رشا عمرانصفحات الناس

إننا نستحق الحياة/ رشا عمران

 

تقول صديقة لاجئة حديثاً في أوروبا: “ما يرعبني هو أن تأخذني الحياة هنا، وأبدأ شيئاً فشيئاً بنسيان سورية”. صديقتي هذه التي كانت قبل أوروبا تعيش مدة عام ونصف العام في بلد عربي قريب من سورية، تتابع: “هناك، كنت أشعر أنني ما زلت في الداخل، كنت على تواصل مباشر مع سورية، ومع القادمين اليوميين منها. لم أشعر لحظة أنني ابتعدت، كنت كمن يعيش داخلها، أتابع ما يحدث يومياً، رؤيتي مطابقة لما يحدث فيها، لا لما أتمناه. الآن، أراقب كيف يرى أصدقائي السوريون الذين سبقوني بسنوات إلى هنا ما يحدث، فعلى الرغم من أنهم متابعون جيدون وجديون للمتغيرات في سورية، ولكل ما طرأ على الثورة ولكل تحولاتها. لكن، ثمّة ما يجعلني أشعر أن علاقتهم بسورية أصبحت خالية من اللهفة والوهج، وبعيدة عن حقيقة الواقع. الواقع مخيف وسوريالي في الآن نفسه، وهذه البرودة تزيده سوريالية”.

وهي تحكي وتسترسل في وصف حالها، وحال من تعرفهم من سوريي أوروبا، فكرت أنني أنا أيضاً، منذ منعت مصر السوريين من دخول أراضيها، لم أعد أعرف حقيقة ما يحدث، إلا بما أقرأه عبر “فيسبوك”، أو بما تنقله نشرات الأخبار والتقارير الصحافية. ومن الطبيعي أن نقلاً كهذا لا يقدم الحقائق كاملة، أو يقدمها باردة وجامدة وحياديةً بطريقة أشعر معها أنني أصاب بالعدوى، فأصبح مثلها حياديةً، إلى حد ما، تجاه الحدث الذي يمسني بشكل مباشر، ويمس كل ما أحبه في حياتي، تذكّرت حين كنت أقابل القادمين حديثاً من سورية إلى مصر، كيف كنت أشحن بجرعات كبيرة من الغضب والقهر، كيف كانت مشاعري تجاه سورية ومأساتها متوهجة ومتوجسة بشكل دائم، بحيث أن أي حديث عنها يجعلني أنفجر بالبكاء، وأي مساس بالسوريين يجعلني أنفجر من الغضب. الآن، لم أعد كذلك، الآن، أنا حيادية، إلى حد ما، تجاه ما يحدث، أعترف بذلك، وأقوله بكل وضوح، أنا أقل حرارة تجاه سورية نفسها، لم أعد أفكر بها كما كنت في السابق. ما يعنيني منها حالياً هو حال أصدقائي وأهلي الموجودين فيها، يعنيني ألا يُصابوا بأي سوء، وأن يبقوا بخير. الآن، أنا أكثر انحيازاً لحياتي الشخصية، ليومياتي، لتفاصيل هذه اليوميات، منحازة لما يحقق لي مقداراً ما من السعادة، لما يجعل حياتي أكثر استقراراً وهدوءاً، وهذا أحياناً يسبب لي بعض الإحساس بالذنب، حين أفكر أنني أستمتع بحياتي، بينما من تبقى من أصدقائي وأهلي هناك معرضون للموت بأية لحظة، وحياتهم اليومية تقف على حافة الهاوية، غير أنني، أعترف أيضاً، سرعان ما أبعد شعور الذنب وأتابع حياتي، إذا كان هذا حالي، وأنا أعيش وحدي في بلد عربي، ثمة سهولة ويسر في تدبير شؤون حياتي معه.

لا أوراق رسمية علي متابعتها يومياً ولوقت طويل، ولا انتظار لاستلام بطاقة اللجوء والمساعدات، ولا التفكير بمشقة العودة إلى الدراسة، لمعرفة لغة البلد الذي أنا فيه، ولا البحث عن مدارس مناسبة للأولاد، ولا خوف من عدم الاندماج في المجتمع الجديد الذي انتقلت إليه. ليس لدي كل تلك الصعوبات. ومع ذلك، أصبحت سورية في الركن الخلفي من ذاكرتي، التفت إليها أحياناً، بحنين مفاجئ، لأملأ فراغاً يخلفه ذنب ما أنا فيه من أمان، فكيف، إذن، حال من لجأوا إلى أوروبا بكل صعوبات تأمين الحياة فيها؟ هؤلاء سيمضي عليهم وقت طويل، لا يستطيعون فيه حتى الالتفات قليلاً لبعض الحنين، سياق الحياة سيمضي بهم نحو الأمام، سيفكرون أولاً بمستقبل أولادهم، وسيفكرون كيف سيكملون حياتهم، وسيفكرون كيف ومتى يستقرون تماماً، سيفكرون بهذا كله قبل أن يفكّروا بسورية. هذا أمر لا يخجل، ولا يسبب الشعور بالذنب، هذا حق الحياة الذي تكفله كل شرائع الأرض. قلت لصديقتي اللاجئة حديثاً إلى أوروبا، والخائفة من فقدان لهفتها السورية: من حقنا جميعاً بناء ذاكرة جديدة، خالية من الموت قهراً وحزناً وعجزاً، من حقنا مواصلة حياتنا من دون الالتفات كثيراً إلى الخلف. العيش تحت وطأة الحنين لن يسبب لنا سوى التعاسة، فلنحيا، نحن ننتمي لشعبٍ يستحق الحياة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى