صفحات العالم

إنذارات «نافي بيلاي».. هل جاءت بعد فوان الأوان؟/ عبد الوهاب بدرخان

 

 

تغادر السيدة «نافي بيلاي» منصبها بخيبة أمل كبيرة لم تخفِها. كان عليها أن تتجرّع، خلال ستة أعوام أمضتها كمفوّضة سامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، الكثير من كؤوس السم، وأن تنوء تحت مسؤوليات رغم كل ما حاولته لإخراج مجلس حقوق الإنسان من العجز الذي تسربل به. منذ حرب غزّة الأولى أواخر 2008 – أوائل 2009 أصبحت جرائم الحرب ممارسة مكشوفة وشبه اعتيادية، وتبعتها ممارسات مشابهة أقل أو أكثر وحشية في العديد من الدول، وقام المجلس بواجبه لكنه لا يملك جيوشاً ولا صلاحيات، ولا يستطيع شيئاً إذا لم يكن مجلس الأمن الدولي، (أي الدول الخمس الكبرى تحديداً) راغباً في التحرك ومستعدّاً له.

كان على القاضية الجنوب أفريقية من أصول هندية «نافي بيلاي» أن تدير هذا العجز من دون أن يبدو مجلسها مجرد حائط مبكى أو نموذجاً للفشل، لكن تراكم الفظاعات أرغمها مرّات كثيرة على اعتماد لغة واضحة الإدانة والغضب، ما جلب لها الإهانات الشخصية من جانب بعض الديكتاتوريين وأعوانهم. غدا المجرمون أكثر وقاحة، ولم يتوانوا عن تقريع القاضي واتهامه بـ «اللامهنية» أو بـ «الانحياز». ولا شك أن «بيلاي» كانت منحازة للضحايا وللشعوب، غير أن ما استثارها هو الاستهتار الذي شهدته لدى الدول الكبرى التي لم تكن لتردّد في انتهاك القوانين الدولية وتجاوزها متى لاح أن لديها مصلحة في ذلك. لمست «بيلاي» بنفسها وعن كثب أن العدالة الدولية توجد فقط في الكتب وأطنان الأوراق التي تستهلكها المنظمة الدولية، أما في الواقع المعاش، فهي وهمٌ وضرب الخيال المثرثر.

هل كان بإمكان «بيلاي» أن تفعل شيئاً وتهاونت؟ بالطبع لا، فهي كانت لترغب بشدّة في النجاح، لكن «حقوق الإنسان» هي في النهاية مجرد فكرة تحيا وتتفعّل بمدى قابلية الدول والأنظمة على احترامها. ولقد هال هذه المفوضة ما بلغه مجلس الأمن من تمييز ودم بارد حيال المعاناة الإنسانية والانتهاكات الخطيرة للسلم والأمن العالميين. لذلك انتهزت «بيلاي» إفادتها الأخيرة أمام مجلس الأمن لتدلي بما يمثّل خلاصة تفكيرها لأمراض «المجتمع الدولي» وتقويمها لمقاربة هذا المجلس للأزمات، التي كان ولا يزال عليه أن ينهيها. وكان مقلقاً بل مفزعاً أن تقول إن مئات الآلاف من الأرواح أزهقت لأن مجلس الأمن لم يستجب أبداً، أو لم يستجب سريعاً، أو لم يتخذ دائماً قرارات حازمة ومسؤولة. لا شك في أن الأزمة السورية كانت في ذهنها، لأن لجان مجلس حقوق الإنسان قامت بعمل دؤوب وجدي لتوثيق جرائم النظام وانتهاكاته، لكنها لم تنسَ أيضاً تقرير ريتشارد جولدستون عن حرب غزة (2009)، وكيف تزاحمت الأيدي للفلفته، بل كيف أن هذا القاضي اليهودي، والجنوب أفريقي أيضاً، تعرّض لحملة شخصية اضطرّته في نهاية المطاف إلى التخفيف من أحكام تدين إسرائيل كان توصّل إليها بكامل حريته وصولاً حتى إلى التبرؤ منها.

حملت إفادة/ شهادة «بيلاي» اتهامات وإدانات لآليات عمل الدول الكبرى في مجلس الأمن، وفي طليعتها استخدام «الفيتو» (حق النقض) وما وصفته بـ «المصالح الوطنية الضيقة» أو «بواعث القلق قصيرة المدى المتعلقة بالجغرافيا السياسية». فـ «الفيتو» الروسي الأخير أحبط مشروع قرار كان سيتيح للمحكمة الجنائية الدولية إجراء ملاحقات في سوريا لارتكاب جرائم حرب. كما أن شبح «الفيتو» الأميركي أرجأ إصدار قرار بوقف الحرب في غزة. وفي الحالين كانت النتائج ملموسة في تصاعد الخسائر البشرية. أما «المصلحة»، فأصبحت عاملاً معطّلاً للتشخيص السليم للأزمات وللسعي لمعالجتها، وهنا أيضاً تبدو الكلفة الإنسانية باهظة.

يُضاف إلى ذلك الأزمات التي يحاول المجتمع الدولي الإيحاء بأنه يعمل عليها أو يحاول معالجتها من دون جدوى، كسوريا والعراق وغزّة وأوكرانيا، ولفتت «بيلاي» إلى لائحة طويلة تضم أزمات أخرى تعتبر عملياً بحكم المنسية أو كأن العالم تعايش معها على أنها جزء «طبيعي» من الواقع كأفغانستان (إخفاق التدخل الدولي في تطبيع أوضاعها) وأفريقيا الوسطى (مذابح طائفية) والكونجو الديمقراطية وليبيا ومالي والصومال وجنوب السودان والسودان، وكلها تغلب عليه مناخات حروب أهلية/ إثنية أو حروب أهلية معطوفة على إرهاب عابر للحدود ويمرّ معظمها حالياً بمراحل بالغة العنف والتشدّد. وقبل أن تدعو إلى سياسة جديدة للمراقبة، وضبط حركة بيع الأسلحة واتّباع «الإنذارات المبكّرة لانتهاكات حقوق الإنسان»، نبّهت بيلاي إلى أمرين مهمّين: الأول، أن الصراعات لم تندلع فجأة، بل هي نتاج عقود من تلك الانتهاكات، والآخر أن استمرارها الطويل رسّخ الانطباع بأن شيئاً لم يعد يُرجى من مجتمع دولي حكمَ على نفسه بالفشل.

لكن، أبعد مما ذهبت إليه «بيلاي»، من الواضح أن طبيعة الأزمات وتطرفاتها المستشرية تجاوزت تصوّر مجلس الأمن لقدراته أو تشخيصه لما هو مطلوب منه. لذلك يأتي كلامها بمثابة جرس إنذار، لكنه سيبقى بلا استجابة. ذاك أن حالة الانقسام بين الدول الكبرى تأثرت بمناخ التطرف وانجذبت في تياراته بدل أن تحاول ضبطها واحتواءها، فحتى وصول الخطر إلى أوروبا من خلال أزمة أوكرانيا لم يحمل هذه الدول على تبديل سياساتها لمواجهة المخاطر.

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى