صفحات المستقبل

إن لم أكن سورياً فمن أكون؟!

يسار قدور

أنا عمار ياسر السلامات، أحدثكم من مدينة الرمثا الأردنية التي لجأت إليها مع من تبقى من أهلي. أذكر تماماً ذلك اليوم الذي بدأت فيه رحلتنا المضنية نحو الجنوب، لقد كان في بداية شهر رمضان من العام الفائت، وتحديداً في الرابع والعشرين من شهر تموز عام 2012، قد يقول بعضكم إني طفل وربما أخطئ في حفظ التاريخ بدقة، لا يا سادتي لقد حفر هذا التاريخ في ذاكرتي عميقاً، وأحفظه (عن ظهر قلب) كما تقولون في أحاديثكم.

كانت رحلتنا مشياً على الأقدام وأبي يحملني طوال الوقت، لكني لن أنسى ماحييت صورة أمي وهي تمشي ودموعها تسبق خطواتها، لم أجد الشجاعة لسؤالها إن كانت تبكي على بيتنا الذي أصبح ركاماً، أم على أقاربنا الذين فقدناهم، أم أنّ بكاءها كان على حالي وما أصبحتُ عليه، لكني وجدت الجواب في ابتسامة أبي التي لم تفارقه رغم ملوحتها لامتزاجها بعرقه الذي يسيل منه بسبب أشعة الشمس، أو بسبب تعبه لأنه يحملني. رغم أنه كان صامتاً معظم الوقت، إلا أنني أحسست بابتسامته ونظرته وكأنه يقول لأمي: افرحي يا عزيزتي فمازال ياسر حياً.

أنا مجرد طفل ولا أجيد الكلام في العلوم والسياسة والتحليل مثلكم، لهذا قررت أن أتحدث عن نفسي، قد يكون بعضكم قد سمع عني، وقد يكون الكثيرين لم يسمعوا بي أصلاً، أعذركم على ذلك بما أن مَن يفُترض به أن يكون رئيساً لبلدي قد أنكرني تماماَ.

أسأل نفسي بعد أن أنكرني الرئيس: من أنا؟! وهل أنا موجود حقاً؟!

هل من المعقول أن تكون مدينة الحراك التي ولدت وعشت فيها سراباً أو نسيجاً من خيال طفلٍ لا أكثر؟!

لقد أكد لي أبي أنّ الحراك مدينة سورية تقع على هضبة حوران، ونحن عائلة من سكانها الذي يبلغ عددهم ثلاثين ألفاً، ونملك بيتاً فيها وسوف نعود إليه حتى وإن طالت إقامتنا هنا، والذي أعرفه أنّ أبي لايكذب أبداً.

لم أخسر هذا الماضي الذي جردني منه الرئيس فقط، كنت أملك حلماً جميلاُ وخسرته أيضاً، فأنا أحب كرة القدم كثيراً، وكنت أتخيل نفسي دائماً سأكبر وأصبح لاعباً مشهوراً مثل ميسي – أعتقد أن جميعكم قد سمع به – وأتخيل أني سأمثل منتخب بلدي سوريا وأرفع رايته عالياُ، لكن في صباح ذلك اليوم الصيفي من شهر تموز كنت ألعب كرة القدم مع أصدقائي، وأذكر حينها أني سجلت هدفين، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي ألعب فيها كرة القدم في حياتي لأني فقدت رجلي التي كنت أسجل من خلالها الأهداف، وضاع حلمي باللعب وتمثيل منتخب وطني في المستقبل. أريد أن أخبركم أيضاً أن حبي لكرة القدم لايعني أني كنت مقصراً في دروسي كما قد يخطر في بال الكثيرين منكم؛ لقد كنت مجدّاً في دروسي بل كنت تلميذاً مهذباً أيضاً، واسألوا معلمتي عني لتتأكدوا من كلامي. وهنا سأخاطب معلمتي لأعتذر منها، فلن أستطيع أن أقدم لها بعد اليوم باقات ورد الجوري التي كنت أقطفها من حديقة بيتنا لأني فقدت يدي أيضاً. أريد أن أقول لك يامعلمتي أني كنت أفرح كثيراً حين تقولين لي: “تسلم إيدك يا ياسر”.

سأروي لكم القصة كما حدثت، بعد أن عدت من اللعب مع أصدقائي دخلت للاستحمام، “ولما طلعت من الحمام وأنا ماشي نزل الصاروخ علينا”، هذا ما أتذكره، أخبرني أبي فيما بعد أنّ الذي سقط علينا لم يكن صاروخاً وإنما قصف مدفعي أو قذيفة هاون، لاأدري ما قاله على وجه الدقة، اعذروني فأنا لا أميز من الأسلحة سوى (فرد الميّ)، أي مسدس الماء الذي كنا نشتريه لنلعب به في أيام الأعياد، فكيف لي أن أعرف نوع السلاح الذي سيُقال أنه أخطأ الجماعات المسلحة والارهابيين وتنظيم القاعدة وأصابني مع عائلتي ومن كان معنا من أقاربنا.

لن أخفي عنكم أن بعض الأولاد من عمري حسدوني حينما أجرت إحدى الصحف الانكليزية لقاءً معي لتنشر قصتي، لأن هذا يجعلني مشهوراً بنظرهم، لكني حين سمعت مؤخراً أنّ الرئيس الذي علمونا في المدرسة أن نهتف له (بالروح بالدم نفديك يابشار) قد أنكرني في حديث له مع نفس الصحيفة الانكليزية ذاتها، وأنكرعلي أيضاً جنسيتي السورية التي علمتني معلمتي أن أعتزّ بها، تألمت كثيراً من هذا الخبر، فأنا طفل من لحم ودم ومن أبوين سوريين أيضاً، وأنا واحد من أربعة عشر ألف طفل، خمسة آلاف منهم أصبحوا “عصافير في الجنة”، كما أسمع أمي تقول دائماً، أما نحو تسعة آلاف آخرين فهم قيد الاعتقال وأحلامهم مؤجلة كما هي حياتهم.

أما عن شعوري في هذه اللحظة فأكثر ما أتمناه هو أن أرى معلمتي، التي طالما أحببتها، ووجدت عندها الأجوبة لكل أسئلتي، أريد أن أسألها لماذا كانت تعلمنا أنّ حب الوطن من الإيمان؟ ولماذا كنا ننشد معاً أغنية (أنا سوري يا نيّالي)؟ أريد أن أعرف فقط: مَن أنا؟ وإن لم أكن سورياً فمن أكون؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى