صفحات العالم

اتجاهات متضاربة في المنطقة؟/ حازم صاغية

 

 

 

إذا خرجت تركيا من امتحانها الديمقراطي الراهن معافاةً، ونجحت حتى نهاية الشوط في تفادي العنف والانقلاب العسكري، أمكن القول فعلاً إن الديمقراطية السياسية أقلعت جدياً في ذاك البلد. وما يعنيه هذا الحدث- الاحتمال البالغ الضخامة أن بلداً كبيراً، مسلماً وشرق أوسطياً، ينضم إلى عالم الديمقراطية المستقرة الذي سبق أن دخلته بلدان مسلمة، إلا أنها ليست من الشرق الأوسط، كإندونيسيا وماليزيا وبنغلادش.

ثمّ إن أهمية هذه الانتخابات تحديداً، وبالقياس إلى التجارب التركية السابقة والبادئة مع مطالع القرن الحالي، أنها سجلت انتكاسة للحزب الإسلامي الحاكم، «حزب العدالة والتنمية»، بعد أن كانت دورات الانتخابات السابقة تسجل توالي صعوده. أي أننا، بلغة أخرى، ربما كنا ننتقل اليوم من تحول ثوري سبق أن احتوته العملية السياسية والديمقراطية، إلى استقرار سياسي وديمقراطي لا حاجة معه إلى التحولات والقفزات الثورية. فإذا استمر «حزب العدالة والتنمية» في انضباطه بما آلت إليه النتائج الانتخابية، أو أية انتخابات مقبلة قد تفرض نفسها على الأتراك تفادياً لأزمة سياسية، وإذا تمكن البلد من تجنب أي تشنج عنفي، في الشارع أو عبر المؤسسة العسكرية، تأكدت القناعة حول الإقلاع التركي وترسخت.

كذلك فمن الأسباب التي تجعل الحدث التركي الأخير والكبير ذا أهمية خاصة أنه، من جهة، يهب في وجه رجب طيب أردوغان وطموحاته السلطوية ويضعفهما، إلا أنه، من جهة أخرى، لن يتم ويكتمل من دون أن يباركه أردوغان، ولو مضطراً، ومن دون أن يذعن له حزبه ويعمل بموجبه. فالأمر ليس تقويضاً لأحد، بل هو يتطلب أن يكون الجميع أقوياء، إلا أنه يتطلب أيضاً أن تكون قوتهم نسبية ومحدودة.

والحال أن الوجهة هذه إذا ما كُتب لها الاستمرار والنماء، ستصادم وجهة أخرى صاعدة في منطقة الشرق الأوسط تمثلها، بصورة خاصة، إيران من جهة، والحركات التكفيرية، ولاسيما منها تنظيم «داعش»، من جهة أخرى.

فإيران، بعد انقضاء 36 سنة على انتصار ثورتها الخمينية، لا تزال متمسكة بالثوابت الأساسية لأيديولوجيا الخميني، أكان في ما يتعلق بمبدأ «ولاية الفقيه» أم بالموقع المميز للشيعية الاثني عشرية، فضلاً عن الوعي التوسعي الذي سمّي في السنوات الأولى للثورة «تصديراً للثورة». وما لم يتأدّ عن الاتفاق النووي المتوقع قريباً بين إيران والدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي زائداً ألمانيا، كسر في تركيبة السلطة السياسية والأيديولوجية الإيرانية، فإن السنوات القليلة المقبلة قد تشهد استفحالاً لهذه الاتجاهات الخطرة والتي يتصدرها اثنان:

– في الداخل، مزيد من كبت التعدد الإيراني ومن قمع أي احتمال معارض، أي التوسّع في النهج القمعي الذي رأيناه في تعاطي طهران مع «الثورة الخضراء» في 2009.

– وفي الخارج، مزيد من تأجيج النزاعات المذهبية المتأججة أصلاً، وهو المرشح لأن يتخذ شكل حروب أهلية، وربما إقليمية، بما يمضي في تدمير المنطقة وثروات شعوبها. ولن يكون بمستغرب تعميم ما نراه اليوم في كل من اليمن وسوريا والعراق.

وفي مقابل الإيجابيات التي يُفترض حصولها، في حال استكمال النجاح التركي، من مواجهة لمسائل تركيا الملحّة والمؤجلة، سيفضي النهج الإيراني إلى المضي في تعطيل المسائل الإيرانية الضاغطة والتي لا تزال محجوبة بالغبار الثوري الكثيف وبالالتفاف الأيديولوجي عليها.

وعلى اختلاف في الشكل والأساليب، تمارس «داعش» وأخواتها تأجيل المسائل الملحة في المنطقة وترك الحبل على الغارب للعنف المجنون والمصحوب بتصعيد في الغرائز البدائية.

فقد ساهمت الحركات التكفيرية في حرف المسيرة المفترضة للثورة السورية باتجاه بناء نظام سياسي بديل لنظام الأسد، فيما قوضت الحدود الوطنية لدولتي العراق وسوريا من دون أية رغبة في اقتراح حدود بديلة، إذ إن «خلافة» أبوبكر البغدادي تتطلب تعريفاً محو الحدود الوطنية وإزالتها. وفي عجزه عن بناء أي مستقبل، وجه التكفير إزميله لهدم التاريخ من خلال تراثاته وآثاره، ولضرب كل علامة على تعدد ديني أو اثني في المجتمعات التي يضع يده عليها.

بكلام آخر، فإن «داعش» إنما يكمّل، من موقع الخصومة، ما تقوم به إيران، لجهة تقنيع الواقع وتأجيل مسائله الملحّة، وعلى رأسها بناء الدول وترميم المجتمعات. لا بل يذهب الطرفان أبعد من ذلك، إذ يُعدمان، كلٌ بطريقته، العناصر المتوفرة أصلاً والقابلة لأن يُبنى عليها.

وهذا، على عمومه، ما يضاعف أهمية أن تنجح تركيا في تقديم نموذج بديل لا تعود منافعه على الأتراك وحدهم، بل تشع على منطقة فقيرة بالنماذج والمثالات القابلة لأن تُحتذى وتُقلّد.

وكم سيكون هائلاً أن ينتقل الصراع من ثنائيته السنية- الشيعية الراهنة ليغدو صراعاً بين بناة دول ومجتمعات تتجه إلى الديمقراطية وبين هادميها.

كاتب ومحلل سياسي – لندن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى