صفحات سوريةفلورنس غزلان

إلى أين تأخذ سوريا ياسيد بشار الأسد؟

 


فلورنس غزلان

ــ لم أر طيلة حياتي ولم أسمع أو أقرأ عن رئيس أو مسؤول أو ملك يقتل شعبه، ويغسل يديه من الجريمة،ولا يعترف حتى بوقوعها!، لم أعرف عبر التاريخ عسفاً وصل إلى هذا الحد من الزيف والتزييف للوعي والاستهتار بالعقل الآدمي، بقدر ما أوغلت به وسائل الإعلام السوري .

لقد مضى على الانتفاضة الشعبية في سوريا حتى اليوم خمسة أسابيع ونيف، لم يحلم في بدايتها الطفل الذي خربش على الحائط إلا بأن يكون رجلا يصنع الحرية كما صنعها أبناء تونس ومصر..لكن هذا الشعب، الذي لفظ عمراً كاملاً من الخوف ومن العسف والقمع وخرج من شِباك النظام محرراً يديه ومطلقاً العنان لحنجرته..المخنوقة دهراً بحساب العذاب والألم..لايرغب بأكثر من أن يعيش فوق أرضه كإنسان ويعامل كإنسان، يقرر لأنه ابن الشعب، يساهم في بناء وصنع الوطن وتطويره، نفض عن رقبته ذل السلاسل وعن معصميه ذل القيود ورأى نفسه لأول مرة كرجل لايختلف أبداً عن رجال تونس ومصر واليمن وليبيا..إنه الامتداد المشرقي لكل هؤلاء، فماذا يعيبه؟ وأين يقع العيب؟..وضع النقطة فوق الحرف وشَرَّع صدره للريح..طالباً حقه الضائع..كان يعلم أن مصيره ربما يكون الموت..لأنه يقرأ تماماً نوع من يقبع فوق رأسه منذ عقود ومن امتلك زمام الوطن والأمر والنهي فيه بلا حدود، وأقصاه عن الفعل وعن العمل..جعل منه دابة تأكل وتشرب وتمشي إلى حتفها..لكنه اتخذ قراره وعزم أمره وسار كي لايسجل التاريخ عاراً لم يعرفه أسلافه.

نادى بالحرية، نادى بإصلاح القوانين، نادى بالبناء..لم ينادي في البدء بأنه يريد قلب الكرسي على من يمسك به، لكن من يتمسك بالكرسي..لايعترف له بوجود أو حق..فقدم حتى الآن، أي بعد خمسة أسابيع من الدماء الزكية أكثر مما قدمت مصرخلال فترة انتفاضتها كلها،… والتي تعد 80 مليون نسمة!!… إن حسبناها بالمعنى النسبي للسكان….ومازال حتى اليوم لم يحقق شيئاً من المنشود الذي أخرجه عن صمته وأطلق له عنان الثورة على الظلم وعلى البغي ،تُوَجه له كل التهم وكل الألقاب..” عصابات سلفية، مندسين، خونة، مخربين، عملاء مرتبطين بالخارج،متآمرين..الخ”..

وحده النظام من يملك الحق في التقييم، وحده النظام من يستطيع الحفاظ على وحدة الوطن، وحده النظام من يحمي المواطن والوطن، وحده النظام من يحارب المؤامرة، وحده النظام وإعلامه من يملك المصداقية ، ولا يسمح لأي إعلام صديق أو قريب أو غريب بدخول مناطق الثورة..لأن الجميع موضع شك!..حتى إعلام النظام لايدخل التظاهرات ولا يصورها، بل ينكر حتى وجودها! … وحده النظام من يحق له التغيير متى شاء وكيفما شاء، وحده النظام من تتغير القوانين لتناسب مقاسه ولا تتغيرمن أجل المواطن إلا بدراسات طويلة ومعقدة يلزمها الوقت لأكثر من أربعة عقود أو أجيال! ــ حسب رأي الرئيس ــ لأن النظام لايرى فيك أيها المواطن أي نضج أو قدرة على بناء دولة ديمقراطية !! ــ لكن النظام وأهله فقط هم الناضجون..فقد قَدِموا إلينا على محفات ربانية من عالم الغيب ومن منتج غير بشري متفوق على البشر وعلى الناس في بلاد لم تنضج بعد!!.

قبل قليل سمعت شاهدة من أهل النظام صحفية سورية من السلمية تدعى ” رجاء حيدر” ادعت أن تظاهرة السلمية ليوم الجمعة العظيمة لم تتجاوز مائتين أو ثلاثة ومثلها من المتفرجين !..وأن الأمن كان حضارياً حمى المتظاهرين ولم يعتدِ عليهم!، وأردفت ..عدم استيعابها لأسباب هذه المظاهرات واستمراريتها!..وعدم تركها للنظام فرصة الإصلاح! ..وكأن أربعين عاماً ليست بالكافية…ثم تساءلت وهي ابنة النظام بجدارة…معلنة عن مدى ضحالة الفكر والتجييش المصاب به من يقول أنه إعلامي من النوع الببغائي والغوغائي، فقد أثبتت أن المتظاهر البسيط أكثر وعياً منها بمئات المرات، حين قالت:” نحن شعب لم يتعود على الديمقراطية، وأي حرية تعني الانفلات، فكيف يمكن أن نمارس الحرية والديمقراطية ونحن غير مؤهلين لها!. ..نحتاج لتدريب وتأهيل”!! متى نتأهل ونتدرب وكيف ؟!!، يكفي هذا الاعتراف وهذه اللغة كي تدين أصحابها..وبدون تعليق.

لكن الرد جاءهم من يد هذا المواطن الشاب..الذي فتح صدره للمدرعات ووقف بوجهها ، مد ذراعيه يستقبل الرصاص، ارتدى كفنه مودعاً أمه طالباً إليها ألا تحزن..لأنه منذور للوطن..راحت الدماء تراق بسهولة على أيدي البلطجية من رجال أمن وشبيحة ولجان شعبية ..كلها مُجَيش من أجل بقاء النظام، كلها مستعد للقتل والسحل والتمثيل والإهانة وبث كل أنواع الرعب والإذلال..من أجل هذه الحفنة المنتفعة والمرتزقة تحت ذيول وعلى موائد النظام..أما الشعب كل الشعب ، فعليه أن يبقى في خانة العبيد..يكفي مشهد ماحدث لأهل ” البيضا قرب بانياس”!! ، والذي جال العالم واستنكرته وحوش الغابة، بل خجلت منه واحمرت أمامه وجوه المحتل الإسرائيلي،ليعطي دليلاً قاطعاً على مدى الحقد الأعمى ، الذي يمكن لمواطن سوري أن يحمله ضد أخيه المواطن الآخر بفعل غسيله وجدانياً ووطنياً وعلفه كما التنابل..بخطاب مرفوض وممجوج بعيد عن أي عقل أو حس أو خلق بشري، لكنه النوع المهم لمايريده النظام من مواليه وأتباعه، علماً أن مايحدث للمعتقلين في أقبية النظام وللجرحى أو لطريقة القتل البشعة والمُستنكَرة المتعَمدة أكبر من أن تصوره عدسة شاهد عيان..أو توفر له اللغة صورة صادقة من قلمٍ بارع.

ــ لم يقتصر أبواق النظام وإعلامه على الكذب والتلفيق واستنكار حدوث المظاهرات أو جرائم القتل، بل شُوِّهت بأنها عبارة عن” تمثيليات وأن الدماء ماهي إلى صباغ أحمر!، ثم عَدَّلوه فقالوا أنها دماء إنسان حقيقية تُسكب ليصور بعدها الفعل على أنه من أجهزة الأمن”!!..لكني لا أدري كيف يمكن لهذه التمثيليات أن تصور جثامين الشهداء وجموع المشيعين يزفونهم إلى المقابر!، هل يصل الأمر بالمتظاهر أن يرضى بالدفن حياً كي يدين النظام وجرائمه؟؟!..نعم مَن يمكنه أن يكذب بأن جموع المصلين الخارجين من المسجد إلى مظاهرات تندد بالنظام وتطالب بالحريات على أنها ” مظاهرات لمصلين خرجوا يبتهلون للرب مانح المطر يشكرونه على نعمة الماء”!!.. إعلام يستطيع قلب الأمور على هذه الصورة قادر على اختراع طلاسم وحيل وأكاذيب لاتُضحِك ولا تنطلي إلا على أمثالهم من الأغبياء، لأن الشعب السوري نفض عن عقله تلك القشرة السميكة أو الهلامية التي غلف بها النظام عقل المواطن خلال أربعة عقود مستغفلاً ذكاءه ومزوراً قدرته على الإدراك والتفريق والاستيعاب والتمييز بين ماهو حقيقي وما هو زائف ومخادع، قد مُزِّقت بفعل جرائم النظام وأزلامه وأمام حجم وهول القتل..وفداحة الثمن الذي دفعه ومازال.. لاندري متى سيتوقف! ..قد وضعت جداراً كبيراً وسوراً فاصلاً مانعاً عن إقامة أي ثقة ومنع أي تواصل بين الشعب والنظام..فكيف يتواصل القتيل مع القاتل؟!

كيف يتواصل من خرج سلمياً يطالب باستعادة حقه في كرامة هُدرت وفي حقوق هُضمت، وقوانين عسف وظلم طَغت وتجبرت، ومحاكم لاعلاقة لها بالمحاكم العادلة والمنصفة حتى بالشكل..الصوت العالي والقاضي فيها لرجل الأمن وعصا السلطة، في الحلقة الأصغر من قمة النظام، وكل من يواليه ويدافع عنه غرق في الفساد والنهب إلى درجة التوحش، وإن دافع عن النظام فإنه يدافع في حقيقة الأمر عن استمرار وجوده بالصورة التي تعود عليها، حلم ورسم وسرق واعتدى وبالغ ..فهو المرعوب اليوم والخائف المدافع باستماتة عن مصلحته..يخاف عمن يسأله يوماً..عمن يسائله..يعلم يقيناً حجم ما اقترف وإلى أي حد غرقت يديه في وحل الخراب وتعميمه..فإن ترك الأمر للمتعطشين للحرية والعدل..فهذا يعني نهايته..ولايمكنه أن يسمح بأن ينتهي ويُسأل..من باب منطق الأمور..

ــ يطلق النظام صيحة التآمر والفتنة الطائفية..هكذا يريد للصورة أن تتكون وهكذا يسعى إلى تهويلها وتصويرها..يرد عليه المتظاهرون بالتوحد والتمسك بالوحدة الوطنية صوتاً وفعلاً..يسير العلوي والدرزي والمسيحي، يقع الاسماعيلي والسني وتختلط دماءهم..تفتح الكنيسة أبوابها لتستقبل الجرحى أسوة بالمسجد..ومع هذا يصر النظام على أنها ” فتنة”! ..هكذا يريدها ..نظام يزرع بيده الفتنة يبثها ، يُسّوق لها..يُشعلها ..يرسل شبيحته المنادية” يابشار لاتهتم ..عندك ناس بتشرب دم”..نعم هي تعتاش على الدماء..دراكولا الليل….أرانب أمام العدو….لم تقف يوماً بوجه محتل أو مستبيح لأرضه ولسمائه وسيادته عليها!!، ولم ترد على عدوان..لا في عين الصاحب ولا في الكبر..لا في البوكمال ولا فوق قصر الرئاسة في اللاذقية…لكنها تشرب من دماء أهل البيضا وبانياس وإزرع وداريا والمعظمية ودوما وحرستا وبرزة..حمص ودرعا والقامشلي وحماة والحسكة ..ودمشق..العدد يكبر والمساحة تمتد على رقعة الوطن..لم تبق قرية أو مدينة دون أن تعلن رفضها وتمردها على نظامك يابشار…يامن تأخذ البلاد إلى الموت..وتحرقها كنيرون..من أجل بقاءك…كل هذه الدماء برقبتك يابشار.وهذا يثبت أنك لست على قدر المسؤولية.

حتى من والوك عقوداً وصفقوا لك ولأبيك في مجلس الدمى” مجلس الشعب” لم يعد بمقدورهم أن يداروا خجلهم أو أن ينظروا بعيون أم ثكلى من قريتهم أو من محافظتهم..لم يتمكنوا مع كل مازودتهم به من شعارات وما منحتهم من مناصب ومكاسب..أن يبرروا أو يكَّذِبوا كل هذا القتل..فقد عايشوه واقعاً على الأرض البارحة وفي الجُمعات السابقة إلى أن طاف الكيل في الجمعة العظيمة الحزينة..فأعلن من حاول في بداية الإنتفاضة أن يكون رسولك ، أن يُطَّوع الناس، أن يخفف من حدة الحماس ..أن يساومهم على دماء أبنائهم…لكن الجمعة العظيمة كانت قشتهم أو قشتك الأخيرة..فقد انقصم ظهر البعير…فمابقي أمامهم إلا حفظ ماتبقى من ماء الوجه ــ على الأقل عدم خسارة أهلهم وأبناء بلداتهم ــ فهاهم بعض النواب في مجلس الدمى المتحركة بخيوط الأمن يعلنون تنحيهم واستقالتهم ” ناصر الحريري، وخليل الرفاعي، إلى جانب تنحي عضو مجلس المحافظة في درعا يمان المقداد، ومفتي درعا الشيخ رزق أبازيد”.

ــ مع هذا تخرج علينا بعض الأصوات ، تطالبنا ببعض التريث، تطالب المتظاهرين بمنح النظام فسحة من الوقت..ثقة جديدة لمدة محدودة!!!..تسارع الشارع وقلقه المزمن وانعدام ثقته المطاطة لدرجة أنه استثمر كل إمكانيات المط والشد والمرونة فيها لأربعين عاماً خلت ، لم تعد لديها طاقة على الاحتمال ولا الانتظار ولا يمكنها أن تثق بقتلة..لأنه الوقت هو مايريدونه… هو مايلعبون عليه، لأن كل الوقت كان معاهم ولقبل أيام معاهم، ومازالت بعض خيوطه بأيديهم ولا تمنعه المظاهرات…فحتى بعد إعلان رفع حالة الطواريء..مازال الاعتقال اليومي يصول ويجول ويطال كل المحافظات وكل الفعاليات..سواء المعارض منها أم المتظاهر أم المار صدفة أم الصديق لأحدهم أم المتداخل على هذه الفضائية أو تلك..كيف يمكن أن تمنح الثقة لمن يعتقل حتى بعد رفع حالة الطواريء؟ كيف يمكن منح الثقة لمن لم يطلق سراح أي معتقل منذ بداية الانتفاضة؟ كيف يمكن منح الثقة لمن شكل حكومة ” تغيير” !! لم يغير من طاقمها القديم أهم الحقائب والوجوه والانتماء الأول لسيادة الحزب القائد للدولة والمجتمع؟ كيف يمكن منح الثقة لمن أبقى ويبقي على المادة الثامنة من الدستور ولم يعلن حتى الآن حل حزب السلطة؟..كم من الوقت تحتاج ياسيادة الرئيس وأنت الفرد الملك مطلق الصلاحية وبيدك وبجرة قلم يمكنك إصدار أي مرسوم تشريعي وإلغاء آخر؟!! ، كيف يمكن أن يثق بك شعب لم يكن له رأي باختيارك وقد ورثته وكأنه جزء من البيت أو عفوا من القصر، الذي كبرت فيه ولا يمكن أن ترى نفسك إلا فيه ..معالق من الفضة بيدك وأوامر تنفذ دون اعتراض …ووسائل راحة لم تعرف معنى العوز!!..ولو كنت فعلا مُقدِّراً صبر هذا الشعب عليك واحتماله لك ولأجهزتك لتوجهت له ولو مرة ..وهذا مالم تفعله حتى الآن..في المرتين السابقتين كنت بين المطبلين من مجلس الدمى إلى الحكومة المجتهدة كتلاميذ فصل من مدارسنا الابتدائية، حتى” مبارك وابن علي” تفوقوا عليك قبل تنحيهم وبعده..فأي مصير ينتظره الشعب منك؟ وأي مصير تنتظره من شعب عاملته بكل هذا التجاهل والاستهتار؟، وماذا يمكن لشعب أن يفعل إزاء نعوت وشكوك إعلامك بوطنيته وانتمائه، وكيف جوبهت جرأته في كسر حصارك وممنوعاتك غير المحدودة لحركته وحريته مستنكراً عليه حقه في التظاهر والاحتجاج فقابلته أجهزة أمنك وشبيحة معاونيك وعائلتك بمالا يمكن لعدو أن يفعل؟، فماذا تخفي بعد لهذا الشعب في جعبتك ياسيد بشار الأسد؟ وهل ننتظر منك المزيد من الايغال في القتل، أم من المعقول أن تفهم ولو متأخراً كابن علي ومبارك؟.

ــ باريس 24/4/2011

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى