صفحات الثقافة

إن لم تكن الحكمة، فهل تكون الحرب؟!/ هنادي زرقه

 

 

 

أن تعيش في بيت العائلة بصحبة أمٍّ عجوز في قرية نائية، تلك الأم الــتي أودعتكَ، دون أن ترغب، حكاياتها ونصائحها جميعاً، وذهبتْ في رحلة تيــه طويــلة، هذا يعني أن الزمن قد غافلــك، وغدوت في ســنّ الأربعين.

وماذا يعني أن تبلغ الأربعين؟

الأربعون هي سن النبوة، وفيها هبط الوحي على النبي محمد، كما أنها سنٌّ ملائمة لاستكمال أحلام ومشاريع كثيرة، وهي ليست عمراً كبيراً نسبياً، فبإمكــانك أن تبدأ من الصفر في أي عمل تريده، إن كان النبي نفسه قد تلقى النبوة في هذه السن واجترح لنفسه طريقاً جديداً غير طريق أسلافه.

قد يبدو هذا الكلام منطقياً في حالة غير الحالة السورية التي نحياها منذ أربعة أعوام ونيّف، في ظلّ حرب مستعرة لا تعرف من ينتصر فيها ومن يُهزَم، الكلّ منتصرون والكلُّ مهزومون، وأنت مهزوم فيها لحظة خروجك من رحم أمك.

تتابع حياتك حذراً من موت طائش وغير طائش، وتباغتك تلك القدرة على الغفران، تمثّل على الدوام، حكمة أمك العجوز، أمك التي تجلس على كرسيِّها وتستند الى عكاز قديم مكتفية بهزِّ رأسها كلَّ حين من دون أن تبدي أيَّ رأي.

هل هذه أنا بالفعل؟

ما الذي أصابني؟

لا أغضب، لا أتذمر، ما هذه الحكمة التي هبطت عليَّ فجأة؟ من أين تأتي؟ وهذه اللامبالاة بالأشياء، بالزمن الذي ينزلق سريعاً، بأغراض المنزل، بالنزاعات العائلية والمادية، كلُّ هذا غريب عليَّ. أنا التي كنت أقعد الأرض وأقوِّمُها لأتفه سبب.

ما هذه الحكمة

أقف على مسافة محايدة وكأنَّ لا شيء يعنيني، كأنَّ كلَّ شيء إلى زوال، هل هي الحكمة التي اكتسبتها بفعل إقامتي الطويلة مع أمي المصابة بألزهايمر ما يجعلني آخذ هذا المنحى العدمي في التفكير؟! أم إنها الحرب؟!

لم أعد أقلق بشأن مواضيع كثيرة، لا الغيرة على الحبيب أو الشجار معه، لا انقطاع الكهرباء والماء، ولا يعنيني نفاد السلع الجيدة من السوق، وغلاء الأسعار لا يستفزني، هي الحرب تقتل كلَّ شيء. كأنني غدوت شخصاً آخر اعتاد خسارة الأشياء، كما لو أنني أستبدل أسناني اللبنية بصخبها وفرحــها وأخطائها بأسنان دائمة، لا خسارات، ألم خفيـف وبعدها أرتدي جلدي السميك.

ما الذي حدث لروحي في هذه الأعوام الأربعة؟ ماذا لو لم تقع الحرب؟!

هل كنت سأتنازل قيد أنملة عما حلمتُ به وعملت لأجله أعواماً طوالاً؟ هل كنت سأتقبل البشر بالطريقة نفسها التي أتقبلهم بها الآن؟ أبرّرُ أخطاءهم وأجد نفسي مُلامةً في ما يحصل من حولي.

أقول ربما كنت السبب بابتــلاء أمي بمرض ألزهايمر، إذ كيف يمكن أن تحتــمل أمٌّ فتاةً مثلي؟ «تدخّنُ كثــيراً مثــل الرجال، غارقة في الكتب، متسكعة، قليــلة الكلام في المنزل، ثرثارة خارجه، مشــغولة عني على الدوام، ولا تتصرف كباقي الإناث في عمرها».

ربما كنت أنا من أشعل فتيل الحرب.

أتراه ذاك الندم الذي يأتــي متأخــراً ولئيماً وحادّاً كعادته؟! ندمٌ على أشياء لم أفعلها، لم يسعفني الحظ أو الوقــت ولا مكان ولادتي. كان عليَّ ارتكاب مزيد من الأخطاء لأشعر بالندم، على الأقل، كما يشعر العجائز.

الأربعون

الأربعون أعوام قليلة، لكنها بدت لي حياة مديدة طويلة بحكم علاقتي بالعجائز الذين تناوبوا على الإقامة معي في هذا المنزل، جدتي لأبي، ثم جدي لأمي، لأنتهي مع أمي. حفظت حكاياتهم عن ظهر قلب مذ كنت صغيرة، وكان همّي كلّه في بداية عشرينياتي أن أتخلص مما علق بي منهم، غير أنني لم أنجُ، ها أنا في الأربعين أزداد شبهاً بهم، أمثّل رصانة لا أمتلكها، وأدّعي حكمة لا تمتّ لي بصلة، أصمت فتراتٍ طويلة، ليس حبّاً بالصمت، ولكنني لا أجد من أكلمه في المنزل. أُصاب بآلام المفاصل والظهر مبكراً، وكشأن العجائز أستيقظ محنية الظهر وأردّد بين الحين والآخر: «الله يفرجها» أين لي مثل هذه السكينة والحرب لم تبق عاقلاً في هذه البلاد.

ماذا عن الأحلام؟! هل تشيخ الأحلام؟!

هذا ما انتبهت إليه منذ مدة، لم يعد بإمكاني أن أحلم بإنجاب طفل، على سبيل المثال، كلما راودني هذا الحلم في يقظتي أبعدته قائلة: «هذا الحلم لا يناسب عمري»، كما أنه ليس من الحكمة أن تنجب طفلاً في الحرب، ثم من أيــن آتــي بزوجٍ؟ وقد نفد شباب ســوريا بالهجــرة والمــوت والاعتقال.

ثمة مقاسات للأحلام إذاً، أحلام العشرينيات تختلف عن أحلام الأربعينيات، لكلّ سنٍّ أحلامها.

فلأركّز على شيء آخر، سأستقيل من عملي وأقبض مستحقاتي المالية في نهاية الخدمة لأشتري كتباً كثيرة لم يكن بإمكاني شراؤها في ما مضى، وسأزور إيطاليا وإسبانيا، البلدين اللذين حلمت بزيارتهما كثيراً، لم لا؟!

آه… تذكرت! كلّ ما سأقبضه لا يكفي لشراء تذكرة سفر إلى أي من البلدين الآنفي الذكر، فكــيف لي أن أحلم بالسياحة فيهما؟!

ماذا عن آلام الظهر والمفاصل، ماذا لو أصابني العجز؟ سأدّخر مستحقاتي المالية لعمل جراحي لا بدّ أنني سأجريه في الشيخوخة، هذا إن لم أقضِ في الحرب!

لماذا تغدو الأحلام عسيرة إلى هذا الحدّ؟!

لاجئة

حسناً، سأعدل عن فكرة السياحة، لكنني لن أتنازل عن حلمي في أن أغدو لاجئة في دولة أوروبية تحترم الشعراء وتُجلّهم، لم يبق أحد إلا وحقق حلمه في اللجوء، ماذا عني!؟ فلتكن ألمانيا، ألمانيا تعجّ بالسوريين، لن أقاسي الغربة فيها، لكنني لا أجيد الألمانية، ومن الصعب عليَّ أن أتعلم لغة جديدة وصعبة كالألمانية في سنّ الأربعين، ثم إنني لا أستطيع أن أحلم بلغة أخرى غير العربية، كيف تغدو الأحلام وقد ألبستها حلّة ألمانية؟!

يبدو عسيراً عليَّ، بالفعل، ابتكار حلم على مقاسِ عمري.

ربما كان آخر وأصعب ما أحلم به هو أن تنتهي هذه الحرب اللئيمة، وبعدها فلتترمّد أحلامي.

أية مجنونة؟ كيف ستنتهي هذه الحرب وقد غدت «سمائي وأرضي ومائي» ملعباً لجيوش العالم كله بطائراته وسفنه.

ربما عليَّ أن أخفض سقف أحلامي قليلاً، فلأقبل بهدنة، هدنة قصيرة كي أستطيع تفصيل حلم يناسبني تماماً.

لا أعرف إن كانت الحرب، أم أمي، أم سنواتي الأربعين، هي المسؤولة عن إجهاض أحلامي. لا أعرف، بالفعل، ما هي الحكمة التي هبطت علينا لنأخذ قرار البقاء هنا على الرغم من استمرار الحرب والدمار، ونستمر في الحلم، سنحلم بسوريا جديدة أرضاً لأحلامنا الكبيرة، سوريا المتعددة، فهذا الحلم على مقاسنا ويناسب الأعمار كلها.

(كاتبة سورية)

يوم من حياة شاعرة سورية. يوم ليس قصيراً والآلام والضجر يحيلانه مديداً

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى