بشار العيسىصفحات الثقافة

إنها الحرب/ نديم جرجوره

إنها الحرب. يريدون حرباً؟ فلتكن. الجميع منخرطٌون في لعبة الموت. يريدون حرباً؟ فلتقع. الجميع منساقون إلى الخراب، وسطوة التفلّت من كل اجتهاد عقليّ “قد” يصنع هدوءاً. إنها الحرب. مندلعةٌ هي منذ سنين مديدة. لم يكن “الربيع العربي” سببها، بل كان جزءاً واهياً من مسارها التاريخي. لم يكن مُنتجها، بل أحد إفرازاتها. لم تتوقّف الحرب في هذا المشرق العربي. لم تولد فيه، بل وُلد فيها. لم يصنعها، بل صنعته. مشرق مفتوح على خيبات وانكسارات وآلام. على سواد يُظلّل كل شيء. على فضاء منغلق على أبنائه. على دمار يسحق ويُدمّر ويقتلع ويغتال. مشرق معتاد التشويه والتزوير والفبركة والخديعة. موسوم بشبق عنفيّ يُلغي تاريخه القديم من ذاكرة الإبداع، ويضع الراهن الوحشيّ في أزمنته كلّها.

إنها الحرب. حاضرة هي فعلاً وتأثيّراً. خبز يومي. منفى دائم. إقامة معلّقة على براكين مهتاجة. مرتبطة هي بالأمكنة واللحظات. بجذور الأمكنة واللحظات. لا فرار منها، ولا خلاص. لا حياة من دونها، ومعها. الموت الذي تحمله حياة ملتبسة. الموت الذي تريده عيشٌ محطّمٌ على شاشة مطفأة. إنها الحرب. لا الليل يُطيل عمر السهر، ولا النهار يجعل الجلوس في أزقة النهايات إطلالة أخيرة على جمال مندثر. الجمال مندثر منذ فجر الأزمنة. الجمال اللاحق وَهمٌ. كما الحياة. كما الكتابة. كما الصالة. كما الأشرطة المعقّمة بصُور وخيالات مُحبَطةٌ ومحبِطة، أمام وحش مقيم في أنهار حمراء، وداخل أبنية رمادية وسوداء.

إنها الحرب. القنابل لا تسقط. الرصاص يعلو في أوقات خاطئة. الأرواح تهيم كبؤس. الأجساد تتقوقع. الجدران تتماهى بفتنتها. الصدى انعكاس مجنون لشرايين ملطّخة بالنبذ والقهر والتفتيت. إنها الحرب. هي هنا. هي هناك. هي فينا. هي معنا. هي لنا. هي ضدنا. إنها الحرب. لا نفق يتّسع للغباء كلّه. للوحشية كلّها. للجثث كلّها. للنسيان كلّه. للمتاهات كلّها. لا نفق يتيح صبراً أو لجوءاً آمناً إلى أوهام الاستمرار. لا خاتمة تريح. لا بداية تُجدِّد. هذا مشهد متدَاوَل. لكن اعتياده لا يعني قبوله، ولا يعني قدرة على التحرّر منه. الناس مسكونون فيه. يتحايلون، فتنفجر الكوابيس فيهم. يرغبون في خدعة تنجّيهم من بعض خواء، فتضمحل النسمات من عيونهم المهترئة. الناس مسكونون بالحرب. يريدونها، لكنهم ينفرون من نتائجها. يمقتونها، لكنهم يتصرّفون وفقاً لأهوائها. يلتذّون بمساراتها، لكنهم يستيقظون على صيحات وأنين وفراغ. يسعون إليها. وعندما تأتيهم بجبروتها، يلوذون بآلهة تخشى الحروب، وتعجز عن إيقافها.

إنها الحرب. الدويّ يلحق بأحلام منزوية في أعماق نفوس توّاقة إلى الجريمة، فإذا بالأحلام شفاء للنفوس من مرض الهناء والطمأنينة. الدويّ صاعق. الدويّ قاتل. لكن الحكاية متغذّية من فوائد الركون إلى ظلام دامس، وجنون مفتون بالحماقة والخواء.

إنها الحرب. يكفي أنها حربٌ لا تنتهي، كي أُعلن أمامها عشقي الأخير لها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى