صفحات المستقبلمحمد دحنون

إلحاد سوري مراهق/ محمد دحنون

تعرض صفحة “الشبكة الخاصة بالملحدين السوريين” في “فايسبوك”، خليطاً عجائبياً من المعطيات والمواد حول “الأديان” و”الله” و”الإلحاد” و”التقدّم” و”التخلّف” وغيرها من “المسائل الكبرى”. لا يبدو على “آدمنز” الصفحة أنّهم معنيّون برسم خطوط فاصلة بين تلك المسائل ويصعب، تاليّاً، أن يتوفر لهم شيئاً من التبّصر في “طرحهم” الإلحادي.

لا تمنع “المراهقة” الإلحاديّة” التي تبديها الصفحة من إلقاء نظرة على “إلحاد” سوري افتراضي، يُعلن نفوره من “السياسة القذرة” ويقفز بخفّة فوق واقع يعج بـ”جيوش” من جميع الأصناف: محمّديّة، كربلائيّة، إلهيّة وغير ذلك.

يبدأ الخلط المدهش من الفئة التي تستهدفها الصفحة. فهي تجمع، إلى جانب من يَفترضوا بأنّهم “ناكرو وجود الذات الإلهيّة”؛ الملحدين كلاً من: اللادينين، العلمانيين، اللاأدريين، وأصحاب التفكير الحر.

يغيب عن بال “آدمنز” الصفحة  التي تضم 14500 معجب، أنّ ثمّة لادينيين مؤمنين، باعتبار أنّ اللادينية هي نفي للأديان التي تعرفها البشريّة، لكنه ليس نفيّاً لوجود ذات إلهيّة، مفارقة يمكن “الاتصال” بها ومعها بطرق لا تمرّ عبر تلك الأديان. ويغيب أيضاً، من بين أشياء كثيرة تغيب، النظر إلى العلمانيّة، في طرحها الأكثر توازناً وموضوعيّة، باعتبارها “نظرة في الدنيا وليس في الدين”.

يغدو الهاجس الإلحادي، الرافض والمتمرد سلبيّاً، الخالي من أيّ مضمون تحرّري فعلي، هو ما يقف وراء انشاء الصفحة. قد يبرر الأمر بكون الإلحاد نفسه هو، في الجوهر، تفاعل سلبي مع قضيّة مطروحة، إذ ينهض، كرد فعل، على نفيها وليس على “خلق” أو صنع قضيّة.

تنشر الصفحة، من دون أيّ تعليق، فتوى أزهريّة تعتبر أنّ ارتداء الحجاب عادة وليس فريضة دينيّة. يحارب “ملحدو الشبكة” الأديان، وعموم عالم الماورائيات، لكنّهم لا يجدون مانعاً من الاعتماد على “الفتاوي” الصادرة من ذاك العالم إن توافقت وأفكارهم.

ينجرون إلى معركة على أرض الخصم برضى وقبول. هذا الوعي الشقي هو أحد الأسباب التي تقف وراء تحوّيل الصفحة وعموم “بوستاتها” إلى مجموعة من النكات، سيّما تلك التي تسعى إلى الربط بين التراجيديّا البشريّة؛ المجاعات والحروب والقهر والتعسف، وبين فعل العبادة بحيث تبدو هذه الأخيرة وكأنّها أصل الأولى ومصدرها و”محركها الأوّل”.

لا يمنع غياب البعد التحرّري “آدمنز” الصفحة من الحديث عن “تنويريّة” ما تقف كهدف وراء تأسيسها. ليس معروفاً بالطبع مضمون ذلك التنوير إذ ربما كانت المشكلة في “واقعنا المظلم”! وليس معروفاً بالطبع ما هو الخطاب التنويري الذي تعد الصفحة به متابعيها إلاّ إن اعُتبرت السخريّة السطحيّة  من عقائد ملايين الأفراد “خطاباً تنويرياً”.

“ما يجمعنا سوية هنا هو انتماؤنا وفخرنا بسوريتنا أولاً، وبتحرّرنا الفكري ثانياً”. قد يكون تحرّر الصفحة الذي تصفه بـ”الفكري” والمعبّر عنه، أحياناً، بكلمات نابيّة، هو “كل التنوير” الذي “تفيض” به على “جماهيرها”.

لا يحيل هذا التنوير إلى “إنارة للواقع” بقصد (إخراج الإنسان من حالة القصور العقلي المسؤول عنها بنفسه) عبر معرفة معطيات ذاك الواقع والعمل انطلاقاً منها تأسيساً لوقع أفضل، بل هو “التنوير” الذي يريد أن يبتر من الواقع كلّ ما لا يتسق ووعيّه كي يستقيم فعل “عقله” فيه. هذا فضلاً عما يُضمره “مفهوم التنوير”، في سياق ثقافتنا السائدة، من تعالٍ واحتقار لعقائد وأفكار ملايين البشر ممن سيكونون في نظر “ملحدي الشبكة السوريين” قطيعاً من الجهلة والمتخلّفين القادمين من أزمنة خلت.

في طرحها وخطابها و”ممارستها”، تنتظم الصفحة “اللاسياسيّة” في سياق تراث سوري؛ سياسي ـ أيديولوجي ـ اجتماعي، هاجسه الأوحد “صناعة الهويّة”؛ ثمّة أحزاب ومنظمات وأوساط، احترفت على مدى عقود، صنع الهويّة التي تميّزها كي تسجن نفسها بها، في الوقت الذي تعتقد خلاله أنّها “سجنت” الواقع إذ تمّلكته معرفيّاً عبر نظريتها وأيديولوجيّتها و”طروحاتها”.

لم تعدْ صناعة الهويّات على السوريين سوى بالكثير من الآلهة الأرضيين الذين لم يعرف عن عملهم شيئ سوى بحثهم الدائب عن “أسمائهم الحسنى”؛ البحث الذي كلّف ويكلّف تصّحراً ثقافيّاً ومعرفيّاً، وخراباً في العمران و.. الأرواح!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى