صفحات العالم

ابعد من الحدود

 

ساطع نور الدين

  عندما يعبر جيفري فيلتمان بالذات عن القلق المتزايد من احتمال  تمدد الحرب المستعرة في سوريا الى لبنان، فانه يعني ما يقول، لانه يعرف اكثر من أي مسؤول دولي ردد مثل هذا الكلام على مسامع اللبنانيين في الفترة الماضية، ان الحدود الواهية بين البلدين والشعبين الشقيقين لا يمكن ان تشكل عائقا دون نشوب حريق لبناني جديد، يكون مصدره دمشق مجددا. 

  الى فيلتمان بالتحديد، ينسب القول، في العام ٢٠٠٥ ، ان لبنان لا يمكن ان يحتمل سقوط النظام السوري، ولا يمكن ان يستوعب نحو مليوني لاجىء سوري إذا ما قررت اميركا معاقبة الرئيس بشار الأسد على اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، او على غير ذلك من مساوىء في لبنان او العراق. يومها نصح فيلتمان حلفاءه اللبنانيين ان يسلموا بقرار الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، تغيير سلوك النظام السوري بدلا من تغيير النظام نفسه، وأوصاهم بالكف عن انتظار وصول الأسطول السادس الأميركي الى شواطىء المتوسط للشروع في إقامة الشرق الأوسط الجديد، بدءا من بيروت!

  لم يكن فيلتمان يكذب. كان هذا بالفعل هو خيار إدارة بوش الذي لم يصدقه في حينه كثيرون من اللبنانيين، وما زال بعضهم يرفض تصديقه حتى اليوم.. على الرغم من ان واشنطن  أثبتت في اكثر من مناسبة وتجربة، أنها تكن ودا دفينا للنظام السوري، قد يبدو في بعض الأحيان مثل لغز محير، عصي على الفهم ، ليس فقط للعقول السياسية اللبنانية الصغيرة، بل حتى للضالعين في علوم السياسة الخارجية الأميركية.

  قراءة موقف فيلتمان الجديد، تحيي هذه الذكريات اللبنانية البائسة لكنها لا تدخل في هذا السياق الأميركي المحدد. فقد خرج الرجل من وزارة الخارجية الاميركية، لكي يتعاقب على مهمة استئناف التواصل مع دمشق اثنان من السفراء المعروفين بميولهم الواضحة نحو نظام الأسد، وهما فريدريك هوف وروبرت فورد.. كم ان المنصب الذي الحالي الذي يشغله فيلتمان في الامم المتحدة، كوكيل للأمين العام للشؤون السياسية لا يؤدي أي وظيفة ولا يمثل أي ترقية، بل هو اقرب ما يكون الى التقاعد من السلك الدبلوماسي.

  هو الان يتحدث باسم الامم المتحدة، وبناء على تقديراتها وتقاريرها، اكثر مما ينطق بموقف أميركي لم يتخل تماما عن ذلك الهوى القديم للنظام السوري، ولن يتخلى ايضا عن ذلك الاستخفاف الاميركي الشديد بلبنان، الذي كان السبب الحقيقي وراء لجوء واشنطن الى حث إسرائيل علنا على تدميره في صيف العام ٢٠٠٦.

  لعل هذا الموقف الأميركي يخضع للمراجعة والتعديل في ضوء مجريات الثورة السورية. لكن، إذا كان الخيار في واشنطن هو بين لبنان وسوريا، فانه سهل جداً. وإذا كانت الحدود مفتوحة ومنتهكة الى هذا الحد، فهذا شأن اللبنانيين ومسؤوليتهم التي لا يتقاسمونها مع احد.. ولا يمكن لاحد في العالم ان يقنعهم بمخاطر استدراج النيران السورية بدل العمل على احتوائها، وحصرها في أضيق نطاق جغرافي ممكن، والتعامل معها باعتبارها أزمة وراء الحدود تستدعي ضبط المعابر والتشدد في مراقبتها، حتى ولو بطلب المساعدة من الجامعة العربية او الامم المتحدة .

  لم يكن من المطمئن ابدا ان تتحول الحدود الشمالية والشرقية للبنان من خطوط تهريب الى خطوط اشتباك. لكن التورط اللبناني في الأزمة السورية لم يعد يقاس بعدد المسلحين الذين يعبرون الحدود الواهية الى الداخل السوري، بل في عدد العائدين الراغبين في تصفية حسابات الداخل اللبناني.. من دون الأخذ الاعتبار الى ان فيلتمان يعبر عن قلق الامم المتحدة الحقيقي على لبنان لا عن قلق الولايات المتحدة المزيف.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى