صفحات سوريةغازي دحمان

إنهم يستثمرون في الخطر!/ غازي دحمان

 

 

انتصر حزب الله في سوريا. ومن أبرز مؤشرات إنتصاراته تلك، الإرتفاع المهول بأعداد اللاجئين السوريين في لبنان وتخطيهم عتبة المليون لاجئ. ما يعني زيادة العبء الإقتصادي والإجتماعي، وإختلال التركيبة السكانية بتوازناتها الطائفية الهشة. والمفارقة، أن يصبح المهزومون في المقلب السوري خطراً يتشكل على المنتصرين في المقلب اللبناني، من دون أن يمتلك هؤلاء القدرة على وقف سياق تشكل ذلك الخطر، إلا زيادة في الإنتصارات على المقلب السوري!

ايران تنتصر في سوريا أيضاً، وإنتصارها مزدوج، فمن ناحية تكرس نفوذها من الخليج « الفارسي« شرقاً، الى شواطئ المتوسط غرباً، وهو أمر لم يحصل حتى في عز قوة إيران أيام حكم الشاه. ومن ناحية ثانية، فهي تستخدم الإطار السوري كحقل رماية لتدريب كتائبها العراقية واللبنانية، في سياق تجهيزها لإستكمال مهمة السيطرة على باقي التخوم، او لجعلها قوة تفاوضية مرهوبة بجيوش جرارة، يغطي نفيرها بقاع الشرق الأوسط كلها، من دون حساب انها تعرض بنى تلك الكتائب لخطر الإختراق والتصدع، وتعدد القادة الميدانيين وفقدان مركزية القرار، لإنها تستولد عشرات القادة من امثلة قاسم سليماني، والذين قد لا ترضيهم مرجعية الخامنئي.

روسيا تنتصر أيضا، القيصر يعيش أيام عز الصعود الروسي، جبروت الأسد وطغيانه وإجرامه، واحدة من أسباب ذلك الصعود، وموت السوريين ونكبتهم التي تلطم ضمير العالم، مؤشر على ذلك الصعود. كل ما عدا ذلك، هذر لا قيمة له في الموازين الإستراتيجية، طالما العبرة بالنتائج. والنتيجة حتى الآن صمود الوكيل بشار الأسد وارتفاع أسهم روسيا في سوق المساومات الدولية. ليس مهما ان تستنزف روسيا مخزونها الأخلاقي، وليس مهما أنها تراكم الازمة على أعتاب عاصمتها الإمبراطورية موسكو، بعد ان ساهمت في تخليقها في حدائقها الخلفية في الشيشان وقرغيزيا، وكل الحواضر الإسلامية القريبة.

وفي ظل مناخات الإنتصار تلك، لا يبدو ان احداً ينكسر، حتى أوباما استطاع ان يجد مكاناً له بين المنتصرين، وإستطاع أيضا خلق سياق لنصره، فما دامت خسائر جيشه وإقتصاده صفرا، فهو بالتأكيد ينتصر، وما دام خصومه، من موسكو الى طهران الى القاعدة وحزب الله، مستنزفين في حرب لا اخر لها، فهو يكسب بالنقاط، ليس مهما ان شروط الخطر باتت تنضج على نار هادئة، وليس بعيداً انفجارها في قلب مصالح اميركا في المنطقة، وفي وجه الأميركيين انفسهم، في نيويورك وشيكاغو وواشنطن.

اولئك كلهم تحكمهم فكرة جهنمية وساذجة في آن واحد، وهي تسوير الخطر وسورنته، ذلك ان الجميع مشدودون لفكرة إمكانية إنجاز الاهداف وتحقيق المكاسب، ثم انتظار ترجمتها على أرض الواقع. قوة تساومية وتمدد للنفوذ، ومناطق حيوية، كمرابض لقواعد عسكرهم. وتغريهم في ذلك اوهام ان الازمة لن تخرج من الحيز السوري، وان هوامشها لن تكون أكثر من حدود عرسال اللبنانية والرمادي العراقية، وعند تلك الحدود فإن قدرة ضبطها ستكون عالية وإمكانية تعطيل مفاعيلها الإرتدادية حاضرة، حتى انه جرى استعجال الإستعداد لهذا الإحتمال عندما جرت محاصرة عرسال شمالا ومهاجمة الأنبار شرقا!.

لا شك ان تلك تصورات تليق بمعارك سياسية قصيرة المدى، او نمط من الحروب ذات الطابع الادواتي وللاغراض الدبلوماسية، وليست بصراعات مأساوية، تستحضر وقودها من بطون التاريخ النائمة، وتستدعي كل شياطين التطرف، وينتج عنها ذلك الكم من المآسي، فهذا النمط من الحروب يصر على إكمال دورته التي لن تقف عند الهوامش التي يتم رسمها، بل تتعداها الى مراكز القرار والفعل، مهما كانت درجة التحوطات التي تجريها تلك الاطراف، وأيا تكن طبيعة الإحتياطات التي تتخذها. ذلك ان الحروب تصنع عالمها ومراكز القوى الخاصة بها، والجهات والمراكز المستفيدة، كما تفتح أبواب الفساد والبيع والشراء، وتستقطب أشخاصاً، وتورط دوائر بالإنخراط في الإنحرافات والفساد، وغالبا ما يجري التعامل مع الحروب في إطار أكثر من مستوى، وكل مستوى يطور سياقه الخاص ليتحول الى مشكلة بحد ذاتها، يستدعي تفكيكه بذل جهود توازي جهود صناعته وتشغيله.

لا خاسر غير السوريين، هكذا يعتقد مشغلو الأزمة، لذا فإنهم يعمدون الى التجريب فيها الى أقصى الحدود. ولعل آخر تجريبياتهم تتمثل بدفعهم وكيلهم بشار الأسد الى التصعيد الى أقصى درجة، عبر إعادة ترشحه لمدة رئاسية جديدة في سوريا. ولا شك أن هذه القفزة تمثل ذروة إستثمارهم في الخطر، إذ مثلت نهاية ولاية بشار الأسد فرصة للاطراف الداعمة له، للتخلص من استمرارية مقامرة دعمه، والإلتزام بكوارثه، التي صارت جرائم حرب موصوفة. كان ممكناً استثمار تلك الفرصة للبحث عن مقاربة تخرج الجميع من عنق الزجاجة، وتفتح أفقا جديدا يستفيد منه الجميع، لكن الواضح ان ثمار حقلهم لم تنضج بعد، بإنتظار حصول لهيب أكثر، انهم يستثمرون بالنار، بكثافتها وقدرتها على حرق جلود السوريين وحرق عمرانهم. لكن من يريد ضمان استدامة النار فليجهز لها وقودها الدائم، وليفتح خزائنه من البارود ….والبشر.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى