضوع، وبحثت عن مصادر لترميم ثغراته، فتشت عن صفي في الحرم الجامعي الكبير، واهتديت إليه قبل عشر دقائق من موعد الدرّس، وأمام الباب وقفت بجينزي أدخن. حسبني طلابي زميلتهم في الدراسة، وأخذوا يغازلوني، ثم ندموا على فعلتهم، بعد أن قُرع الجرس، وعلموا أني الدكتورة التي سوف تقوم بتدريسهم.

في الساعة الأولى قدّمتُ نفسي لطلابي، الذين يربون على الخمسين، وأغلبهم من الذكور، تعرفتُ على أسمائهم، وتمنيت عليهم أن نصبح أصدقاء مع حفظ الاحترام المتبادل بيننا. شرحت لهم أسلوبي الذي يعتمد على التفاعل، لا على التلقين، وأوضحت أن الحضور عندي ليس قسّرياً، وطلبت أن يخرجوا أوراقهم وأقلامهم، ويكتبوا لماذا اختاروا دراسة الصحافة؟ كانوا ينظرون إليّ غير مصدقين، بعضهم طالب بتلخيص الدروس، وإملائها عليهم، بدلاً من شرحها، وبعضهم اعترض على الحرية الخارجة عن العرف الجامعي، وحاول الإساءة لها، ولا أدري كيف ضبطّهم جميعاً، لكني فُوجئت في نهاية الدرس، أن عدداً ضئيلاً منهم، استطاع أن يجيب عن سؤالي حول اختيار الصحافة، وان العميدة قبل درسي الثاني، أرسلت من يخبرني، بلزوم الدوام وتسجيل الغياب في كل حصة.

أثناء الفصل الأول اكتشفت أن التدريس ليس مهنتي المفضلة، وكرهت الإهمال والفوضى وسوء الإدارة داخل الجامعة، كرهت الرطوبة وروائح المجارير التي تفوح من القاعات، ولم يعجبني أياً من أعضاء الهيئة التدريسية. كنت معجبة بطراز العمارة من الخارج، وأسعدني التدخين على مقاعد الحديقة الفسيحة، والنظر إلى أشجارها العالية.

اعتدتُ على طلابي، واعتادوا عليّ، تحسّنتْ مشاركتهم، وتنازلتُ عند رغبتهم في تلخيص الدروس، وبتنا نلتقي بالمصادفة في المقّصف ونتسامر، وبعد أن تمنيت لهم النجاح في ساعتي الأخيرة، وهممت بالانصراف، انزوى بي أحدهم، وقال بنبرة تعوزها التهذيب: «صديقي يعمل في القصر الجمهوري، لم يحضر أبدا، ويريد أن يجتاز الامتحان«، قلت: «فليدرس« مد لي بطاقة عناوين صديقه، وقال: «اتصلي به، يستطيع أن يحلّ كل مشاكلك«. أخذت البطاقة، لا لأتصل، بل كي لا أنسى اسمه ما حييت. كان إحساسي بإهانة العلم والشهادة الجامعية، أكبر مما أطيق، وتوجهت من فوري إلى الإدارة، حتى أقبض أتعابي، وأعفي نفسي من التدريس، كانت العميدة غائبة، واتضح لي أن الساعة بأربعين ليرة، ما يعني أن مجموع ما سأحصل عليه، لن يبلغ العشرة دولارات. تخليت عن الكنز الثمين، ومضيت، لكن المصادفات شاءت بعد عدة أعوام، أن يتناهى إلى سمعي، أن خادم القصر، أكمل دراسته بنجاح، ونال شهادة الدكتوراه.

عرفتُ من أين يأتي الفساد، ويستشري في مؤسسات الحكومة، لمست بأم عيني كيف يجري تقّزيم الكفاءات المهنية وتحّقيرها، وتيقنت أن شرط الوظيفة الأول والأخير، هو الولاء الأعمى لسيد الأبدية، ومن يمثله على الأرض، ولم أكد أنهي شهري الرابع، حتى غادرت كل الأمكنة التي فتحها لي مروان بعصاه السحرية، وتأكدت أن لا طاقة لي على العمل ضمن منظومة عبادة الذات الحاكمة، وإن تقلدّتُ منصب رئاسة الوزراء أو مستشار الرئيس. حمدّتُ الله كثيرا، أني لم أحظَ بفرصة التعيين في ملاك الدولة، وحمدته أكثر بعد شهرين، حين علمت بمحض المصادفة، أن حبيبي عاد إلى عشّه الزوجي، واستقر في صوفيا، وأبرم عقداً لترجمة قصائد سعاد الصبّاح إلى البلغارية، وقبض أتعابه بسخاء.

قبل ذلك كنت شققت طريقي إلى مخيم اليرموك، حيث يقطن أحبتي الفلسطينيون، وبدأت أنشر بلا مقابل مادي في صحيفة «الحرية« اليومية، التابعة للجبهة الديموقراطية، ثم أضحت مقالتي بألف ليرة في مجلة «الهدف« الشهرية، التابعة للجبهة الشعبية. وبعد عام بدأ اسمي يظهر في دمشق، وصار مدراء المكاتب الصحافية، يتعرفون عليّ، ويطلبون مني الكتابة لصالحهم، ونشرت مقالاتي في «أوروبا العرب«، «السياسة« «الرأي«، «نزوى« «الحياة«، و«البيان« الكويتية، لكني لم أقبض إلا ما ندر كامل مستحقاتي، كان القسط الأعظم منها، يدخل جيوب المدراء من دون علمي. كان العمل الصحافي في ذاك الحين، دورة شاقة ومعقدة لمن يعمل مثلي من خارج المؤسسات، كانت سوريا قد تعرّفتْ لتوها على أجهزة الكومبيوتر، ولم تتصل بعد بخدمة الإنترنت، وكان اقتناء الفاكس حكراً على المكاتب المرخّصة، ويتطلب موافقة الأمن. كنت دوماً برفقة كاميرتي الروسية الثقيلة الـ«زينت«، أحضر الفعاليات وأصوّرها، أترك الشريط في الاستوديو للتحميض، أكتب مقالتي في البيت، أحملها لصفها على الكومبيوتر عند خبير مأجور، أنسخها، أجلب الصور، وأتجه إلى المكتب الصحافي لتسليم مغلفي الكبير، أو إلى البريد لإرساله مضمونا وبالسرعة القصوى إلى جهة النشر، كانت المسافات متباعدة، ولم تكن لدي سيارة لتسهيل تنقلاتي، ولا حتى أجرة ركوب التاكسي. في أواسط عام 1997 تفرّغتُ لصالح مكتب «الكفاح العربي« براتب خمسة آلاف ليرة سورية، وبصفتي مراسلة الصفحة الثقافية في الصحيفة اللبنانية الأوسع انتشاراً وشهرة في سوريا من بين باقي الصحف العربية ذاك الحين، وبات اسمي يظهر إلى جانب أهم الكتاب السوريين: محمد الماغوط، ميشيل كيلو، ممدوح عدوان، محمد كنعان، عادل محمود ونزيه أبو عفش.

كسرتُ الحصار بصبري، وإصراري أن أحترم أخلاق مهنتي، ولا أغدو بوقاً من أبواق النظام، والراتب الشهري المنتظم، منحني الاحساس بالاستقرار، وانطلقت مثل «البلدوزر« من نشاط ثقافي لآخر. وثق بي مديري الشاعر سهيل إبراهيم، وقدّر جهدي، وعاملني بنبل لن أنساه، ولحسن حظي تمتعت بالدعم المعنوي للمثقفين المعارضين، وحظيت على دعم واحترام آل الحسيني أصحاب «الكفاح العربي«، وهذا ما أبقاني أعمل معهم حتى اندلاع الثورة السورية، ووقوفهم إلى جانب الاسد.

ما إن اتصلت سوريا بالشبكة العنكبوتية، وباتت الخدمة متاحة للإعلاميين، حتى تقدّمتُ بطلب قرض «شراء كمبيوتر« إلى اتحاد الصحافيين، وكفلني مديري. حصلت على القرض، واقتنيت جهازي الأول، موصولاً بالطابعة النفاثة والماسح الضوئي. أخذت دروساً خصوصية لتعليم مبادئ استخدام الويندوز والوورد، وتعلمت نسخ الصور وتعديلها. اشتركت بخدمة الانترنت عن طريق «الجمعية المعلوماتية السورية«، وفتحت بريدي الإلكتروني، ورحت أبحر بين مواقع الصحف العربية، وأراسلها من دون الحاجة إلى مكاتب أو وسطاء، ولأول مرة في تاريخ حياتي المهنية العتيدة، قبل الصحافة ومن بعدها، شعرت بالسيولة النقدية تدغدغ يديّ. وصل متوسط دخلي الشهري إلى أربعمئة دولار، وكان المبلغ يفوق ثلاثة أضعاف ما يقبضه أغلب زملائي، أو أي موظف دولة برتبة متقدمة.

عاد مروان من بلغاريا، وأنا في قمة نشاطي الصحفي، وبدأ يلاحقني. التقيته مرتين بموعد، ومرات كثيرة بالمصادفات، وفي كل مرة كان يغازلني، ويعرض خدماته عليّ، وكنت أعتذر بلطف واستحياء، فكنت لا أزال أحمل له في قلبي الامتنان والعرفان بالجميل، حتى اتصل بي مرة وقال: «بدي منك خدمة«، «أنتَ بتمون«، «اكتبي لمجلتي عن منجزات الحركة التصحيحية«. وقف شعر رأسي، وقلت: «آسفة لا أقترب من السياسة«، قال: «بلا سياسة، قابلي الفنانين، واسأليهم عن مكتسبات الفن في عهد السيد الرئيس«، أجبته «اعتذر مشغولة جدا«، قال «سأدفع لكِ خمسة آلاف ليرة«، «لن أكتب« قلت، «عشرة آلاف«، صمتُ، وقال «خمسة عشر ألف ليرة، اتفقنا«، صرخت «أنا لا أبيع قلمي«، ردَّ بغضب شديد: «ليش مين أنتِ، حتى ما تبيعي قلمك؟ شو نسيتي، أنا ساويتك؟« ثم شتمني، وشتم عائلتي فرداً فرداً، سمعته حتى النهاية، أغلقت الهاتف، وفصلت الخط.

لم يكن مروان الأسوأ بين من عرفتهم من زملائي الصحافيين ومدراء عملي، كان مثله مثل الغالبية العظمى، في مهنة اخترقها، وسيطر على مداخلها المخبرون والأفاقون والوصوليون، وكنت تعلمت أن أعبر المطبات بأمان، وأحيانا كنت أشعر أني أرنب، يحتال لقضم الجزرة، وتجنب العصي التي تطارده، وحين تعبت من المعارك التافهة، أدرت ظهري للجميع، واكتفيت بمتابعاتي الميدانية وكتابتي.

في الليل أَخرجُ من الأوراق، أَدخلُ عزلتي، امرأة ضاعت لآلئها. أُجالسُ الصمت، أَرّشفُ مرارتي، أُقلّبُ الصور، أَرقبُ شموعي تذوي دمعة، دمعة… وحين يطلبني النعاس، أتكوّر على تعبي صفحة بيضاء، تنتظر الصباح.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى