حمّود حمّودصفحات سورية

إيران في كل المشرق: بين الدولة واللادولة/ حمّود حمّود

 

 

بإثبات إيران أنها جزء من الواقع المترهل لـ «الربيع العربي»، جزء لا يمكن تجاهله، فإنه من الصعب العثور على حفرة واحدة من حُفر هذا الربيع إلا ونجد «الجمهورية الإسلامية» في قعرها (سورية، اليمن، البحرين، العراق، ومصر في جزء كبير من أزمتها السياسية…الخ). وبالفعل، لم يكن إعلان القادة الإيرانيين، بدايةً، أنّ «الربيع العربي»، وبخاصة في مساره المصري، هو امتداد أكيد لـ «الثورة الإسلامية»، إلا إثباتاً على قعريّة إيران في ما سيحلّ بالعرب لاحقاً وبخاصة في العراق وسورية، وإنْ كان «تحرير» فلسطين قد مثّل المدخل الرئيس لها قبل أنْ تُحفر حفر الربيع المتساقطة. لكنّ مسألة كيف استطاعت إيران، وبهذه القوة، أنْ تعلن عن «إسلاميّة الربيع»، وفي الواقع أنْ تعلن عن المساهمة في تدميره، فهذا ما يمكن التقاطه من زاويتين كبريين: الأولى، مسألة الميوعة بين الدولة والطائفة في إيران، ما يعني ميوعة التوغل الإيراني في أي جغرافية سياسية عربية تراها ملعباً حيوياً ودينياً لها، كما سنبين في هذه العجالة سريعاً؛ والثانية، من زاوية الاستمرار في تساقط الدولة العربية، الهزيلة أصلاً.

لكنْ، بداية، هناك نقطة ربما من المهم تسجيلها على الهامش تتعلق بعمق المصائب والتصاعد الأصولي المشرقي، الإيراني منه والعربي: ما بين الأصولي السنّي والأصولي الشيعي، في النظر إلى النظام السياسي، هناك افتراق مهم بينهما ويسكن خلف كثير من هذه الأصوليات اليوم: فالأول، الأصولي السنّي، دائم الظن بالدولة (ونشدد على كلمة الظنّ) على أنها الدولة الإسلامية التي عايشها ثم افتقدها، وهي بالتالي الدولة المفتقدة، التي كانت قائمة ثم تمّ اقتلاعها على يد «اليهود والصليبيين» (وإنْ كان هذا الأصولي تاريخياً قد شكّل مفهومه السياسي عن «الدولة الطوبى» على الضد من شرعيتها، لكنه يعتقد على رغم ذلك أنه عايش شيئاً من الدولة)؛ في حين أنّ الثاني، الأصولي الشيعي، فإنّ عاملَ معايشة الدولة الإسلامية فيه عاملٌ مفقود بالأصل، ولم يتشكّل مفهومه السياسي عن الدولة إلا على «هامش الدولة المركزية» لا في حضنها أو من داخل ركائزها؛ الأمر الذي أدى بالأيديولوجية السياسية الشيعية أنْ تتطبع في مفهومها السياسي عن الدولة بميكانيزمات الدولة «المعارضة» دوماً، لا ميكانيزمات الدولة المركزية، أي الدولة ضد – المركزية.

ما يعنيه هذا أنّ أي نظام سياسي شيعي ينشأ سيأخذ طابعاً ضدياً، طابعاً مشاغباً، إذا جاز لنا استخدام هذا الوصف. أي أنه إذا كانت هناك ضديات أصولية سنية مركزية من الداخل السني، وهو كذلك، فإن هناك ما ينتظر هذه البقعة المشرقية وهو احتمالية قيام ضديات دولتية من على هامش المركز، ضديات ليست وظيفتها إلا المعارضة، إضافة إلى حجج تمثيل ما يُظنّ أنه الحق المغتصب من قبل النظام أو الأنظمة السياسية للمركز. ولنا أنْ نلاحظ سياسة إيران في المنطقة المشرقية تحت حجة تصدير الثورة الإسلامية منذ تأسيس الجمهورية الخمينية وما هي وظائفها المعارضة، الضدية طبعاً، بدءاً بتحرير فلسطين «الإسلامية» سنياً وشيعياً، وليس انتهاء بالعراق ولبنان وسورية…الخ. وهذا ما كان له نتائج في الأصوليات الشيعية الحاضرة وتوغلها في العمق الضدي الآخر للأصوليات السنية.

من هنا، فإنّ أحد الأسباب المهمة في هذا التقعّر الإيراني في الأجسام السياسية العربية هو الترهّل الثقافي والسياسي والديني في البيت الإيراني نفسه. لا يمكن أن نتغافل عن الإشكال الذي يعاني منه الفضاء الإيراني كذلك في ما يتعلق بأين تبدأ حدود الدولة وأين تنتهي. وإذا كان هذا الأمر ليس محسوماً سياسياً فإنه بالقدر نفسه، من زاوية موازية، ليس محسوماً دينياً. وفي كلتا الحالتين إذا كان جرح الأصولي العربي في الدولة يتجسد في مسألة تمزقه بين لاشرعية يعايشها وشرعية يبحث عنها مخيالياً (انظر «الأصولي وجرح الدولة»، الحياة، 15 حزيران/يونيو، 2014)، فالأصولي الإيراني يعاني من هذا التأزم أيضاً، لكنْ ينضاف إليه التعقّد التاريخي، الديني/الطائفي والسياسي، لحدود الجمهورية الخمينية من جهة، وعلاقة إيران الإشكالية بالغرب والإقليم المحيط أو المناطق العربية، وهي علاقة بالأصل متأزمة تاريخياً، من جهة أخرى.

الميوعة في الحدود بين الدولة والطائفة يعني ميوعاً في القفز إلى ما وراء الحدود والدخول في حدود واختراع حدود…الخ؛ وبالطبع، المشرق هو الملعب الطبيعي لهذا القفز.

في إيران، ليس هناك، بالفعل، وضوح بالنسبة الى أين يبدأ الحلم الإيراني وأين ينتهي، أين تبدأ الدولة وأين تنتهي الطائفة. وهذا ما عنى وفق مسار الديمومة العربية المترهلة ديمومةً في حصاد إيران من عمق الخراب العربي في أكثر من منطقة عربية، حيث سياستها هي أنه أينما يوجد شيعة أو مقامات وآثار شيعية فهناك حتماً وجود لإيران! وذلك تحت حجة تمثيلها للبيت الشيعي وحمايته من «العدو» المتربص بهم (وحتى هذا التمثيل لا يقتصر على هذا، بل يمتد بجرة مخيال وقلم، كما هو في الحلم الخميني، إلى تمثيل العالم الإسلامي)؛ من غير أنْ ننسى أنّ ضبابية الحلم هذا تقع في أسّها المخيالي ضبابيةٌ في مفهوم الهوية الإيرانية (سياسياً وقومياً فارسياً وشيعياً دينياً).

وبالتالي، ما بين الخراب والتصحّر العربي، من جهة، والتقعّر الإيراني في هذا التصحّر، من جهة ثانية، هناك دائماً عامل غياب الحدود بين الدولة والدين/الطائفة، الأمر الذي يشكل لإيران غصناً ذهبياً في الامتداد في أيّ رقعة تتقاطع معها أيضاً مسألةُ تغييب عامل الدولة (لبنان مثال تاريخي مهم على هذا التقاطع في عامل غياب الدولة).

هكذا، ومن هذه الزاوية، بالإمكان قراءة ماذا يعنيه الإعلان الإيراني عن «إسلامية الربيع» بكونه مدخلاً لتخريب الربيع؛ لكنْ، وبنفس الوقت، لم يكن هذا الإعلان إلا لتحصين أبواب طهران من مفاعلاته، طالما أنّ الطبقة السياسية الحاكمة تشعر أنها أنجزت مهمتها في الثورة وانتهى التاريخ عندها! لكنْ، تاريخياً، طالما أنّ إيران هي جزء أصيل من الاستبداديات المشرقية، فإنّ أبوابها ليست محصنة في أي لحظة من الإمكانات التاريخية لسكة التغيير، وربما ليست محصنة حتى من سكة التخريب التي تساهم فيها في بلدان المشرق.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى