صفحات سوريةمصطفى كركوتي

إيران ونفوذها الذي لا يرحم/ مصطفى كركوتي

 

 

لم يحدث قط في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر أن مارست دولة واحدة منه، في وقت واحد، نفوذاً مؤثراً في ستٍ من دوله على الأقل، مثل ما تفعل إيران منذ بضع سنوات. فقط مرة واحدة من ذلك التاريخ الغابر جرت محاولة واسعة لبسط النفوذ على الدول الأخرى، مع مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في الستينات، حيث كان التدخل المباشر في اليمن بين 1962-1967. ولكن تلك السياسة لم تؤدِّ أبداً إلى نتائج كارثية كما يحصل الآن نتيجة السياسة الإيرانية. ففي حين لم تغير قيادة عبدالناصر الواقع الديموغرافي والجغرافي في مناطق نفوذها، تبدو القيادة الإيرانية غير آبهة بما يجري حولها من تغيير ملموس وسريع في نسيج المنطقة، بل إنها تلعب دوراً مباشراً في هذا التغيير لا سيما في سورية والعراق.

يتساءل البعض إن كانت طهران ستعيد النظر بسياستها الإقليمية بعد التوقيع على اتفاق الملف النووي مع الدول الخمس الكبرى وألمانيا. صحيح أن المفاوضات مع إيران حول ذاك الملف كانت شاقة وطويلة، إذ بدأت في 2003 مع ثلاث دول أوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) قبل أن تنضم إليها الولايات المتحدة وروسيا والصين في حزيران (يونيو) 2006، عقب تبني مجلس الأمن الدولي ستة قرارات دولية في شأن نشاط إيران النووي. فتطبيع العلاقات المنتظر مع إيران يضعها الآن تحت أنظار المجتمع الدولي في مسعى لمعرفة وجهة سياستها الخارجية في الأوضاع الجديدة. ففيما ينتظر المستثمرون الخطوة التالية لإيران الغنية والمتلهفة للاستثمارات بعد سنوات طويلة من المقاطعة، فإن دول الجوار في الإقليم تبدو أكثر حرصاً على درء ما قد يحمله اتفاق فيينا من مخاطر ومغامرات غير محسوبة في الشرق الأوسط.

لذلك من الطبيعي أن تتبنى دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية وبدعم فوري وملموس من دولة الإمارات، سياسة أكثر حزماً لاحتواء طموحات إيران الإقليمية. فنفوذ هذه الأخيرة الخطير المباشر وغير المباشر في ست دول عربية أساسية، في المشرق والخليج، لا لبس فيه. أقل ما يمكن أن يقال في عربدة إيران في الإقليم إنها مرفوضة ويجب ضبطها بأسرع وقت ممكن. فقد بات باستطاعة دول الخليج العربية الآن أن تطرح مبادرة، أجّلت عرضها بانتظار مفاوضات فيينا، تدعو إلى صوغ «مذكرة تفاهم» تتحدد فيها مصالح إيران في الإقليم وشروط احتوائها في آن.

في اليمن مثلاً، عرب الخليج يصرون على تطبيق «خارطة طريق» سياسية حددها مجلس الأمن ولكن القيادة الحوثية بدعم الرئيس السابق علي عبدالله صالح ترفض ذلك. ولم يعد أمام دول الخليج العربية غير كسب المواجهة الراهنة لا سيما في ضوء ما ثبت عن تدخل مباشر لإيران في اليمن من خلال «الحرس الثوري». فقد كُشِف مؤخراً عن هذا التدخل باعتقال ثلاثة مدربين تابعين للحرس في عدن تم تسليمهم إلى سلطنة عمان. وواضح أن اليمن باتت ساحة للمواجهة بين السعودية وحلفائها الخليجيين وبين إيران، والحسم فيها سينعكس مباشرة على مصير «حروب» وأزمات أخرى في الإقليم. هناك على الأقل خمس دول عربية واجهت حملات إرهابية متنوعة دعمتها إيران أكان في الكويت أو البحرين أو السعودية، بالإضافة إلى دور طهران غير المباشر في العراق وسورية. فقد أسهمت مجموعة من ميليشيات مدعومة مباشرة من إيران في السنوات الأخيرة الماضية في إمالة التوازن السياسي في العراق لمصلحة الحكومة المؤيدة لطهران. وفي سورية، لم يعد سراً كيف أسهم تدخل ميليشيا «حزب الله»، الذراع الأساسي لإيران، في الحيلولة دون سقوط حكومة بشار الأسد في دمشق. فالدور المباشر للحزب في حماية هذا الأخير حال دون إمكانية قطع العاصمة عن منطقة الشريط الساحلي في أوائل 2014.

لا شك في أن سياسة إيران في ترويج العنف في منطقة الخليج والهجمات الإرهابية لمتطرفي «القاعدة» و «داعش» ساهمت في تغيير الديناميات السياسية في هذه المنطقة جذرياً. فدولٌ مثل السعودية والإمارات لم تعد تعتمد على الدول الكبرى لحماية مصالحها، بل بدأت تأخذ الآن بيدها مسؤولية حماية هذه المصالح في اليمن، كما تشارك قوات التحالف الدولي في قصف أهداف «داعش» في العراق وسورية. يضاف إلى ذلك، أن غياب دور عسكري/ تدخلي مباشر لمصر، أقوى دول الإقليم العربية، يضع دول الخليج العربية نفسها أمام حرب بقاء في مواجهة إيران لأول مرة في تاريخها المعاصر، وتضطر في شكل غير مسبوق لخوض حرب مباشرة ضد خصوم عدة في الخليج وما وراء الخليج.

ولكن في الواقع تخوض السعودية حرباً حول اليمن للمرة الثانية خلال العقود الستة الأخيرة. وقد يكون ملائماً في هذا السياق التذكير بأن حكومة الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز تصدت بقوة للتحديات الناجمة عن تدخل مصر عبدالناصر المباشر في اليمن. فالسعودية اضطرت لمواجهة أقوى جيش عربي في ذلك الحين لحماية مصالحها ونظامها السياسي. فقد أرسل عبدالناصر تنفيذاً لسياسته في نشر «الثورة» في العالم العربي، أكثر من 70000 جندي من قوات بلاده إلى اليمن لمساعدة وحماية الانقلاب العسكري فيه بقيادة العقيد عبدالله السلال ضد نظام حكم الإمامة المتوكلية. ومعروف أن هزيمة مصر في تلك الحرب – المغامرة كانت شاملة، في عدادها سقوط عشرة آلاف جندي مصري، ما ساهم مباشرة في هزيمة العرب اللاحقة في حرب الأيام الستة ضد إسرائيل في حزيران (يونيو) 1967.

ويبدو الآن أن السعودية وعرب الخليج يواجهون تحدياً جديداً آتياً من إيران، ولكنه هذه المرة أكثر شراسة وشراً يضع عرب المنطقة للمرة الأولى في تاريخهم الحديث أمام تقرير المصير.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى