صفحات الرأيناصر الرباط

إلى متى ستبقى الأكثريّة صامتة؟/ ناصر الرباط

 

 

تزايدت حوادث قتل المواطنين العرب المسيحيين (أو اليزيديين أو الإسماعيليين أو العلويين أو الدروز أو الشيعة أو حتى السّنة) بسبب انتمائهم الديني، تزايداً رهيباً في السنوات الخمس الفائتة في كل من مصر وسورية والعراق وليبيا. ومع أن الأسباب الآنية لهذه المجازر متنوعة وتحتاج تفصيلاً مستقلاً لمحاولة فهمها كل على حدة، ومع أن الأنظمة القائمة أو المهترئة في هذه البلدان الأربعة (وغيرها من البلدان الإسلامية) التي ترزح تحت نير حروب عدمية وأهلية – معولمة، مسؤولة إلى حد كبير عما آلت عليه الأمور من فلتان أمني وعنف ديني وتحلل مجتمعي، فإن هناك ظواهر مشتركة في كل هذه الجرائم تتطلب منا جميعاً وقفة مراجعة للذات حقيقية وهبة اجتماعية إصلاحية لرأب الشرخ الكبير الذي أحدثته في بنيان مجتمعاتنا وإمكانية بقائها كمجتمعات أصلاً.

بداية أقول إن مسؤولية «داعش» عن الكثير من هذه الجرائم، بخاصة أكثرها مسرحيةً ودمويةً، ليست واحدة من هذه الظواهر التي أتكلم عنها. «داعش» طبعاً مسؤول عن جرائمه المريعة وفكره العنيف، لكنه ليس الظاهرة التي تتطلب حلاً أكثر من الحل العسكري الذي يجربه العالم متردداً. الحل العسكري على الغالب سيفضي إلى تفكيك الدولة الإسلامية، لكنه بالتأكيد لن يؤدي إلى تفكيك الفكر الذي أنتجه، والذي ما زال يرتع آمناً مطمئناً في بلادنا وفي بلاد مهجر مجموعاتنا الدينية. داعش، بمعنى آخر، هو صورتنا الأكثر تشوهاً وانعكاسنا في المرآة الأكثر انحرافاً. وهو بالتالي مظهر منفلش ودموي لما يجب علينا كمجتمعات الاعتراف به تمهيداً لمواجهته ودحض منطقه وتفكيك خطابه وقطع الطريق على محازبيه الكثر من نشر أفكارهم السامة في مدارس أولادنا وشاشات تلفزيوناتنا ومنشوراتنا ومصليات مساجدنا.

كلنا مسؤول عن هذا المآل المقيت. وهو حقيقة مآل يمثل تهديداً وجودياً إلى حد كبير نظراً الى ما يسببه من تفكك أممنا الوطنية وانهيار قيمنا الاجتماعية وانعزال عالمنا عن العالم الأكبر، وبالتالي إهمال العالم لقضايانا ولا مبالاته بمآسينا، كما نشهد اليوم من التغطية الإعلامية المبتسرة لحروبنا ومَقاتلنا ومن جفاف التعاطف بين شعوب العالم مع ملاحم هجرات مواطنينا أو مآسي موتهم المستمرة. لكن المسؤولية الأكبر عن هذا المآل تقع على عاتق الأكثرية الصامتة في بلداننا العربية، التي اكتفت بالشجب الخفر لكل جريمة قتل دينية الدافع بعد وقوعها، ورفضت أن ترى في حياتها العادية وممارستها اليومية وممالأتها لخطابات التكريه والتكفير وإغلاق العقول المنتشرة في فضاءاتها أي أرض خصبة للعنف المتولد. بل إن هذه الأكثرية الصامتة ما زالت ترفض أن ترى أي صلة مباشرة بين العنف الداعشي أو القاعدي أو النصرتي أو الحزباللهي أو الحشدوي أو الحوثي أو غيره من الأسماء، وبين التعاليم الدينية كما تتلقاها أو تسمح لأولادها بتلقّيها وتعتنقها أحياناً من دون مساءلة أو تفكر، بل تدافع عنها برحابة صدر جاهلة أو متعامية. العنف المتسربل بالدين أو المذهب، وفقاً لهذه الأكثرية، إن هو إلا معلم شذوذ من الطريق القويم لا نتيجة منطقية لخطابات موجودة وفاعلة في الفضاء العام.

من هذه الأكثرية الصامتة تقع مسؤولية أكبر على عاتق قياداتها الدينية الإسلامية التي تشدد دائماً على أن الدين دين تسامح وتعايش ومحبة، وأن المجرمين ليسوا إلا أقلية ضالة ومنحرفة لا تمت إلى الإسلام بصلة. لكن هذه القيادات الدينية (سواء كانت معينة من السلطات الحاكمة أو تتنطح للقيادة من ذات نفسها) أعجز من أن تقارع السلفيين الجهاديين فكرياً وعقائدياً بسبب المكبلات الفقهية والتاريخية التي وضعت نفسها فيها، والتي لا يمكنها الفكاك منها من دون تفكيك هياكلها نفسها وإعادة النظر في فهمها أسس الدين وتاريخيته. وفي هذا طبعاً خسارة كبيرة لكل المنتفعين من الجهاز الديني، موظفين كانوا أم مستفيدين من تقوى الجموع المؤمنة التي تقوم بأودهم، الذين يرفضون حتى أن يعتبروا أنفسهم جزءاً من جهاز قائم ومسيطر، مشددين دائماً على أن لا كنيسة في الإسلام وأن لا أحد يملك مفتاح الصلة بين المؤمن أو المؤمنة وربهما، وبالتالي كلُ مسؤول عن تصرفاته وعواقبها. والحال طبعاً، كما نعرف كلنا، غير ذلك، بخاصة في البيئات الفقيرة وغير المتعلمة، التي ما زالت للأسف تشكل غالبية مواطنينا، والتي ما زالت تتلقى مبادئها الدينية ممن يدعون علماً أو سلطة تمثيل (لا فرق حقاً هنا).

لكن، إذا كانت القيادات الدينية عاجزة عن التصدي الحقيقي لخطابات العنف والتكفير والكراهية كما أثبتت حتى الآن بسبب عدم قدرتها على تخطي موقعها الديني، الإقصائي تعريفاً، لكل من لا يتبع هذا الدين، والالتزام بموقع قيادي مجتمعي عام، فعلى عاتق بقية المجتمع تقع مسؤولية هذه القيادة. هذا ما بدأت بعض القيادات الشابة بالتنطح له خلال الأيام الأولى واليوتوبية من ثورات الربيع العربي قبل أن تسحقها ردة فعل أنظمتها الديكتاتورية في شكل خاص في سورية ومصر، لكن أيضاً في ليبيا والعراق واليمن.

هذه المحاولات الأولى، على سذاجتها وقلة حنكتها، أثبتت شيئين مهمين. أولاً، أن في إمكان المجتمعات التي ربضت تحت نير القهر والاستعباد لعقود عدة، إنتاج فكر تحرري سياسي وقيادي، ربما بسبب الإنترنت والانفتاح الذي تسلل على رغم رقابة الاستبداد، وما عليها الآن إلا تعلم كيفية حمايته ورعايته وتنميته. وهذا طبعاً ليس بالأمر السهل، وهو يتطلب جلداً ومثابرة وتضحيات. وثانياً، أن الاستبداد السياسي الذي يعاني منه العالم العربي، والذي يدعي حداثة لا يمتلك منها أي ذرة، هو صنو التعصب الديني المقاتل والمكفر في تواطؤهما على خنق كل محاولة تحرر أو إرساء لأسس مواطنة حقيقية تتمتع فيها كل المجموعات المكونة لجسد الأمة الوطنية بحقوقها، وأولها طبعاً حق الحياة من دون خوف من مغتال أشر، سواء كان هذا المغتال ملفعاً بالثياب السوداء وبرباط رأس مكتوبة عليه الشهادتان أو لبيك يا حسين، أم كان ببزته العسكرية المزينة بعلم دولته وشعاراتها البراقة.

* كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى