صفحات سوريةعبدالله أمين الحلاق

إنه مولود محفوض فهل عرفتموه؟


عبدالله أمين الحلاق

د. مولود محفوض مثقف وازن وناشط سياسي قبل أن يكون طبيباً، على ما يشير الحرف الذي يسبق اسمه. بل ربما كان هذا الحرف لزوم ما لا يلزم، وخصوصاً أنه تعدى هوساً أريستوقراطياً ونرجسيةً يقترنان به لدى عشاق الألقاب، ليمسي إشارة سلبية ومفارقة غبية من مفارقات الوضع السوري المثير للحزن والقرف.  فقد باتت لازمة “دال نقطة” مقترنة بأبواق كثر يحملون لقب دكتور جامعي أو محلل سياسي أو باحث استراتيجي ممن يظهرون على الفضائيات بربطات عنقهم الأنيقة وهم يرفعون رمزياً شعارهم المحبب “مطرح ما بتمشي وبتدوس… نحنا منركعلك منبوس”.

هو ابن معتقل سياسي أمضى سنوات في السجن يوم كانت الاعتقالات السياسية في الثمانينات من بداهات السياسة الداخلية السورية، غير أن تلك البداهات لم تتغير وإن تغيرت الطرق والأساليب وبعض الآليات. فوعود بثينة شعبان أبت إلا أن تزجّ بمولود محفوض في السجن ضمن حزمة الإصلاحات، بالتهمة التي قوبل بها كل معتقل رأي في سوريا: الحرية. مولود اعتُقل مرات منذ بداية الانتفاضة السورية حتى هذه اللحظة التي يقضي فيها اعتقالاً مضى عليه ثمانون يوماً، من دون أن يعرف أحد من أهله وأصدقائه مكانه. بات اسمه معروفاً في مدينة صغيرة ينتمي سكانها بالمعنى الطائفي والديني إلى أقلية قررت ألاّ تكون على الحياد في مسيرة الانتفاضة، لكنها، وفي الوقت عينه، تختزن طيفاً علمانياً بالغ الأهمية والدلالة على وطنية الانتفاضة وتجاور المشارب الفكرية والسياسية والدينية في جسدها. لمع اسمه بسرعة في أوساط المثقفين والمعارضين والأهالي المتعاطفين مع الانتفاضة بوصفه رمزاً من رموز الحراك، تدعمه وتغطّيه مظلة أخلاقية عالية وخلفية فكرية صنعتها قراءات تنويرية عميقة. لكن اسمه لم يكن في الوقت عينه، قليل الشأن لدى رجال النظام وشبّيحته في تلك المدينة، فكان أن حاولوا النيل منه والتشهير به بشتى الطرق.

اعتُقل للمرة الأولى في أيار 2011 بتهمة التظاهر، في حملة اعتقالات كان كاتب هذه السطور من ضحاياها قبل أن يفرج عن الجميع، ولتبدأ حملات التشهير بالمعارضين والمثقفين المشاركين في الانتفاضة. أعيد اعتقاله في حزيران بسبب أحد الوشاة أبلغ عنه وعن مواقفه من قضية التغيير الديموقراطي في سوريا، ذلك أن أحد أكثر النجاحات التي تُسجَّل للنظام السوري على امتداد العقود الطويلة، نجاحه في صناعة جهاز أمني قوي وتشعبات بشرية له من المخبرين المرتزقة، وهؤلاء أُطلقوا ليجوبوا شوارع المدن السورية منذ 15 آذار 2011 وبكثافة لا تقارن بنشاطهم قبل ذلك التاريخ، لتتجدد حملات الاعتقال في المدينة الوادعة تلك، التي عرفت بأنها مدينة محمد الماغوط وعلي الجندي وفائز خضور، لتصبح مرتعاً للأشنيات والطحالب اللزجة الثقيلة الظل وهي تريد تأبيد مستنقع الاستبداد الذي تطفو ببلادة على سطحه، لا تطيق أن تتفتح في ذلك المستنقع زهرة كمولود محفوض ورفاقه ممن يقبعون الآن في مكان ما، شأنهم شأن معتقلي الرأي والضمير في سوريا، تحت رحمة سجان لا يفقه معنى الثقافة والمثقفين، ولا يقيم وزناً لكتبهم ودفاترهم ومذكراتهم ومحاولاتهم الكتابية وصورهم التذكارية مع أطفالهم. سجّان لم يقرأ كتاب “حيوَنة الإنسان” لممدوح عدوان، هو مجرد آلة ميكانيكية للبطش والتنكيل بضحاياه، ولن تعنيه طبعاً صورة الراحل الحبيب سمير قصير التي ركنها د. محفوض بين كتبه وعلى رفوف مكتبته الخاصة.

في الشأن الشخصي، ليُسمَح لي بأن أجنح نحو الصداقة الشخصية وهواجسها قليلاً، وأنا أسند ظهري إلى حائط مهمل في ليل مدينتي الطويل، مع علي وردة، نتقاسم البرد عن بُعد مع صديقنا المشترك في صقيع زنزانته، وقطرات المطر تنهمر بهدوء وثقة وهي تبشرنا بشتاء ممطر وموحل وصاخب، يتلوه ربيع بلون الورود التي جاءتني يوم الخطوبة موقّعةً باسم مولود وعلي، لتكسر تلك الورود عزلتي وأنا جالس قرب الحبيبة، يخيّم على تلك الليلة شبح الدماء والبؤس وعذابات الشعب السوري ونزيفه اليومي الذي لا يتوقف، وهو يقاوم بداهات الموت ويرسم الأفق باللون الأرجواني ويخترع الضوء ويغرس الأمل في نفوس كل من تسول له نفسه أن يصاب، ولو للحظة، بداء الإحباط القاتل. عندها، سيختفي  المرتزقة والأبواق، وتختفي معهم ألقابهم التي اغتصبوها بالرشاوى والتملق والعلاقات المشبوهة والولاءات القطيعية للأقوى، وسيجف وحل هذه البلاد ويحرز الشتاء والربيع معناهما الحقيقي، وسيكون لضحكة مولود محفوض وصورة سمير قصير الجالسة بهدوء بين الكتب بابتسامته الدائمة والساخرة، بريقٌ ومعنى يتحققان أخيراً.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى