مراجعات كتب

إيرانية في “جمهورية الخيال”/ عبده وازن

 

 

هل تخلت الكاتبة أذر نفيسي عن انتمائها الإيراني نهائياً لتصبح أميركية؟

هذا السؤال ما برح يُطرح في الصحافة الغربية كلما أصدرت صاحبة «قراءة لوليتا في طهران» كتاباً جديداً. لكنّ أذر تدرك أن الجمهورية الإسلامية في إيران لا يمكنها أن تجرّدها من انتمائها الأصلي وأن تقتلع جذورها ولو أسقطت عنها الجنسية. وتدرك أيضاً أن الولايات المتحدة التي منحتها الجنسية الأميركية عام 2008 تعجز عن إلغاء ذاكرتها الأولى، الفردية والجماعية، وسلبها علاقتها بالأرض – الأم. أما التهم التي كيلت لها في إيران غداة خروجها الى المنفى الأميركي فبدت واهية جداً، فهذه الكاتبة العلمانية والمناضلة عانت في عهد الشاه ما عانته في عهد الثورة الخمينية. الشاه سجن والدها، المثقف الطليعي والمتنور، والنظام الخميني المتشدد، اضطهدها ومنعها من التدريس والقراءة الحرة ثم دفعها الى سجن نفسها في منزلها مع بضع طالبات وصديقات ليقرأن بالسر رواية «لوليتا» وسواها.

أذر نفيسي إيرانية وأميركية في آن واحد، ولا تقدر على التخلي عن الانتماءين. إنها كلتاهما معاً، لكنّ المنفى الذي رد اليها الحرية والكرامة الشخصية أشد رأفة من المنفى الداخلي الذي حرمها حقها كامرأة أولاً ثم كإنسانة ثم كمواطنة… خسرت إيران هذه الكاتبة التي أصبحت عالمية، وبدت خسارتها إياها واحدة من فضائحها الثقافية، لكنّ أميركا لم تربحها، كدولة ونظام، مقدار ما ربحها الأدب الأميركي والقراء الأميركيون. وفي كتابها الجديد، تعلن أذر انتماءها الى دولة واحدة هي «جمهورية الخيال»، وهو العنوان الذي اختارته لهذا الكتاب الشخصي الذي سرعان ما تُرجم الى لغات عدة، منها الفرنسية. لكنّ هذه «الجمهورية» لم يُتح لها إنشاؤها لو لم تكن تقيم في أميركا «المكان البسيط للحياة أو اللجوء» كما تقول. وفي هذا الكتاب، عمدت بجرأة الى نقد ظواهر سلبية عدة، ومنها مثلاً: التيار الثقافي المحافظ، هيمنة الأيديولوجيا الليبرالية المتطرفة، النزعات المادية، صعود ثقافة السوق والميديا… وفيه أعلنت أيضاً مثلها مثل الروائيين الأميركيين بول اوستر وفيليب روث وسواهما، أن الرواية في أميركا تواجه الآن خطراً أمام الزحف الرهيب لثقافة التويتر واليوتيوب.

لم تبتعد أذر نفيسي في كتابها الجديد عن عالم الروايات والكتب، لكنّ «الجمهورية» تختلف عن «قراءة لوليتا…». القراءة هنا فعل حرية وليست وسيلة للهرب من الواقع أو مواجهته بالسر، إنها فعل تحديق في الواقع عبر «نظرة جديدة بعينين نظيفتين» كما تنقل أذر عن تولستوي. وتمضي في مديح القراءة الروائية الحرة، واصفة إياها بـ «المعرفة التخيّليّة» التي تساعد القراء على صوغ موقفهم من العالم وعلى إيجاد مكانهم فيه. في «قراءة لوليتا…» لم يكن مكان القراءة قائماً في العالم وإنما على هامشه، في عزلة البيت السري، أما في «الجمهورية» فأصبحت القراءة حال انتماء ومواطنة. وفي قراءة الأدب يكمن ما تسميه فعل «التحرر»، التحرر من القيود أياً تكن، ومن الظلم والطبقية والعنصرية العرقية والدينية.

إنها جمهورية بلا حدود، لا قمع فيها ولا اضطهاد، ومن يدخل اليها لا يحتاج إلا الى جواز سفر رمزي هو الفكر الحر والرغبة في الحلم، كما تعبر. أما الهوية وإشكالاتها فلا وجود لها في هذه الجمهورية. السلطة هنا هي سلطة المخيلة والفرد لا يخضع لإرادة الجماعة. إنها الجمهورية التي لا يتم فيها سوى ما تسميه الكاتبة «التقاسم الإنساني». هذه ليست جمهورية أفلاطون ولا مدينة الفارابي الفاضلة ولا حاضرة اوغوسطينوس… إنها مملكة الخيال متجسداً في القراءة والقراءة الروائية خصوصاً، وفي القدرة السحرية التي يملكها الروائيون والتي تتيح لهم خلق عوالم وشخصيات تفوق التصور.

قد ينتمي كتاب «جمهورية الخيال» الى الأفق الذي تدور فيه كتب بورخيس وإيتالو كالفينو والبرتو مانغويل، لكنه يتفرد في جمعه بين السرد والتحليل الأدبي الحر والحي وغير الأكاديمي، وفيه تتطرق أذر الى روايات أميركية تحبها والى شخصيات هامشية مثل هوك فين بطل مارك توين وأبطال روايات كارسون ماكلورز وجيمس بالدوين وسواهما. عندما قرأ البرتو مانغويل كتاب أذر قال فيه: «جملة فلوبير»القراءة من أجل الحياة»، تتجسد في هذا الكتاب المفتون والفاتن». أما الرسامة والسينمائية الإيرانية- الفرنسية المعروفة مارجان ساترابي فقالت عن الكتاب: «جميعنا مواطنون في «جمهورية الخيال» لأذر نفيسي. بلا خيال ليس من أحلام. وبلا أحلام ليس من فن. وبلا فن ليس من شيء. كلمات أذر نفيسي جوهرية».

لا يهم أن تكون أذر نفيسي إيرانية أو أميركية. الكاتبة التي اقتلعتها الجمهورية الخمينية ونفتها، وجدت نفسها في منفاها الأميركي وصوتها وحريتها، لكنها آثرت أن تقصر مواطنتها على «جمهورية الخيال»، هذه الجمهورية المفتوحة أمام مواطني العالم، هامشيين وحالمين.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى