صفحات الحوار

إيمان حميدان: العنف ينام ثم يستفيق أكثر شراسة

 

 

يوسف بزي

صدرت مؤخراً الرواية الرابعة للكاتبة اللبنانية إيمان حميدان، بعنوان “خمسون غراماً من الجنة” (دار الساقي، بيروت). هذه المرة تتمدد عوالم حميدان من بيروت إلى اسطنبول ودمشق. رواية أزمان متقاطعة لحروب الماضي والراهن، وحكايات الحب على شفير العنف والموت. رواية ترصد التحولات في حيوات البشر والأمكنة. تحولات هي غالباً قسرية وقدرية وأقوى من تطلعات الشخصيات وأحلامها.

تتعدد تقنيات السرد في “خمسون غراماً من الجنة”، وتتعدد أيضاً الأصوات التي تروي، كذاكرات متفرقة تؤلف في تلاقيها وتقاطعها، نسيجاً روائياً واحداً. عن هذه الرواية كان هذا الحوار:

* “خمسون غراماً من الجنة” هي رابع رواياتك. لكن العنوان هذه المرة شعري على غير العادة. هل من تبدل في لغتك؟

– قصتي مع العناوين خاصة. لا أستطيع البدء بالكتابة إذا لم يحضر العنوان أولاً. وفي رواياتي الأربع، تغيّر العنوان أثناء كتابة الفصول الأخيرة. هو يفرض نفسه ويدفعني إلى حذف العنوان المؤقت أو إلى جعله عنواناً ثانوياً. هذه الرواية بقيت تحت عنوان “رسائل اسطنبول” حتى كتابة زيارة البطل كمال فِرات إلى خان الخليلي وشراء عطر الجنة. هنا تغيّر كل شيء.

ثم أني كنت أعتقد أن عناوين رواياتي دائما شعرية، وها أنت الآن تقول لي العكس. الآن أفكر في الأمر وأجد أنها مرتبطة بشكل أو بآخر بإرث ثقافي ليس بعيداً عن الشعر، وإن لم يكن شعراً خالصاً، كمثال على ذلك عنوان “حيوات أخرى”. حيوات في لحظة واحدة في أمكنة مختلفة من العالم، أو الشعور أننا نعيش حيوات مختلفة ونحن في مكان وزمن معيّنين. في الرواية الأخيرة، لحظة الغرام التي أظهرها كمال فِرات وهو يشتري العطر لحبيبته نورا بدت بديهية وقوية، إلى درجة أنها قد تختصر رواية بأكملها. هناك لحظة شعرية تقتحم الكتابة وتفرض علينا عنواناً يصبح نهائيا.

أيضاً اللغة تتبدل وتتغيّر، ولا يعود ممكناً العودة بها إلى الوراء، إلى زمن سابق. أوَليست هي كائناً حيّاً يتأثر بعوامل الزمان والمكان وحالات البشر؟ تغيّر الجغرافيا والإقامة ومواجهة الذات والتاريخ عبر اللغة التي تعرفها والتي تعرفك. كل ذلك يلعب دورا في تبدّل اللغة وتغير علاقتنا معها. لعلها تصبح أكثر مرونة حتى في لحظات الكتابة السوداء. لكنها أيضاً أكثر مواجهة بل أكثر شراسة. ولا ينفي هذا أن تغدو أيضاً مكاناً رحباً. أراني أحيانا أطوّع اللغة وأصطحبها إلى مواضيع وفضاءات لم نطأها من قبل. كأنني ما عدت أكتب من مكان محدد وحسب، لوصف حدث أو بناء شخصية، إنما أكتب من جهات أربع بل أكثر، من الداخل والخارج معاً، لأنني أرى نفسي هكذا في الداخل والخارج، في تلك الأمكنة التي تواجهنا ونواجهها.

* على الرغم من توسع جغرافية روايتك وأمكنتها، ظلت بيروت بطلة روايتك بامتياز، كأن المدن الأخرى محطات عبور ذهاباً وإياباً إلى بيروت…

– ذكّرني سؤالك بوصفٍ للأشخاص الذين يتنقلون بين نقطتين جغرافيتين بشكل دائم في حياتهم، وتسميتهم بـ shuttle people أفكر بهذه التسمية، وأرى أنها تعكس حياتي إلى حد ما. الفرق أن حركتي دائرية ولا تقتصر على الذهاب والإياب من المكان نفسه وإليه. شغف الأمكنة الجديدة، زيارة المدن والإقامة فيها زمنا معيناً. كل هذا جعل أمكنة الرواية واسعة إلا أنه أبقى على البوصلة: بيروت. هي المكان الأول والزمان الأول. ثم تسير كتابتي، إلى حد ما، بشكل متواز مع نمط حياتي، مع حركتي التي وصفتها أعلاه. لذا ربما استطيع القول أنني بروايتي الأخيرة أكملتُ دائرة بدأتها مع رواية “باء مثل بيت..” مرورا بـ “حيوات اخرى”. بيروت بطلة تتعدد وجوهها، وتتوسع كحيّز مكاني واجتماعي، ويكبر معها السؤال الذي لم يبتعد عن جوهره الأساسي وعن حكايات الناس: تبدأ الرواية الأولى من قلب الحرب ثم إلى ما بعدها وإلى عشية بدايتها وما بعدها في الرواية الاخيرة. حركة شبه مكوكية. وحين نكتب بيروت وذاكرة من فًقد فيها أو من غاب أو من هاجر، لا يسعنا سوى التطلع إلى حولنا، إلى خارج سور ما يسمى بالحدود. نرى كم نتشابه. بيروت كانت السباقة في التدمير الذاتي ثم الحياة ثم التدمير ثانية وهكذا. هذا نمط عيش. أمر رهيب، لكنه يجذبنا كفوهة سوداء. أثناء كل ذلك تتوسع الجغرافيا بالفعل. تذهب أكثر إلى السياسي ثم تعود إلى الخاص. المسافة بينهما هي الحكاية. ثم بيروت تبقى الميناء. حسناً، ميناء مجروح. والمنطق يقول أن الجرح لن يستمر، لكنه يجد مكاناً له وحياة. ثمة نبض سوريالي في هذا التدمير. تدمير يشدنا إليه لأنه صورتنا على نحو ما. ما عاد ممكناً رؤية بيروت خارج ما يجري في عواصم المحيط ومدنه.

الزمن يتوسع كما تتوسع الجغرافيا.. كالمدينة. الزمن يشبه المدينة، هو أيضا شخصية لاعبة. لا تستطيع الراوية في “خمسون غراماً من الجنة” أن تتابع سردها في غياب تتابع الزمن. في “باء مثل بيت”، لم يخرج الزمن عن إطار قصير ومحدد، وفي مبنى محدد أيضاً. بعدها نرى كيف خرجت الشخصيات وسافرت ونجت من حروب أهلية وعالمية (مثل جدة نورا الأرمنية)، لتعود وتبدأ من جديد رحلة سيزيف. شخصيات تجد نفسها تطرح أسئلة لم نجد لها إجابة منذ “باء مثل بيت”، والسؤال الأهم يبقى لماذا نحن؟ لماذا عنف مدننا؟ مدننا هذه المرة وليس فقط مدينتنا. لماذا العنف ينام ثم يستفيق كل مرة أكثر قوة وشراسة؟

* منذ روايتك الأولى هناك معادلة ضمنية تحكم قولك الروائي: الرجل – العنف – الموت، مقابل المرأة – الحب – الحياة. هل توافقين؟ هل هذا هو حافزك الأصلي في التأليف الروائي؟

– الحياة، هي حافزي الأصلي في الكتابة. حياتي وحضوري عبر التعبير الحر. المرأة تمثل الحياة، هي تقاتل من أجلها، هذا ما تحكيه حروب العالم في أي مكان، ثم تعود لتبني ما تهدم؟ بعد الحرب، التي أشعلتها النازية، قامت المانيا من الحضيض من جديد على أيدي النساء. وفي لبنان، إذا أجرينا دراسة عن طبيعة الجمعيات الأهلية التي كانت تقاوم العنف، ندرك أن معظمها أسّسته نساء. وها أنا أنتظر دوراً للنساء في عالمنا العربي، المشتعل بالحروب والتدمير الذاتي. لا بد أن يغيرن المعادلة يوماً. ثم أن هذا التدمير ليس صدفة، ولا نستطيع أن نتجاهل العلاقة الأكيدة بين العنف ومكانة المرأة وثقافة المساواة. كلما هزلت مكانة المرأة وغابت ثقافة المساواة بينها وبين الرجل، وغابت القوانين التي تحميها وتفرضها في المؤسسات والشارع، كلما ازداد العنف وأخذ صوراً أبوكاليبسية. هذا واقع. هذا ما نعيشه، وهذا ليس صدفة ولا تجنياً على الرجل. رغم ذلك لا أرى الصورة على هذا النحو الثنائي المغلق. طالما عبّرت عن رفضي لأي ثنائية كانت، في المقاربة السياسية أو الاجتماعية لواقعنا. ربما ما تقوله في سؤالك ينطبق إلى حد ما على “باء مثل بيت” و”توت بري”، إلا أنني أرى ثمة اختلافاً بدأت بوادره مع “حيوات أخرى” وظهر تماماً مع كمال فرات، أحد الشخصيات الأساسية في “خمسون غراماً من الجنة”. هو كَسَر تلك المعادلة الثنائية. هنا الرجل يعني الحب والحياة إلى درجة أنني بت أحلم بوجود شخصية مماثلة في حياتي! صنعت رجلا جميلا والآن أقول لنفسي: ليته موجود بالواقع لأغرم به.

* في “خمسون غراما من الجنة” نحن في الزمن الراهن، مع ذلك تتأسس الرواية على استعادة زمن الحرب (عقد الثمانينات)، هذا أيضاً يحيلنا إلى رواياتك السابقة، الاستمرارية بالتوازي مع الانتقال والتحول.

– الراهن غير بعيد عن زمن الحرب، بل هو امتداد لذلك الزمن. نعم هو امتداد، وفي الوقت نفسه نرى كيف تذهب رواية الحرب اللبنانية كل مرة إلى أمكنة أكثر عمقاً ولم تُقل سابقاً. هذا ما أراه مع روايتي الأخيرة. هناك زمن الاحتلال السوري، هناك عنف أجهزة المخابرات. هناك صمت الناس لعقود، وخوفهم من الكلام. وذلك التشابه في مصائرنا في الشرق الأوسط. المصائر العنيفة والموجعة. لا لم ننته بعد. ما زال الكثير لقوله. بل ربما لم نبتدء بعد.

* انطباعي أثناء القراءة هو الكتابة الواثقة، القدرة على الانعطافات، الخروج من الحكاية والانتباه إلى العوالم المجاورة لها، كأن يتوقف سرد الأحداث في سبيل التمتع بوصف مكان، الانتقال إلى دفتر يوميات الخ…

– انطباعك صحيح جداً. الرواية تتنقل بين الأزمنة. وهذا التنقل بحد ذاته رحلة بطيئة. هي أيضاً رحلة بين الأمكنة، ولا بد من التوقف والتنفس للانطلاق من جديد. الشخصيات تلتقي في لحظة ما، لكنها تفترق ثانية وتتوزع. أظن أن ذلك الفراق هو سبب لقائها أيضا. إنه العنف. بين الافتراق واللقاء تلعب الحكاية بأروقة الزمن، كما ورد على لسان كمال فرات، وتنقل لنا ما تراه العين وما يراه القلب. الحكايات الموزعة هنا وهنالك هي مرتبطة بسرد الأحداث الأساسية وإن بدت غير ذلك. كل خبر بسيط، كل تفصيل هو “قطبة” صغيرة في نسيج الحكاية.

* هذه المرة روايتك تتجه إلى النقد التاريخي – السياسي. قد يبدو الأمر ليس جديداً في كتاباتك، لكنه أكثر وضوحا. هل توافقين؟

– أعتقد ذلك. المساحة الجغرافيّة اتسعت. ذكرت ذلك في إجابتي الأولى. اتسعت معها الحكاية، كذلك الزمن. ما عاد كافياً السؤال المحلي. السؤال حول العنف، والذي، حسب اعتقادي، هو في قلب همّ الرواية اللبنانية، ما عاد ممكنا طرحه في الداخل فقط. سقطت الجدران التي تفصل بين الداخل والخارج، سقطت معها أوهام الحدود والسيادة. لكن أيضاً سقطت أوهام القومية العربية. بات علينا العودة إلى نقطة صفرٍ في السؤال وفي قراءة الماضي، وفي رؤية المستقبل بشكل أكثر إبداعاً ونقداً.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى