صفحات الحوار

إنعام كجه جي:أُعاقب نفسي لأنني هجرت العراق

 

 

محمد المزديوي

من عالم الصحافة، جاءت إنعام كجه جي، ابنة بغداد، إلى الرواية. ولعلّها من بين الكتّاب الذين يميلون إلى التأنّي والتمهل. فقد ولجت عالم السرد الروائي، من بعد مراس وطول أناة في العلاقة مع لغة الضاد. وعمليًا، فإن الاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين، أضاف نقاطًا كثيرة إلى كأس إنعام، التي كانت ممتلئة. كذا فاضت الكأس، فصدرت أولى رواياتها عام 2005.  أمّا الثانية “الحفيدة الأميركية” فقد ارتقت بسرعة السلّم “البوكري”، وكرّست إنعام واحدة من أفضل الروائيات العربيات.

* كان كثير من الروائيين صحافيين في مستهل مسيرتهم، وعلى رأسهم غابرييل غارسيا ماركيز. فهل أفادتك الكتابة الصحافية في الكتابة الروائية، أم أن لكل جنس عالمه الخاص؟

من يسألني عن الصحافة يملك قلبي. على الأقل ما تبقّى منه. هي المهنة التي أدين لها بتشكيلي وتكويني، وبإنضاج إنسانيتي وبفتح آفاق لم تكن متاحة بسهولة لامرأة عراقية من جيلي. شذّبت الصحافة لغتي، وشفطت شحومها، وعلمتني أن الطريق إلى إيصال الفكرة، لا يمرّ عبر الفذلكات والخزعبلات اللفظية. وحين انتقلتُ إلى الرواية، بعد أربعين سنة من العمل في الصحافة، وجدتُ يدي تكتب روحي بيُسر. أما إذا تعسرتْ وهي تطارد كلمة أو اشتقاقًا أو تركيبا صحيحًا، فلأن تلك من أجمل غوايات لغتنا وألاعيبها مع الكاتب الذي يهواها، إذ يكون عليه أن يبتدع المفردة المناسبة لتوصيف الحال، وينتقيها من بين المرادفات المتعددة، ويختار لها مكانها في الصياغة. أليس من اللطيف أن يكون الكاتب صائغًا لجواهر الكلام؟. هذا عن اللغة، أما عن الأفكار والموضوعات فإن التجربة الصحافية تسمح لك بأن تخزّن في جواريرك الكثير من الصور والشخصيات والمواقف، التي تصلح لتأثيث بيت الرواية. هي مروحة واسعة من التجارب، التي ما كان يمكن أن أبلغها لو لم أختلط بكل أولئك البشر، وفي مختلف ظروف العيش. ولهذا ما زلت أشتغل صحافية لكي أحافظ على شباب عقلي.

* لكن الأمر لم يكن “انتقالًا” إلى الكتابة الروائية، بقدر ما كان انغماسًا فيها. ما الذي تستطيع أن تقوله الرواية؟ ما حدود الكتابة الروائية؟

انغمستُ في الرواية إن شئت. فقد جاءت إلي بعد عقود من العمل في الصحافة، ووقوع أحداث زلزلت بلدي وما عاد يمكن تعبئتها في “معلبات” الأخبار والتقارير والتحقيقات الميدانية. شعرتُ بغصة عميقة أو صرخة محتبسة في الحلق، وتحتاج قالبًا تعبيريًا آخر. كنت في السابق أكتب القصص القصيرة وأنشرها هنا وهناك في صحف بغداد والقاهرة. وكنت قد شرعت، قبل سنوات طوال، بكتابة روايتين تجاوزهما الزمن، ولم أنشر سوى مقاطع منهما. ثم قررت، ذات يوم من عام 2004، أن أتخلّى عن القلم وأبدأ الكتابة على الشاشة مباشرة. فتحت صفحة “وورد” وكان عليّ أن أتمرن على نصّ ما، وأدرّب أناملي على لوحة الحروف والتزلج الانسيابي فوقها. وهكذا وجدتني أمام “سواقي القلوب”، روايتي الأولى. هل قلت فيها ما أريد؟ لا أرى السرد الروائي رسالة تتوجه إلى القارئ بالبريد المضمون. هناك دائمًا شكوك ومفاجآت. فالكتابة بالنسبة لي محاورة مع النفس، تضيء لك بعض زواياها العصيّة، حينًا، وقد تأمرك بالسوء، أحياناً، وهذا هو الأهم إذ تتدفق عليك الصور المستترة والخيالات المبهمة ويراودك المحجوب من الكلام.

رغم وجودك في الغربة منذ أزيد من أربعة عقود، إلا أن رواياتك تكاد لا تغادر العراق. فهل هو اختيار واع، أم أن العراق يسكنك إلى هذه الدرجة؟

أكتب عن العراق لأنني أعرفه أكثر من غيره. ولأنني لم أحب بلدًا بالقدر الذي أحببته. ولأنه أصل “ذائقتي” وفيه أجمل ذكرياتي. وأنا أُعاقب نفسي لأنني هجرته. ويحدث أن أتوهم أنه يعاقبني أيضًا ويأتي ليحاسبني ويضربني بالمسطرة، كالبنت الضالة، على أطراف أصابعي ويقول لي بضحكة ماكرة: “هل تصورت أنك يمكنك الهروب بكتابتك بعيدًا عن قبضتي؟”. أنا لم أختر الكتابة عنه بقرار رسمي ولا بفرمان سلطانيّ. الموضوع يأتي من حيث لا أدري، ويتربع أمامي. لكنني عراقية قبل كل شيء ولم أُحاول خلع هويتي. ويناسبني تمامًا الاستسلام لقبضة الوطن، حتى لو كنت خارجه. وهناك عشرات الروائيين المغتربين، مثلي، ممن يواصلون الكتابة من إسبانيا وأميركا والخليج وإسكندنافيا وفي معاصمهم “كلبشات” العراق.

* أرغب في سؤالك عن رواية “الحفيدة الأميركية”، لماذا اخترت هذا الامتحان القاسي للبطلة؟ أن تعمل مترجمة للمحتل؟

لم أختر. الواقع الذي عشناه هو الذي اختار. كان هناك مترجمون عراقيون عرضوا خدماتهم على المحتل الأميركي. وهو موضوع يُغري أي روائي. وأظن أن الامتحان القاسي لم يكن للبطلة فحسب، بل لي أيضًا. كنت أريد أن أتسلل إلى داخل “زينة” لأفهم كيف يمكن لها تبرير ما تقوم به. وصعوبة امتحاني تكمن في أنني ضدّها، ومع شاعرنا الكبير بدر شاكر السياب في سؤاله: “أيخون إنسان بلاده؟”. وفي الوقت نفسه أرى أن الروائي ليس قاضيًا ولا واعظًا. هو يمارس فن التمرير وهي لعبة خطرة. كان عليّ أن أسير على خيط رفيع بين النوايا الطيبة لـ “زينة”، ولنقل البلادة، وبين الوقوع في المحظور. وإذا كنت تقول إن المترجمة هي بطلة الرواية، فإنني سعيت إلى أن أمنح البطولة ( وما أسخف هذا الوصف تحت وقع المأساة !) لجدتها “رحمة”، المرأة ذات البوصلة الصح، التي احتقرت المحتل الأميركي واعتبرت حفيدتها ناقصة تربية لأنها عملت معه.

* إن كانت رواية “الحفيدة الأميركية” تمثّل عودة ولو جزئية إلى العراق، فإن رواية “طشاري” تذهب صوب الشتات العراقي. ما هو سبب اختيارك الموضوع، وهل ترين فيه مصيرًا نهائيًا للعراقيين؟

حين صدرت هذه الرواية، “طشاري”، لم نكن قد وصلنا، بعدُ، إلى زمن تنظيم داعش ولا تهجير الأقليات ولا زمن الهرب عبر قوارب الموت. وبعد الشتات العراقي شهدنا الشتات السوري واليمني ولا أدري أين يمكن أن تصل الحال بنا. على أي حال لست زرقاء اليمامة ولا عرافة تقرأ المصائر لكن “قلبي دليلي”.

* لكننا، في روايتيك الاثنتين، نجد المحتل الأميركي بوضوح، بينما يغيب الجار الإيراني كمحتل آخر. لماذا؟

وهل بقي جار قريب أو بعيد ولم يتفضّل ويزر أراضينا؟. لا ألوم الغريب، بل ألوم ابن البلد الذي وجَّهَ له الدعوة.

* لم ينعم العراق بالاستقرار منذ فترة طويلة، فهل الرواية في نظرك، هي الأقدر، أدبيًّا، على وصف المأساة العراقية والتقاط إرهاصات الأمل؟

لا أميل إلى التنظير ولا أفقه فيه. أكتب، ولا أتطلع إلى قعر البئر. فما تسميه “المأساة العراقية”، صارت بئرًا يدلي فيها آلاف الخبراء والسياسيين والمحللين، دلاءهم. أما روائياتنا وروائيونا، فأظن أن كلا منهم يكتب عن المشهد من زاويته الخاصة. ومن مجموع زوايانا، نمدّ أذرعًا واهية أو قوية، لنطرق على جدران البئر، ونحاول تلمّس سبيل الخروج إلى النور. وكل ما أخشاه أن تبالغ كتابات الأمل والتفاؤل، وتصل إلى حد التبشير بالسراب. لذاك ترى رواياتي مفتوحة على نهايات معتمة. وكلّما تراكمت الجثث وسالت الدماء في نشرات الأخبار، شحب البصيص في آخر النفق.

* هل من الممكن، في رأيك، القول إن الرواية العراقية الحديثة عرفت نهضة قوية بعد “حرب الخليج” عام 1991، حيث اضطُرّ المثقفون إلى اللجوء إلى المنافي؟ وكيف تنظرين إليها ضمن مشهد الرواية العربية؟ أيمكن القول إنها وليدة الوضع الكارثي العراقي فحسب؟

انطلقت الفورة الروائية العراقية من الداخل، وما زالت في انطلاقتها قبل المنافي، بعد سنة 2003. لقد صدرت مئات الروايات خلال السنوات العشر الأخيرة، وبشكل فاق كل ما صدر في القرن العشرين كلّه من روايات عراقية.

إننا نجاهد وتُجاهد رواياتُنا معنا، لكي تكون جديرة بالتعبير عن زلزالنا الكبير، الاحتلال الأميركي، والهزّات المتتابعة التي أعقبته. ألم يخطر ببالك، أن الروايات الكبرى بنات الحروب؟ نقرأ الآداب العالمية ونخرج بهذه الفكرة.

* من المؤكد أنك تتكئين على مُنجَز روائي عربي وغربي، فهل لنا أن نعرف من أثّر فيك أكثر؟

قرأت في بداياتي الروايات المترجمة التي كانت تصلنا من بيروت. أحببت الأخوات برونتي ونامت رواية “جين آير” طويلًا تحت وسادتي. ثم مررت بمرحلة يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وتعرفت إلى نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله. وبعدها اكتشفت كولن ولسون وسيمون دو بوفوار. كنا في العراق نقرأ كثيرًا في يفاعتنا والمحترم فينا هو من ينزل إلى الشارع متأبطًا كتبًا. تأثرت في تلك الفترة بميخائيل نعيمة أكثر من جبران خليل جبران. وأعجبني جموح يوسف إدريس أكثر من غيره. ودرت درويشةً في حلقة الطيب صالح و”موسم الهجرة إلى الشمال”. وطبعًا كان هناك العراقيون: فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وعبد الرحمن الربيعي وستار ناصر. كنا نعرفهم ونراهم في الملتقيات الأدبية ونتلقف كتبهم. وفي بغداد قرأت “1984” لجورج أورويل في نسخة وحيدة فريدة كانت محفوظة في مكتبة “التوجيه السياسي” في الجيش، وممنوعة من التداول. لكن صديقي الشاعر، فاروق يوسف، الذي كان يقضي خدمته العسكرية آنذاك، سرّبها لي واستنسختها. سحرتني فكرتها. ولما وصلتنا “مائة عام من العزلة” لماركيز، صرنا نتباهى بتداول أسماء أماكنها وشخصياتها، ولم نفطن إلى أن تلك الترجمة كانت سيئة ومنقولة عن لغة وسيطة. ثم حدث والتقيت غابرييل غارسيا ماركيز في مهرجان “كان” السينمائي، وقلت له إنني آتية من بغداد وأعرف ماكوندو. وضحك وأجاب أنه جاء من نيو مكسيكو ويحفظ ألف ليلة وليلة. ولم يكن قد نال جائزة نوبل للآداب بعد. وعندما قرأت “مزحة” لميلان كونديرا، تعلّقت به لأنني وجدته قريبًا من أجوائنا ومن تأويلات الجدران التي لها آذان. لا شك في أنني تأثرت بالكثير مما قرأت، الجيد والرديء. وكان الدكتور خليل صابات، أستاذي في قسم الصحافة، ينصحنا بأن نتعلم الأدب من قليل الأدب. ومثل كثيرين من مواطنيّ، تركت مكتبة عامرة في بغداد، وأسست مكتبة ثانية هنا. وما زلت أشعر بالأسى كلما دخلت مكتبة في باريس. كم عمرًا أحتاج لأقرأ كل الروايات الجميلة؟

* كيف جاءت فكرة الترجمة ثم تحقّقها؟

لم تكن هناك نسخة عربية مطبوعة لأوّل كتاب لي تُرجم إلى الفرنسية، فقد كان تقديمًا ومختارات من كتابات العراقيات في أزمنة الحروب والمحن. ولأنه صدر قبل الغزو الأميركي للعراق بأسبوعين، فقد لقي من يهتم به ويقتنيه ومن يكتب عنه ومن ينقله إلى ثلاث لغات أخرى. صار لي حضور في “غوغل” بلغة أجنبية. ويبدو أن من لا يحضر في هذه المعمعة، يفوته الكثير. وعندما نشرت روايتي الأولى، اتصل بي الناشر الإيطالي الذي ترجم الكتاب السابق وطلب ترجمتها. كما ترجمها إلى الفارسية أديب من الأحواز، عثر على نصها في الإنترنت. وبعدها اتصلت بي ناشرة فرنسية، واشترت الحقوق الأجنبية لروايتي الثانية “الحفيدة الأميركية”. وكانت قد سمعت عنها من مترجم لبناني تتعامل معه. وظهرت الطبعة الفرنسية وظهرت عنها مراجعات طيبة في الصحف، وتلتها الإنجليزية والصينية والإيطالية. أما روايتي الأخيرة، “طشاري”، فقد أرسلت ملخصًا لها إلى المحرر المسؤول عن الأدب الأجنبي في دار “غاليمار”، وأسعدني تلقي جواب سريع منه. طلبوا رأي خبيرين عربيين وجاء الرد إيجابيًا. وبالاتفاق مع الناشر، تولى فرانسوا زبّال ترجمة الرواية وصدرت قبل أيام.

* كل مبدع يأمل الوصول إلى قرّاء كثيرين ومتنوعين، هل لنا أن نعرف كيف استقبلت الصحافة والنقد الفرنسيان، إضافة إلى الجمهور الفرنسي، نُصوصَك المترجمة إلى اللغة الفرنسية؟

تعال أقل لك: ليست عندي أوهام في هذا المجال. ولا تتصور أن وصول رواية لي إلى الصين، يعني أنني صرت كاتبة عالمية. الكتاب الأول لقي اهتمامًا كبيرًا، لأنه كان ذا وقع سياسي وجاء مع حرب الخليج الثانية. والروايتان الأوليان لقيتا أصداء؛ بعضها طيب وبعضها متوسط في الصحف. واختيرت رواية “الحفيدة الأميركية” ضمن الروايات الخمسين التي حازت إعجاب أصحاب المكتبات، من مجموع أكثر من خمسمئة رواية صدرت في فرنسا تلك السنة، مع ضرورة تكرار أن هذا لا يعني انتشارًا كبيرًا ومبيعات خارقة. لكنني على الأقل “بيضت وجهي” مع ناشري. أما الرواية الأخيرة فلم يمضِ على نزولها إلى المكتبات سوى أسبوع، عساها تجد طريقها إلى القارئ. أهم ما في الترجمة، بالنسبة إلي، هو أنها تتيح لولدي ولابنتي التعرف إلى كتاباتي بلغة يتقنانها أفضل من اللغة العربية. وهو تقصير فادح مني.

* أنت تعرفين جيدًا وضعية الثقافة والأدب في فرنسا، وتعرفين أن الترجمة واختيار النصوص، ثم تسويقها، ليس بالأمر السهل، خصوصًا إذا كان موضوع العمل المُترجَم لا يندرج في الخانات المطلوبة مثل : الجنس، انتقاد الدين، إلخ. فكيف استطعت تجاوز هذه العقبات؟

لا أدري. لا بدّ أن هناك ناشرين يهتمون بما هو أبعد مما ذكرت. لقد كتبت عن شخصيات خاسرة ومحبطة، منفية أو مهاجرة، ملعونة أو مطرودة ولا حيلة لها، لكنها لم تفلح في تغيير أسمائها وملامحها العراقية ولا في تصريف دمها الحار. الجنس يأتي بشكل طبيعي، حين يكون له مكان في حياة الأبطال. وما يأتي طبيعيًا لا يصدم القارئ. أما انتقاد الدين فليس ملعبي. ولم أكتب عن بنات ونساء مضطهدات باسم الدين، لأن المرأة في بلدي لم تكن مهضومة الحقوق، وقد عاشت بنات جيلي حريتهن في الدراسة والعمل والحبّ واختيار الزوج. وفي ما عدا عملية تغيير جنس وحادثة اغتصاب في السجن، فليس في كتاباتي رائحة الفضيحة.

* ما هو جديدك؟

قصة حب عراقية أُحاول أن أجد الوقت لإنهائها.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى