صفحات العالم

اتفاقية لوزان وتأثيراتها المحتملة على المنطقة بشكل عام وسورية بشكل خاص –مجموعة مقالات-

 

 

أميركا بين إيران والعرب/ حازم صاغية

كان واضحاً من صور المستقبلين والمستقبلات في إيران، وزير الخارجية محمد جواد ظريف وأعضاء الوفد المفاوض العائد من «لوزان» إلى طهران، أنّ هؤلاء لا يشبهون الجموع التي تحتشد في العادة لتحيّة المرشد علي خامنئي أو الرئيس السابق أحمدي نجاد، هاتفة بما وسعها من قوّة: «الموت لأميركا».

بل كان واضحاً، في المقابل تماماً، أن هؤلاء الذين نقلت التلفزيونات صورهم وحماستهم، هم جمهور «الثورة الخضراء» التي قامت وقُمعت في 2009، وقبلها جمهور الرئيس السابق محمد خاتمي. فهم مرتخو الأعصاب، زاهون وملوّنون وبعيدون عن التشنّج. وإذا صحّ أن هؤلاء متلهفون بكل تأكيد لرفع العقوبات الاقتصادية الغربية عن بلدهم وشعبهم، فأبعد من هذا أن مسألة العقوبات هنا لا تعدو كونها رمزاً لمسألة أكبر عنوانها العلاقة بالغرب، ليس سياسة فحسب، بل أساساً في الثقافة والقيم والتقنية، لا سيما الجانب الاتصالي منها.

فكما أشار أكثر من كاتب ومعلق في الولايات المتحدة وأوروبا، وفي خارجهما، تعبت قطاعات واسعة من الإيرانيين من الحصار ومن العزلة، ولكنها تعبت، فوق ذلك، من نظام يسحق فردية الفرد الإيراني وحريته وبعض حقوقه الأساسية، فارضاً عليه إيديولوجية لا يد له فيها، بل فارضاً عليه أعباء مادية باهظة التكلفة في مواجهات وحروب إقليمية لا تثير شهيته. وحتى أكثر هؤلاء انزعاجاً من السياسة الأميركية حيال إيران، يرون أن المسألة استنفدت أغراضها، وأنه حان الوقت كي تُطوى صفحة الأحقاد وتُفتح صفحة أخرى.

وما من شك في أن إدارة الرئيس أوباما حين قررت أن تسير في طريق التفاوض مع إيران، ضداً على إرادة حلفاء كثيرين لها في سائر العالم، كانت تأخذ في اعتبارها هذا العامل، أي وجود قاعدة عريضة لا يُستهان بها بين الإيرانيين متحمسة لأحسن العلاقات مع أميركا، ومتأثرة إلى أبعد الحدود بطريقة الحياة الأميركية، وغير مترددة في إعلان حماستها هذه على الملأ.

والحال أن المراقبين الأميركيين والغربيين لم تفتْهم، وعلى مدى سنوات طوال، المقارنة بين هذه الحال الشعبية الإيرانية والحال الشعبية في معظم العالم العربي. فعربياً، وعلى المستويين الشعبي والحكومي، لا سيما الشعبي، لم تظهر إلى الوجود أية قاعدة عريضة تدافع بصراحة ووضوح عن العلاقة الإيجابية بالغرب، لا سيما أميركا. كذلك لم ترتق علاقات التحالف السياسي في بعض الحالات، وبعض الدول، إلى إعلان انحياز صريح لطريقة الحياة الغربية.

وقد يقال إن الدعم الأميركي لإسرائيل، خصوصاً منذ حرب 1967، هو السبب وراء هذا الموقف الذي يتراوح بين الحذر والسلبية. ولكن هذا التقدير لا يصلح، في أغلب الظن، إلا لتقديم صورة جزئية عن تلك العلاقة. ففي مقابل دعم إسرائيل، دعمت الولايات المتحدة حركة الاستقلالات العربية من الطرفين الاستعماريين الفرنسي والبريطاني، وقد خالفت السياسة الفرنسية في ما يتعلق استقلال الجزائر خصوصاً. وكذلك من المعروف جيداً أن أميركا في عهد «دوايت أيزنهاور» هي التي وقفت، في 1956، إلى جانب مصر، ما أدى إلى حرمان البريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين ثمار الانتصار العسكري الذي حققوه في حرب السويس المعروفة عربياً بالعدوان الثلاثي.

ومن المرجّح إذن أننا أمام تراكم ثقافي معادٍ للغرب تطور جيلاً بعد جيل في العالم العربي، كما من المرجح أن تكون أسبابه ثقافية أكثر منها سياسية. وفي الحالات كافة، فإن جميع التيارات الإيديولوجية التي تعاقبت على المنطقة في القرن العشرين (اليسار، القومية العربية، الإسلام السياسي) إنما أكدت على مركزية العداء للغرب، ولو أعطته تسميات أخرى تتراوح بين الصليبية والاستعمار والإمبريالية.. الخ.

وهكذا إذا كان التاريخ لا يحول ولا يزول لدى أغلبية العرب، فإن الأمر لا يبدو على هذا النحو عند الإيرانيين. وما من شك في أن إدارة أوباما أخذت هذا العامل في الحسبان حين أقدمت على ما أقدمت عليه، خصوصاً بعد قراءتها للنتائج المُرّة التي ترتبت على حرب الرئيس السابق بوش الابن في العراق.

ومن يدري، فعملاً بهذا الحساب ربما فكرت الإدارة الحالية في واشنطن بأن القاعدة الواسعة التي تتعاطف معها ومع نموذجها بين الإيرانيين، قد تجد في المسار التسووي فرصة لها كي تقوي مواقعها في بلدها على حساب السلطة القائمة. وليس من المستبعد أن تعجز إيران الخمينية بعد تربية عدد من الأجيال على أن أميركا هي «الشيطان الأكبر»، عن تكييف ذاتها مع صورة مختلفة وأقل سلبية عن أميركا. ولا شك أن عجزاً كهذا سيمد خصوم السلطة في طهران بحجج أقوى، وربما أيضاً بأدوات أفعل وأشد تأثيراً.

كاتب ومحلل سياسي – لندن

الاتحاد

 

 

 

 

نظام إقليمي جديد.. الاتفاق النووي الإيراني والأزمة السورية/ أنيس الوهيبي

تشهد منطقة الشرق الأوسط عملية إعادة بناء على نطاق واسع، من عدة أبواب، مثل الملف النووي الإيراني وأزمتي سورية والعراق.

ومن نافل القول إن المشهد الدولي والإقليمي في المنطقة سيتغير، بعد التوصل إلى حل لأزمة الملف النووي الإيراني، والمؤكد أن التغيير سيطال حتى التوازنات التي تحكم عمل النظام الإيراني. فإضافة إلى أن ظروفاً موضوعية حكمت مسار المفاوضات، أخيراً، كالحاجة إلى فرض رقابة على برنامج إيران النووي (بالنسبة لمجموعة 5+1) أو إلغاء العقوبات (بالنسبة لإيران)، أسهم عاملان آخران في تسريع وتيرة المفاوضات، وربما فرضا نفسيهما على المفاوضين، لتضييق شقة الخلافات. تدهور صحة المرشد الأعلى للثورة في إيران، علي خامنئي. واقتراب ولاية الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الثانية من سنتها الرابعة، والتي يتحول فيها الرئيس إلى “بطة عرجاء”. ويتضاعف القلق الأميركي بسبب الوضع الصحي لخامنئي، لأن مستقبل الحكم في إيران بعده لا يزال غامضاً. ومنذ دخوله البيت الأبيض في 2009، استثمر أوباما رأسمالاً سياسياً باهظاً، في بناء صلات ووشائج وتعزيزها مع خامنئي، بغية التوصل إلى خاتمة للمفاوضات النووية. ووفاة الرجل العليل، قبل التوصل إلى الاتفاق، قد تضيّع فرصة تاريخية لأوباما، من أجل استئناف العلاقات بين البلدين، خصوصاً أن أي خليفة لخامنئي لن يتمتع بنفوذ سلفه لفرض الاتفاق، وقد يختار المزايدة والتشدد في الملف النووي، من أجل تعزيز وضعه الداخلي وكشف خصومه.

ويدرك خامنئي، ولا شك، أهمية الصفقة النووية في تهيئة الأجواء المناسبة لانتقال السلطة في بلاده، وحفظ مكاسب بلاده الإقليمية المتحققة، بعد ثلاثة عقود من الصراع مع واشنطن ودول المنطقة. وفي المقابل، تعلم الإدارة الأميركية أن خامنئي، وإن بارك الاتفاق النووي ووقعه، لن يعمر طويلاً ليتابع تنفيذه. لذلك، فهي مهتمة بخليفته أيضاً. (وحتى أوباما سيوقع على الاتفاق، بينما سيتولى تطبيقه خليفته).

مخطط خامنئي

ويبدو أن خامنئي يعمل، حالياً، وفقاً لمخطط من ثلاث شعب، متصلة ببعضها، بشكل لا فكاك منه. الأولى، إعادة ترتيب موازين القوى بين الفصائل الإيرانية، استعداداً للحظتي التوقيع النهائي على الاتفاق النووي، بعد التوصل على اتفاق الإطار في لوزان الأسبوع الماضي، وانتقال السلطة. الثانية، مواصلة المفاوضات مع واشنطن والقوى الكبرى، بهدف التوصل إلى صفقة نووية، تقبل إيران، بمقتضاها، تجميد برنامجها النووي عند العتبة، في مقابل رفع العقوبات عنها. الشعبة الثالثة، الإشراف على تحركات الحرس الثوري في المنطقة، والتي من شأنها رسم الخطوط العريضة للنظام الإقليمي الجديد، كما تريده طهران. ولتعاظم دور الحرس الخارجي ميزة إضافية، إذ إنه يسهل مساعي المرشد، لإعادة ترتيب البيت الداخلي الإيراني عشية استحقاقي التوقيع والانتقال.

من ذلك، انتخاب آية الله مصباح يزيدي (محافظ متشدد) رئيساً لمجلس خبراء القيادة، متجاوزاً منافسه هاشمي رفسنجاني (العدو اللدود لخامئني). وقد عقدت هذه الانتخابات، بعد مضي أكثر من مائة يوم على شغور المنصب. ويبدو أن إجراءها ارتبط بالتقدم الذي حققته المفاوضات النووية، كما أن المجلس يتمتع بأهمية قصوى في عملية الانتقال التي ستشهدها إيران، لأنه المخول باختيار المرشد ومراقبة أعماله.

وعيّن خامنئي أحد جنرالات الحرس الثوري رئيساً للشرطة الإيرانية، في إشارة منه إلى ثقته في الحرس، لضمان الأمن في الداخل، بعد أن أوكل إليه ضمان مصالح إيران في الخارج. وبينما كان خامنئي منهمكاً في المفاوضات النووية وترتيب الموازين الداخلية، كانت الفصائل الإيرانية، أيضاً، قد بدأت بإعادة تموضع سياسية، لكي تواجه استحقاقات المرحلة المقبلة.

فوضى التصريحات

ولأن الاتفاق النووي سيترافق مع تطبيع العلاقات بين إيران والولايات المتحدة “الشيطان الأكبر”، فإن جانباً كبيراً من أيديولوجية النظام في طهران سيتناقض وأجواء المرحلة التالية على الاتفاق. واستباقاً لذلك، أدخلت القوى الحاملة لواء العداء لأميركا وإسرائيل (المحافظون المتشددون والحرس الثوري) تعديلات على خطابها السياسي، لكي يتناسب ومتطلبات تلك المرحلة. وازداد مأزق القوى المحافظة والمتشددة في النظام الإيراني حرجاً، لأن الرئيس حسن روحاني، ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، سيسحبان البساط من تحت أقدامها إذا ما توصلا إلى الاتفاق النووي، وعندها سيحصدان مزيداً من الشعبية بين الإيرانيين. وللأمر أهميته الشديدة، بسبب اقتراب اللحظة الانتقالية في إيران. لذلك، تبنت تلك القوى خطاب العداء للتكفيريين في المنطقة، إضافة إلى رعايتها القديمة التمدد الإيراني، لعلّها بذلك تؤسس نفسها من جديد أمام الإيرانيين.

“بينما كان خامنئي منهمكاً في المفاوضات النووية وترتيب الموازين الداخلية، كانت الفصائل الإيرانية، أيضاً، قد بدأت بإعادة تموضع سياسية، لكي تواجه استحقاقات المرحلة المقبلة”

وضمن هذا السياق، تخلت طهران عن تحفظها التقليدي على إعلان تحركات جنرالاتها وقواتها في سورية والعراق. وتحول قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، الجنرال قاسم سليماني، إلى “نجم” يكثر التقاط التسجيلات والصور له في أثناء تنقله بين جبهات القتال، وغدا الرجل الأكثر شعبيةً في إيران، متفوقاً على روحاني ورئيس دبلوماسيته ظريف. وصب صعود سليماني “الإعلامي” في صالح التيارات المتشددة التي كان من الممكن أن تكون الخاسر الأكبر، مع اقتراب عقد الصفقة النووية. ومن الأفضل فهم “فوضى” تصريحات المسؤولين الإيرانيين، أخيراً، وخصوصاً الجنرالات في الحرس الثوري، في سياق المنافسة الداخلية بين الفصائل الإيرانية أساساً، على الرغم من انعكاساتها الإقليمية.

ولكي تجاري جماعة روحاني التحولات الجارية في النظام، لجأت إلى تبني الخطاب الإقليمي للقوى المتشددة. ومن هنا، جاءت تصريحات مستشار الرئيس للشؤون الدينية والأقليات، علي يونسي، عن عودة الإمبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد، والتصدي لـ “الوهابية والهيمنة العثمانية”.

الوضع الإقليمي

أخذت قوى دولية وإقليمية تعيد حساباتها مع بروز مؤشرات التقارب الأميركي الإيراني. فروسيا وألمانيا وفرنسا أقلقها شهر العسل الإيراني الأميركي، واحتمال أن تنفرد واشنطن والشركات الأميركية بالصفقات التجارية مع إيران، عقب رفع العقوبات عنها، بموجب الصفقة النووية. كما أن تركيا ودول الخليج، كالسعودية وقطر، وحتى باكستان ومصر والمعارضة السورية، بل وأيضاً نظام الأسد، قلقة جميعها من الانعكاسات الإقليمية للاتفاق النووي الإيراني المقبل.

وجاءت التصريحات الإيرانية الكثيرة لتصب مزيداً من الزيت على نار القلق لدى الأطراف الإقليمية، فالحرس الثوري يحرض ضد السعودية ويهين (على الأرجح من دون أن يشعر) نظام الأسد، ومستشار روحاني يحرج حلفاء بلاده العراقيين، ويفتح النار على تركيا “العثمانية” و”الحاسدة”. واحتاج الأمر إلى إرسال أموال للنظام السوري لتهدئة خواطره، وإيفاد رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني إلى الدوحة لنقل رسائل تهدئة إلى أنقرة. إلا أن موجة القلق الإقليمي لم تهدأ، لأن الأمر غير مرتبط بتصريحات عدائية يمكن معالجتها بالطرق الدبلوماسية، بل يتعلق بالتحركات الإيرانية في المنطقة، من سورية والعراق إلى اليمن والخليج.

ولما غدت القوى الكبرى تواجه احتمال التقارب الإيراني الأميركي، عملت، أخيراً، على تعزيز علاقاتها مع الدول الإقليمية الأخرى، وبدا أن سورية هي الساحة الملائمة للحد من تداعيات أي اتفاق إيراني أميركي. وعليه، لاح في أفق الشرق الأوسط تقارب بين دول وازنة في الاتحاد الأوروبي، وكلّ من تركيا وقطر والسعودية، بهدف احتواء تداعيات الاتفاق النووي من الساحة السورية، حتى أن روسيا أخذت تتلمس الطريق نحو مزيد من المرونة في سياستها السورية، خوفاً من تفاهم أميركي إيراني يحد من تأثيرها الشرق الأوسطي.

الرؤية الأميركية

بالنسبة لإدارة أوباما، تعد الصفقة النووية (أي العلاقات الطبيعية مع طهران) وأمن إسرائيل والعراق، أهم المصالح التي تدافع عنها، وتهتم بأمرها في ترتيبات النظام الإقليمي الناشئ. وتأتي محاربة “الإرهاب” وضمان الاستقرار في النسق الثاني من الرؤية الأميركية للمنطقة. وقد أضعف الربيع العربي الدول العربية الأساسية (مصر وسورية)، واندفعت تركيا وراء سياسة “عثمانية”، استندت إلى النزعة الإسلامية في المنطقة وغذتها، الأمر الذي لم يستطع النظام الدولي تحمله. واعتبرت واشنطن أن الربيع العربي عزز نفوذ المتطرفين في المنطقة (دق مقتل السفير الأميركي في ليبيا في صيف 2012 ناقوس الخطر في الولايات المتحدة، بخصوص تمدد نفوذ القاعدة في الفراغ العربي). ورأت الإدارة الأميركية في هذه الأوضاع فرصة للتعاون مع طهران، لضبط الوضع الإقليمي المنهار. وتعزز هذا الاتجاه، عقب اجتياح داعش الموصل.

وينشد الأميركيون إقامة نظام إقليمي يتوازن (أو لنقل يتصارع) فيه الشيعة والسنة، الخليج وإيران وتركيا، وتكون بيضة القبان فيه الولايات المتحدة. يستند النفوذ الأميركي في هذا النظام على قواعد (الأردن ومصر والخليج) لإدارة التوازن المعقد بين المسلمين المتخاصمين. وتقسيم كهذا يستدعي، بالضرورة، أن تكون حصة إيران وازنة في المنطقة (في العراق وسورية خصوصاً)، على الرغم من عدم استنادها إلى أي مبرر، باستثناء نشاط الحرس الثوري والمليشيات التي يدربها.

“عيّن خامنئي أحد جنرالات الحرس الثوري رئيساً للشرطة الإيرانية، في إشارة منه إلى ثقته في الحرس، لضمان الأمن في الداخل”

وبشأن سورية، لا تستحق في التفكير الأميركي أي وزن، لأنها لا تمثل بذاتها أي مصلحة أمن قومي أميركي. وكانت واشنطن، بل ظلت وربما ستظل، تتعاطى مع سورية، من خلال ارتباطها بمصالح أميركا الراسخة في المنطقة، كأمن إسرائيل أو استقرار الأردن أو أمن النفط. وخلال الثورة، من بوابة المفاوضات مع إيران، ومكافحة تنظيمي داعش والقاعدة.

أبعد من ذلك، باتت زعزعة نظام الأسد “خطاً أحمر” بالنسبة لواشنطن، ليس فقط لأنها تتفاوض مع إيران حول النووي والترتيبات الإقليمية ومواجهة داعش، بل لأن استراتيجيتها انقلبت إلى أولوية الاستقرار في المنطقة. وحتى وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، كانت تركيا معزولة إقليمياً في الدعوة إلى توسيع التحالف الدولي لمواجهة تنظيم داعش والنظام معاً. لكن ارتقاء سلمان العرش أنعش أنقرة وأقلق واشنطن. ولتستبق الأخيرة احتمالات المشاغبة من دول المنطقة على السياسة الأميركية، سواء تجاه داعش أو إيران، خرج كيري، الذي حضر لتوه مؤتمر شرم الشيخ لدعم عبد الفتاح السيسي، بتصريحه “الفج”عن حتمية التفاوض مع الأسد. وعلى الأرجح، كان التصريح رسالة لتركيا التي تعاملت معه على هذا الأساس.

وهكذا، باتت إيران التي تدعم الأسد في سورية وحيدر العبادي في العراق حليفاً بموجب الاستراتيجية الأميركية، بينما بات منافسوها الإقليميون خصوماً لهذه الاستراتيجية، ينبغي الضغط عليهم.

الرؤية الروسية

يعتقد الروس أن إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط ترتبط بصميم مصالح الأمن القومي لبلادهم. وأخيراً، كشفوا عن رؤيتهم الحقيقية للصراع الدائر في المنطقة. ووفقاً لهم، الصراع الدائر داخل العالم الإسلامي هو صراع على زعامته، تتنازعه كلّ من تركيا وإيران والسعودية.

وقبل سنوات، هددت ثورات الربيع العربي بقصم نفوذ إيران الإقليمي، وصعود نفوذي السعودية وتركيا، وهما قوتان يرتاب الكرملين بسياساتهما “الإسلامية” في آسيا الوسطى. وبطبيعة الحال، لا ينسى الكرملين الدور الذي لعبته الرياض وأنقرة في حربي الشيشان ويوغوسلافيا. وبروز السعودية وتركيا قوتين مهيمنتين في الشرق الأوسط سيجعل روسيا غير قادرة على التصدي لهما على تخومها في آسيا الوسطى والقوقاز.

ويتوخى الكرملين في سياسته حيال تركيا والسعودية، دعم إيران والأقليات الإسلامية والعرقية، أوراقاً للضغط، والرد على استخدام هاتين القوتين الدولتين ورقة الأقليات المسلمة في روسيا نفسها و”جوارها القريب”.

وللجيوسياسة ثقلها فيما يتعلق برؤية موسكو طهران. فالكرملين يولي اهتماماً خاصاً لإيران ذات الموقع الحساس على أحد أهم المحاور الجيوسياسية في الكرة الأرضية (حافة قلب العالم، وفقاً للمنظّر الجيوسياسي الأميركي، نيكولاي سبيكمان)، ويحرص على دعمها في مواجهة الضغوط والإغراءات الأميركية، حتى لا تسقط في فلك الولايات المتحدة، كما كان الحال أيام حكم الشاه رضا بهلوي. وقد يشكل الاتفاق النووي الإيراني مدخلاً لعودة العلاقات بين طهران وواشنطن إلى سابق عهدها. وهو احتمال يقلق الكرملين، ويفسر دبلوماسيته تجاه المنطقة أخيراً.

واستنكفت الدبلوماسية الروسية، وهي ترتب للقاء “موسكو 2″، عن آلية المشاورات مع النظام، والتي اتبعتها إبان التحضير لمنتدى “موسكو 1”. ويبدو أنها تتواصل، مع نظيرتيها الأميركية والمصرية، لترتيب حل للأزمة السورية، يحد من أدوار إيران وقطر وتركيا.

رؤية أوروبية للشرق الأوسط؟

لا توجد استراتيجية أوروبية موحدة حيال المنطقة، على الرغم من محاولة الأوروبيين التوصل إلى هكذا استراتيجية. فلدى كلّ من البريطانيين والفرنسيين والألمان والإيطاليين والإسبانيين استراتيجيات متناقضة، ويمكن القول إنها متصارعة، حول شؤون المنطقة، وسورية في القلب منها.

فالدول جنوب أوروبا (اليونان وإيطاليا وإسبانيا)، تتبنى سياسةً، قوامها استعادة الاستقرار في الشرق الأوسط. لذلك، هذه الدول أقرب، في مقاربتها، لأزمات المنطقة (السورية منها خصوصاً) إلى روسيا من شركائها في الاتحاد الأوروبي، كبريطانيا وفرنسا اللتين وجدتا في نية إدارة أوباما إعادة تشكيل الموقف الأميركي في الشرق الأوسط فرصة من أجل تحسين نفوذها في المنطقة. وعليه، قررتا مسايرة الربيع العربي، للعودة إلى مواقعهما القديمة في المنطقة. وعززتا علاقاتهما بدول الخليج في سبيل ذلك.

“تعلم الإدارة الأميركية أن خامنئي، وإن بارك الاتفاق النووي ووقعه، لن يعمر طويلاً ليتابع تنفيذه”

وقد تكون لندن وباريس متفقتين في استراتيجيتهما، إلا أن بينهما اختلافات كبيرة، فباريس تعرّف إيران بوصفها أكبر خطر على مصالحها التقليدية في سورية ولبنان. من أجل ذلك، لعبت الدبلوماسية الفرنسية دوراً متشدداً للغاية في مفاوضات (5+1) مع إيران، لأنها لم تستطع ضمان مصالحها في الهلال الخصيب، قبل التوصل إلى اتفاق مع إيران. في المقابل، تدرك لندن التي كانت الشريك الأكبر في اتفاقية “سايكس بيكو” المتغيرات العميقة التي طرأت على معادلات المنطقة وتوازناتها في السنوات المائة الماضية.

فالشيعة الذين استُبعدوا بالمطلق عن مواقع السلطة في الدول المتشكلة بموجب “سايكس بيكو”، باتوا العامل الرئيسي في سياسات العراق ولبنان، في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. وبالنسبة لسورية، فإن العلويين الذين فقدوا كل امتيازاتهم مع انهيار الانتداب الفرنسي، أواسط القرن العشرين، احتلوا فيما بعد، وما زالوا، الموقع الرئيسي في السلطة في دمشق.

وتعلم لندن أن إيران التي عزلت عن شؤون المنطقة، لوقوعها تحت النفوذ البريطاني، باتت الدولة المفتاحية في سياسات الشرق الأوسط، سواء لما جنته من نفوذ في السنوات الثلاثين الماضية، أو بسبب رغبة أوباما الشديدة في التفاهم معها. هذه العوامل جعلت بريطانيا تستعيد علاقاتها مع إيران.

وتنفرد ألمانيا بموقف فريد داخل الاتحاد الأوروبي، من النظام الإقليمي المتشكل في المنطقة. وكانت هذه القوة، وإلى عهد قريب، تبني استراتيجيتها على لعب دور الوسيط في المنطقة، موجهةً كل تركيزها نحو القضايا الأوروبية. ويتطلب التقارب الأميركي الإيراني، والنزاع مع روسيا حول الأزمة الأوكرانية، من برلين إعادة النظر في استراتيجيتها الشرق الأوسطية، إلا أن ألمانيا، التي تقدم الدعم، سراً وعلناً، للأكراد على طول المنطقة وعرضها، بذريعة داعش وغيرها، تبقى متربصة بالتحركات التركية في الشرق الأوسط. وعقب سقوط الموصل، طرحت برلين خطة لتهدئة التوتر بين تركيا والسعودية وإيران، من أجل حشد الجهود الإقليمية لمواجهة داعش. وهي، إلى ذلك، تدعو إلى الحوار مع النظام والأسد، من أجل إنهاء الأزمة السورية.

العربي الجديد

 

 

 

 

الاتفاق النووي مع إيران.. الحقائق والتداعيات/ عبد الوهاب القصاب

بعد سلسلة طويلة من المفاوضات المضنية التي عقدتها مجموعة 5+1 (الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن الدولي، وألمانيا)، وبعد عمليات تأجيل للموعد النهائي، لعدم التوصل إلى اتفاق ملزم لإيران، لتنفيذ ما يشار له، دائماً، أنه نزع، وإنهاء لاحتمالات تحول البرنامج النووي الإيراني إلى برنامج تسليحي، يهدف إلى الحصول على السلاح النووي، لتوظيفه لتحقيق أهدافها وغايتها الوطنية، والتي يمكننا التعبير عنها، ببساطة، بأنها الحصول على الهيمنة في إقليمها، وبأن تعتبر الدولة رقم (1) فيها.

ليس في هذه الغاية الوطنية الإيرانية ما هو مخفي، ذلك أن الحكومة الإيرانية في خطابها الرسمي، وفي الوثائق الرسمية، تبين أن غايتها هي السعي إلى أن تكون إيران الدولة الأولى على مستوى الشرق الأوسط في قدراتها، وهو خطاب يشير، بكل وضوح، إلى سعي دؤوب إلى الهيمنة. من هنا، يمكننا فهم الدور الذي خططت له إيران، في إنشاء برنامجها النووي ودفعه قدماً، بعد أن دمر العراقيون إبان الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988) المرتكز الأقوى في البنية التحتية الإيرانية، مفاعل بوشهر الذي صممته ونفذته ألمانيا الغربية في حينه، ثم تولت روسيا الاتحادية عملية تأهيله وتحديثه بعد احتلال العراق 2003.

ماذا يعني الاتفاق؟

بعد مفاوضات مضنية، قيل إنها الأطول في تاريخ الدبلوماسية المعاصرة، بعد مفاوضات مؤتمر باريس، عقب الحرب العالمية الأولى، توصل المفاوضان إلى إطار عام، لما ينبغي أن يشتمل عليه البيان النهائي الذي يمثل الاتفاق الذي سيتم بموجبه حل المشكل النووي بين إيران من جهة، والغرب ممثلاً في مفاوضيه الذين يمثلون الأعضاء الدائمين وألمانيا من جهة أخرى. لا يفوتني، هنا، بيان أن الدور الأكبر في هذه المفاوضات وقع على عاتقي وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، والمفاوض المحنك وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف.

هنالك من يقول إن ثقل العقوبات عليها هو الذي دفع إيران إلى التنازل وتوقيع الاتفاق، وفي هذا القول نصيب كبير من الصحة، حيث يرينا الجدول المرفق تناقص الناتج المحلي الإجمالي لإيران منذ عام 2011، وقد بلغ قمة نموه حتى عام 2014. لكن، من الجانب المقابل، وظف المفاوض الإيراني كل صفات الشخصية الفارسية في التعامل والتفاوض، وكذلك كل الإبهام المتعلق بخطوط آلية اتخاذ القرار المتوازية التي يشتهر بها نظام الحكم الإيراني، تحت قيادة مؤسسة ولاية الفقيه، فحقاً لا يعرف المرء من الذي سيقول نعم في النهاية، وعبر أيٍ من خطوط الارتباط المتوازية الممثلة في فريق التفاوض النووي، فهل هو محمد جواد ظريف، أم عباس عرقجي، أم فريدون روحاني، أم شخصية مجهولة لا نعرفها. يدلل على ذلك عدد من يفتح خطوط الهاتف المحمول على جهات مجهولة في طهران من بين أعضاء الوفد الإيراني، في أثناء رفع الجلسات لأداء الصلاة، كما يقول مراقبون للمفاوضات.

من المعلوم أن هدف كيري الأول جائزة نوبل للسلام، وهدف أوباما إنهاء رئاسته بنصر معنوي، هو إيقاف البرنامج النووي الإيراني، لكن هدف صاحب القرار الحقيقي المجهول في طهران هو استمرار البرنامج النووي تحت أي ظروف. لنراقب هذه المرحلة الطويلة التي قطعها المفاوض الإيراني، وكيف بدأت. كم كان عدد أجهزة الطرد المركزي، مثلاً، عند بداية المفاوضات، وكم عددها الآن. كم هي المرات التي أزال فيها الإيرانيون أختام الكاميرات الرقابية التي وضعتها اللجنة الدولية للطاقة الذرية؟ كل هذه تساؤلات تقودنا إلى استنتاج واضح، هو صعوبة، إن لم يكن استحالة، التوصل إلى شيء ملموس وملزم، عند تفاوضك مع الإيرانيين. في هذا المجال، نشرت صحيفة هيرالد تريبيون اللندنية في 3 فبراير/شباط 1981 مقالاً استعرض فيه كاتبه برقية من الدبلوماسي الأميركي الأقدم في السفارة الأميركية، بروس لاينغن، إلى وزير الخارجية الأميركي في حينه، سايروس فانس، مبيناً فيها خبرته من التفاوض المضني مع الإيرانيين بعد الثورة. ويدل سرد الدبلوماسي على ممارسات تشبه تفاوض الوفود الإيرانية، كالعناد والتلاعب بالألفاظ والتهرب من الالتزام في مفاوضاتها مع مجموعة 5+1 في نسخها المتعددة طوال فترة التفاوض الطويلة.

“الأساس هو المعرفة النووية وامتلاك التقانة النووية وتطويرها، وهو ما تم الاعتراف به لإيران، بموجب هذا الاتفاق”

ما تسرب من معلومات عما تم الاتفاق عليه في الإطار من خطواتٍ، وصفت بأنها ملزمة، وموصوفة بدقة، لكي لا يتاح المجال لإيران للتلاعب والزوغان من الالتزام، تشير إلى ما يلي:

  1. التخفيض بمقدار الثلثين لعدد أجهزة الطرد المركزي المستخدمة في تخصيب اليورانيوم الصالح لإنتاج السلاح النووي، من 19 ألف جهاز طرد مركزي إلى 6014 جهازا، على أن تستخدم إيران منها 5060 جهازاً لتخصيب اليورانيوم، وهو عدد ليس قليلاً.
  2. شدد الاتفاق على أن تكون هذه الأجهزة من أجهزة الجيل الأول.
  3. ينبغي أن لا تتجاوز نسبة التخصيب 3.67% على مدى الأعوام الخمسة عشر المقبلة. والسؤال، هنا: وماذا بعد هذه الأعوام؟ هل هي القنبلة؟ هل ستطلق يد إيران بالتخصيب كما تشاء؟ بافتراض بقاء نظام حكم ولاية الفقيه حاكماً في إيران.
  4. تخفيض مخزون اليورانيوم المخصب من عشرة أطنان حالياً إلى 300 كيلوغرام فقط، مدة 15عاماً، فيما يبدو أنه لتشغيل مفاعل جامعة طهران البحثي.
  5. وضع أجهزة الطرد المركزي الزائدة والبنية التحتية لتخصيب اليورانيوم التي تم منع استخدامها، في مخازن خاصة في عهدة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على أن لا يسمح باستخدامها إلا كبدائل لأجهزة مستخدمة عاطلة.
  6. عدم بناء إيران أية منشأة جديدة لغرض تخصيب اليورانيوم خلال الـ15 عاماً المقبلة.
  7. إغلاق منشأة فوردو، وعدم السماح باستخدامها 15 عاماً، على أن يتم تحويلها إلى الأبحاث السلمية بعد ذلك.
  8. السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم في منشأة ناتانز عشر سنوات، باستخدام الجيل الأول من أجهزة الطرد المركزي البالغ عددها 5060 جهازاً.
  9. سحب 1000 جهاز طرد مركزي من الجيل الثاني من منشأة ناتانز، ووضعها في مخازن، بإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وفضلاً عن كل هذه التنازلات الظاهرة للعيان من التعهدات التي وافقت عليها إيران، بموجب إطار الاتفاق الذي نناقشه، أضافت مجموعة 5+1، أو المفاوض الأميركي تحديداً، مجموعة من وسائل الرقابة والتحقق، تعيد إلى الأذهان سلسلة لجان التفتيش والتحقق التي شكلتها الأمم المتحدة لتفكيك المشروع النووي العراقي، وبقية أسلحة الدمار الشامل الأخرى، بدءاً بالسويدي، رالف ايكيوس (1991-1998)، وانتهاءً بهانتس بليكس رئيس “إنموفيك”. وكلنا يتذكر الإشكالات العديدة التي رافقت عمل اللجان، والكم الهائل من المعلومات المتحصل عليها، والأسلحة التي تم تدميرها، ومحاولات العراق المتعددة للإفلات والتحرر من حبل العقوبات من دون جدوى. عندما نقرأ الالتزامات الإيرانية تجاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، نجد أمراً شبيهاً من الإذعان المفترض، فهل ستعامل الوكالة إيران بالنمط نفسه الذي عومل به العراق؟ إن لم يكن كذلك، فنحن، هنا، أمام سياسة كيل بمكيالين، فقد دمرت الدولة العراقية على أساس شبهة امتلاك مشروع نووي تم تدميره بالكامل في عملية عاصفة الصحراء، وتولى العراق تدمير ما تبقى منه، أملاً في التخلص من سيف العقوبات. هنا، في الحالة الإيرانية، نحن إزاء برنامج متكامل، تسنده سلسلة من المفاعلات النووية المتكاملة والحديثة، وخطوط كبيرة من الطاردات المركزية التي أتاحت لإيران إمكانية تخصيب عشرة أطنان من اليورانيوم الصالح لتحويله إلى سلاح نووي.

سيشهد المراقبون بأعينهم مستقبلاً المهارة الإيرانية في المناورة والتملص، من دون أن يكون للمفاوضين الذين مثلوا المجتمع الدولي سلاح رادع، سوى إعادة فرض العقوبات التي سيعرقلها وجود صديقين لإيران، هما الاتحاد الروسي والصين، اللذين سيقومان بواجبهما في عرقلة إعادة فرض العقوبات.

“يحسن استذكار دور العلماء النوويين العراقيين الذين أخذوا على عاتقهم، وحدهم، تطوير البرنامج النووي العراقي، وحققوا تقنية ممتازة للفصل”

نعتقد أن إيران بلغت شأواً بعيداً في حقل المعرفة والتقانة النوويتين، وهذا، بحد ذاته، إنجاز مهم يتراجع أمامه امتلاك رأس أو رأسين نوويين، لا يفعلان شيئاً سوى ابتزاز الجار العربي ولا غير. فلدى إسرائيل بحدود 300 رأس نووي بتقدير العلماء الأميركيين، ولدى باكستان، جارة إيران، عشرات من الرؤوس النووية. هنا، يتأكد لدينا أن الأساس هو المعرفة النووية وامتلاك التقانة النووية وتطويرها، وهو ما تم الاعتراف به لإيران، بموجب هذا الاتفاق.

كما أننا لم نشهد، في هذا الإطار، أية إشارة إلى وسائل الإيصال من صواريخ موجهة، وطائرات مجهزة، لتنفيذ الضربات النووية، الأمر الذي نرى فيه نقصاً بارزاً في اتفاق الإطار هذا.

صحيح أن الاتفاق قد ثلم السيادة الإيرانية، وأصاب الفخر القومي الذي يوليه الإيرانيون الكثير، فعملية تدمير مفاعل أراك، وتدمير محركه الحالي، وشحنه إلى خارج إيران ليس أمراً سهلاً. فضلاً عن إغلاق مفاعل فوردو، والالتزام بالتخصيب بأجهزة التخصيب للجيل الأول في مفاعل ناتانز، والتعهد بعدم بناء أي مفاعل جديد 15 عاماً، كل هذه محددات تثلم السيادة.

وهنا، يحسن استذكار دور العلماء النوويين العراقيين الذين أخذوا على عاتقهم، وحدهم، تطوير البرنامج النووي العراقي، وحققوا تقنية ممتازة للفصل، اعتماداً على أساسيات مشروع مانهاتن (1942)، وأنتجوا البلوتونيوم، ولو بكميات محدودة، لم يتح لهم الزمن تعظيمها لتورط القيادة العراقية في عملية الكويت الخائبة التي لم تجر على العراق، وعلى الأمة، إلا الخيبة والخسارة وتدخل الغرب في مقدراتنا، ثم تغوّل إيران.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

 

عن الأصولية والاتفاق النووي ومصير المشرق/ نجيب جورج عوض

لاحظ الباحثون الغربيون، أمثال هارفي كوكس، برنارد لويس وأوليفييه روي، في الثمانينيات من القرن الماضي، تنامي ظاهرة الأصولية الدينية في المجتمعات الغربية، والعالمية عموماً، وأشاروا إلى تنامي التوجه الأصولي بين ظهراني الأديان الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، على حد سواء في تلك الفترة. ترافق هذا مع تنامي خوف منتشر من الفكر النسبوي (relativism) في عصر ما بعد الحداثة الغربي، وعن عدم القدرة على التصالح، فكرياً وسوسيولوجياً وقيمياً، مع ما يعرف بمجتمع “الحداثة والتطور” في العالم بشكل عام. قادت النسبوية والحداثة، كل منها بطريقتها الخاصة، شرائح عديدة من أجيال الشباب والشابات المنتمين لأحد تلك الأديان الثلاثة، والذين يأخذون انتماءهم الديني على محمل الجد، إلى النكوص نحو منطق تفكير ونظرة للعالم، أصولية أحادية، تهرب من نسبوية منطق “المتعدد” إلى منطق “الواحد”، وتحارب منطق “السيرورة والتغيير” بمنطق “المحافظة والثبات”، إلى أن نجحت الأصولية في أن تصبح الممثل المهيمن لمبدأ الاعتقاد بالمطلقات، لا في أوساط المجتمعات الريفية والأمية، والمتخلفة اقتصادياً وبنى تحتية، بل في قلب الأوساط والتجمعات المدنية والحضرية والمجتمعات الصناعية والتكنولوجية الكبرى، والمزدهرة اقتصادياً ومعرفة، بل وتجد لها جمهوراً في أوساط الأجيال، الأكثر تعلماً وثقافة وتلقياً للمعرفة في السياقات المدنية والمدينية المذكورة.

يلمح المراقب تمظهرات هذا النكوص الجارف نحو الأصوليات، مثلاً، في الميل الجارف في الشارع الإسرائيلي، اليوم، نحو دعم سياسات وحكوماتٍ تدعو إلى تهويد الدولة الإسرائيلية، وإلى فرض هوية أحادية، لا يعجز المراقب عن سبر الصفات الدينية والنافية للآخر التي تحملها. يلمح المراقب، أيضاً، هذا النكوص الجارف نحو الأصولية في ميل شريحة لا يستهان بها من المجموع المسيحي العربي، خصوصاً في سورية ولبنان والعراق، إلى دعم ما يسمى بـ “تحالف الأقليات”، أو بتبني دعوة بعضهم إلى ضرورة تسليح المسيحيين، وتشكيل قوة عسكرية منهم، مهمتها حمايتهم، ومن ثم الوصول إلى تأسيس دويلة مسيحية خاصة بهم، وكيان مسيحي خالص، مع كل ما تحمله تلك الدعوات والميول. كما يستطيع المراقب أن يلاحظ، بسهولة، دعوات إلى التمسك بالأحادية على حساب التعدد والتشرذم خلف هوية دينية ضيقة، تماهي الديني بالدنيوي، وتختزل الأول بالثاني. وأخيراً، يستطيع المراقب وبكل سهولة أن يلمح النكوص نفسه نحو الأصولية في الأوساط الإسلامية المشرقية، بوجهيها الشيعي والسني، من خلال انقسام المجتمعات العربية المشرقية، بشكل عميق، إلى فريقين يتشرذمان خلف هويتهما الدينية الأحادية الضيقة (سني أو شيعي) النافية للآخر والمشيطنة له، والداعية إلى الحرب عليه ونفيه من الوجود إن أمكن. نرى هذا في تمظهراتٍ عديدة لكتائب جهادية انشطارية الهوية، سنية صرفة، أو شيعية صرفة، على امتداد الهلال الخصيب والخليج العربي، وصولاً إلى اليمن.

“يقف المشرق العربي منتظراً مصيره المقبل. نأمل، جميعاً، أن لا يكون مستقبل أصوليات وسيطرة، بل مستقبل تغيير وتحرر”

تخبرنا الدراسة التحليلية النقدية لتاريخ الأديان المذكورة أن تلك الأديان أنجبت الأصولية من لدنها، حين تحولت من رسائل سماوية، غايتها تغيير الحياة وتحرير العالم من تعاسته، إلى خطابات دوغمائية مقفلة، هدفها السيطرة على العالم، وحكمه حكماً مبرماً صارماً وجامداً. هذا التحول من رسالة تغيير للعالم إلى أداة سيطرة وتحكم بالعالم هو ما نشهده في أي نظام ذي هوية دينية، أو يقوم على منطلقات دينية، أو يعمل على تقسيم الناس على قاعدة الدين والطائفة، أو يختزل الهوية القومية والأممية بالولاء الديني.

ما علاقة كل ما سبق بإيران واتفاقها مع الغرب بشأن مشروعها النووي؟ يهتم المراقبون والمتابعون، في المشرق العربي، بالتساؤل، حالياً، عن فوائد الاتفاق المبدئي الأميركي-الإيراني، أو مساوئه، على المنطقة. أعتقد أن تلك الفوائد والمساوئ ترتبط بكيفية تعامل إيران مع الاتفاق، وكيفية فهمها لما حصلت عليه بفضله. إن كانت ستنظر إلى الاتفاق باعتباره اعترافاً بأهميتها ودورها في المشرق، لاعباً بين لاعبين آخرين، مكافئين ومساوين في الأهمية، فالاتفاق سينعكس إيجابياً على المنطقة، لأنه قد يكون عندها بداية استكانة إيران واعترافها بباقي دول المنطقة، وانفتاحها عليهم، بتواضع وإيجابية وتعاون صادق، سيجعل من الاتفاق المذكور بداية “تغيير للمشرق العربي”، وتحرير له من مآسيه العديدة والفاجعة. من جهة أخرى، إن كانت إيران ستفهم هذا الاتفاق على أنه تفويض أميركي وأوروبي لها بالهيمنة على المنطقة، ولعب دور الشرطي فيها، واستباحة دولها وأممها، بتحويلها إلى محميات إيرانية، فسيكون الاتفاق، عندها، إعلان بداية إيران إطلاق العنان لطموحاتها الأحادية والنافية للآخر، وإعلانها الصريح والصارم عن رغبتها الجارفة في تحويل ثورتها الدينية، التي أسست لإيران المعاصرة، إلى أيديولوجيا هدفها “السيطرة على المشرق وحكمه”، أي أن إيران اختارت أن تكون الراعية والمصدر الأول للأصولية، إن لم يكن الأصوليات، في المشرق.

هذا هو مقياس فائدة الاتفاق من سوئه: إما أن تفتح إيران بسبب الاتفاق ذراعيها، وتعانق الآخرين في المنطقة، وتعترف بالتعددية والتنوع والاختلاف، وتعمل معهم على تحرير المنطقة وتغييرها، أو تنغلق أكثر على نفسها وتقسم المنطقة وتشيطن الآخر وتعاديه، وتعمل على نبذ التعدد والاختلاف، وتخلق فضاء أصولياتٍ، هدفها الأوحد التقاتل مع بعضها، بغرض “السيطرة على المشرق وحكمه”. ما بين منطقي “التغيير” و”السيطرة”، يتجلى مفهوم الأصولية. وما بين قراءة إيران الاتفاق النووي وفق المنطق الأول، أو الثاني، يقف المشرق العربي منتظراً مصيره المقبل. نأمل، جميعاً، أن لا يكون مستقبل أصوليات وسيطرة، بل مستقبل تغيير وتحرر.

العربي الجديد

 

 

 

أوباما والعرب وإيران/ بكر صدقي

لم تكد تمر أيام قليلة على توقيع اتفاق الإطار بين مجموعة 5+1 وإيران حول ملفها النووي، حتى ظهر أوباما في مقابلته الصحافية مع توماس فريدمان ليقول ما فهم منه تشجيعاً على تدخل عسكري عربي في سوريا ضد نظام بشار الكيماوي. وثار الجدل حول ما إذا كان هذا التصريح يشكل تغييراً في سياسة الإدارة الأمريكية تجاه المشكلة السورية أم لا. وبالنظر إلى سلبية هذه السياسة طوال أربع سنوات ونيف من المأساة السورية الفظيعة، قد يمكن للمتشائمين أن يقرأوا هذا التصريح بوصفه محاولة من الرئيس الأمريكي لتبرئة ذمته من دم مئات آلاف القتلى وملايين النازحين واللاجئين والمشردين وعشرات آلاف القتلى تحت التعذيب في سجون النظام الكيماوي، وكذا من المسؤولية التي تتحملها هذه السياسة عن انتشار التطرف الإسلامي وصولاً إلى ذروته في إعلان دولة الخلافة الممتدة من الموصل إلى حلب ودمشق (مخيم اليرموك وجواره).

بالمقابل، يمكن للمتفائلين قراءة التصريح نفسه على ضوء الدعم الأمريكي المعلن لمعركة عاصفة الحزم الهادفة إلى وقف زحف النفوذ الإيراني في اليمن. ذلك أن جميع المراقبين يجمعون على وحدة الصراع في اليمن وسوريا والعراق ولبنان والبحرين، لكون الدول المذكورة ملاعب لمنظمات محلية يجمعها المذهب الشيعي والولاء السياسي لإيران. ولعل ساحة الصراع الوحيدة التي تشذ نسبياً عن هذا التوصيف هي سوريا حيث لا منظمات محلية شيعية بسبب صغر حجم الطائفة الشيعية في سوريا وتشتتها الجغرافي، بل نظام ينتمي رأسه إلى الطائفة العلوية (النصيرية)، وتشكل هذه الأخيرة النواة الصلبة المتماسكة لقاعدته الاجتماعية التي لم تتخل عنه إلى الآن. ربما لتعويض هذا النقص المذهبي، نجد المنظمات الشيعية الموالية لإيران تأتي من الخارج لمؤازرة النظام الكيماوي الذي تدهورت امكاناته الذاتية كثيراً. من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان وغيرها من مناطق انتشار المذهب الشيعي.

الواقع أن تصريح أوباما يحتمل التأويلين المذكورين معاً. فصحيح أنه يحتاج إلى الكثير من تبرئة الذمة بالمعنيين الأخلاقي والسياسي إزاء النتائج الكارثية لسياسته السورية، قبل أن يودع البيت الأبيض ليتفرغ لكتابة مذكراته عن هذه الفترة العاصفة من تاريخ العالم ودوره كصانع قرار للقوة العظمى الوحيدة في العالم في أحداثها.

فمن المعروف أن تلك السياسة اختبأت طوال سنوات وراء الفيتو المزدوج الروسي ـ الصيني لتبرير تقاعسها عن ردع جزار أحمق دمر البلد الذي يحكمه على رؤوس سكانه، مع العلم أن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة القادرة على هذا الردع من غير أن يستلزم ذلك تدخلاً عسكريا فعلياً. ولم تكتف السياسة المذكورة بذلك، بل منعت الدول الأخرى التي لها مصلحة في الإطاحة بالنظام الكيماوي من تقديم مساعدة عسكرية ذات شأن لقوات المعارضة، بما يمكِّنُها من الإطاحة به. لكنها غضت النظر، بالمقابل، عن الآليات التي أدت إلى انتشار التطرف كما عن تدفق آلاف الجهاديين من أربع جهات الأرض إلى الداخل السوري، وعن تدخل المنظمات الإرهابية الشيعية التابعة لإيران بصورة علنية في الصراع الداخلي السوري لمصلحة النظام.

ومع تشكيل الولايات المتحدة لتحالف دولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالتوازي مع استماتة أوباما لتوقيع اتفاق نووي مع إيران، وغضها النظر عن زحف الحوثيين إلى صنعاء وانقلابهم على الشرعية في اليمن، بدا وكأن أوباما وفريقه في اصطفاف واحد مع إيران في الصراع الاقليمي المحتدم.

الأمر الذي أثار استياء واضحاً لدى الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، من المنظومة الخليجية إلى تركيا وإسرائيل. لم تشهد العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية توتراً يماثل ما نشهده اليوم طوال تاريخ العلاقات الاستراتيجية بين البلدين.

مع انطلاق عاصفة الحزم، اتضحت أكثر السياسة الأمريكية إزاء صراعات المنطقة التي انتظمت في اصطفاف إيراني ـ عربي، أو شيعي ـ سني كما قد يفضل أنصار مذهبة الصراع السياسي على النفوذ. فقد أعلنت الإدارة الأمريكية دعمها الصريح لتحالف عاصفة الحزم، بما في ذلك الاستعداد للمساهمة بدعم لوجستي واستخباري.

كذلك لم تعترض الإدارة على وصول سلاح نوعي إلى فصائل المعارضة السورية، في شمال البلاد وجنوبها، بما مكنها من تحقيق انتصارات بارزة على النظام في إدلب وبصرى الشام ومعبر النصيب الحدودي مع الأردن. ليأتي كلام أوباما الاستنكاري لـ«عدم رؤية تدخل عربي ضد الانتهاكات الفظيعة لنظام الأسد» كما لو كان ترجمة لسماح الإدارة بوصول السلاح المذكور، وتشجيعاً لتدخل عربي أكثر فعالية في سوريا على غرار التدخل في اليمن.

ولكن لا بد من الإشارة، بصدد هذا التأويل، إلى أن تشجيع أوباما لتدخل عربي في سوريا، لا يتضمن موافقةً على الإطاحة بالنظام، بل فقط منعه من ارتكاب المزيد من الانتهاكات الفظيعة على حد تعبيره. وهذا يعني ثبات الموقف الأمريكي في تمسكه بالحل السياسي، وتشجيعه الضغط العسكري على النظام لإرغامه على القبول بالحل السياسي. هذا هو الموقف الأمريكي من المشكلة اليمنية أيضاً على أي حال. أي تشجيع السعودية وحلفائها على ضرب الحوثيين لإرغام هؤلاء على الحل السياسي في اليمن.

تنطوي سياسة التشجيع هذه على مخاطر كبيرة، وقد لا تعطي أسباباً كثيرة للتفاؤل. فهي استمرار «أكثر عدلاً» إذا جاز التعبير لسياسة الانسحاب الأمريكي الاستراتيجي من شؤون المنطقة وصراعاتها، وترك أهلها يحلون مشكلاتهم بأنفسهم. وفي الشروط القائمة اليوم، يعني ذلك تأجيجاً للصراع الاقليمي على محور مذهبي شيعي ـ سني، أي مزيداً من الصراعات والحروب الدموية.

 

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 

الاتفاق النووي ليس عنوان استقرار لأي بلد خرّبته إيران/ عبدالوهاب بدرخان

فور إعلان التوصل إلى «اتفاق نووي» لم ينتظر المجتمع الإيراني إيضاحات ولا تفسيرات، بل تظاهر احتفالاً في الإشارة الأولى إلى العالم بأن شعب إيران شعبٌ طبيعيٌ لا يختلف عن سواه. وكانت المفارقة أن مظاهر المبتهجين بالحدث لا تنمّ عن خروجهم من صفوف «الحرس الثوري» أو «الباسيج»، أو أنهم من مشايعي هذين التنظيمين، إذ هتفوا لوزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي قاد مفاوضات يُفترض أن تقود إلى انفراج معيشي ينتظره الإيرانيون منذ أعوام طويلة، وأن يمهّد جوهرياً لعودة إيران إلى الأسرة الدولية كـ «دولة طبيعية». ودلّت التغطية الإعلامية لـ «الاحتفالات» إلى أن الشعب يريد أولاً وأخيراً «رفع العقوبات»، وأنه فهم جيداً أن «الاتفاق المبدئي» لم يظهر إلا لأن القيادة الإيرانية قدّمت التنازلات اللازمة، لكنها تفضل إبراز ما بقي من البرنامج النووي على الاعتراف بما تساقط منه خلال المفاوضات.

قد لا تكون إيران تخلّت كلّياً عن حيازة «القنبلة» إلا أنها، على رغم كل التصريحات الانتصارية المخادعة، ستجمّد سعيها إليها لمدّة عشر سنوات على الأقل، سواء بفعل الرقابة المباشرة والمشددة أو بالمناخ الجديد الذي سيفرض نفسه من خلال الانفتاح على الاستثمارات الخارجية المتأهبة لدخول إيران. أما «المكاسب» التي سُلّطت الأضواء عليها (الاحتفاظ بالبرنامج والمنشآت والتخصيب والأبحاث) فكانت كلّها متاحة منذ أعوام، لأنها تتعلّق بمعايير أي برنامج سلمي علني وشفاف يُسمح به لكل الدول الموقعة على معاهدة عدم الانتشار النووي ومنها إيران، لكن هذه فشلت في إثبات «سلمية» برنامجها، وفضّلت التعرّض لعقوبات أضرّت باقتصادها وخوض أزمات وتوتيرات دولية، ثم مفاوضات معقّدة كي تنال في النهاية ما كان متاحاً. وعلى رغم ذلك يبقى «الاتفاق» أشبه بإعلان الحمل وأُفسحت ثلاثة شهور لتكوّن الجنين (لصوغ النص) أما الولادة الرسمية فمنتظرة في نهاية الشهر الرابع، وهذه فترة قصيرة قد تشوبها عوارض وتعقيدات مفاجئة (مواقف متشددي «الشورى» الإيراني وجمهوريي الكونغرس الأميركي)، فضلاً عن تطوّرات إقليمية معاكسة.

كانت أسلحة الدمار الشامل في عراق صدّام حسين بمثابة «خيال المآته» الذي منح جورج بوش الابن تغطية لغزو العراق واحتلاله، وبات معروفاً أن حرب 2003 بدت في اليوم التالي لانتهائها كأنها صيغت قلباً وقالباً من أجل إيران، حتى لو لم يكن هذا هدفها. ومع أن البرنامج النووي الإيراني معلن منذ عهد الشاه الماضي إلا أن عهد الملالي عمد إلى تفعيله وعسكرته كأحد دروس هزيمة الحرب مع العراق، وسرعان ما أرشدته ردود الفعل السلبية (خصوصاً الأميركية والإسرائيلية) إلى إمكان استخدام «وهم القنبلة» غير الموجودة لتغطية سياسة «تصدير الثورة» وتعميمها، وكذلك لدعم ميليشيات «الثورة – المقاومة – الممانعة» ببُعد «نووي» يضاعف طاقة الشحن المذهبي في ممارسة الإرهاب والترهيب. فإذا بهذه الميليشيات هي القنبلة الحقيقية التي أفرغت تفجّراتها مدناً وبلدات من سكانها، كما حدث في هيروشيما وناغازاكي، وتمتدّ مفاعيلها بطشاً بالناس ونهباً وإحراق بيوت كما يحدث في ديالى وتكريت، وكما تخطّط لإفساد تحرير نينوى والأنبار.

هل يعني «الاتفاق النووي» انتفاء «وهم القنبلة»؟ في أي حال تستطيع إيران القول أن هذا الوهم حقق أهدافه أو معظمها، وأنها لم تعد في حاجة إليه طالما أنها لغّمت المجتمعات التي اخترقتها وغزتها بفعل عسكرة الطائفة الشيعية وتفخيخ أبنائها الذين يواصلون قطع روابط التعايش والتواؤم بينهم وبين شركائهم في أوطانهم مغلّبين تسلّح الطوائف على تقوية الدولة ومحتقرين دولة القانون لمصلحة تسيّد الميليشيات. وبالنسبة إلى طهران لم يكن لـ «القنبلة»، لو وجدت، أن تحقق لها «إمبراطورية» تطلّ على البحر المتوسط أو تقارب السيطرة على باب المندب. وما كان لها أن تُحدث هذا الدمار للبشر والحجر لإضعاف سورية والعراق، أو أن تمسك بمقادير الحكم وتكسّد الاقتصاد في لبنان، أو أن تحلم بابتلاع اليمن. ولولا ذلك «الوهم» لما قال قائد «الحرس» محمد الجعفري أن إيران «ستسيطر على الخليج وبحر عمان ومضيق هرمز» (25 – 02 – 2015) ولما قال علي الشيرازي ممثل المرشد في «فيلق القدس» أن «الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن تسكت حتى ترفع علم الإسلام فوق البيت الأبيض» (28 – 02 – 15) ولما قال علي اليونسي (مستشار الرئيس حسن روحاني – «الإصلاحي») «أصبحنا إمبراطورية عاصمتها بغداد» (08 – 03 – 15). صحيح أن الوهم يقود إلى الغطرسة والغباء، لكنه في حال إيران تهوّر ممأسس لا ينبئ إطلاقاً بأن العالم إزاء دولة يمكن أن تكون – أو تعود «طبيعية» بعدما نشرت ميليشياتها الحقد والإرهاب في عمق مجتمعاتها، وهو ما لم يستطعه «داعش» ولن يستطيعه أي تنظيم إرهابي هامشي على شاكلته تتنافس العشائر مع الحكومات حالياً على محاربته.

فهل يؤشر ذلك كلّه إلى «دولة طبيعية»؟ في الأساس هناك منظومة تفكير أغلقت نفسها على مجموعة أحكام ثابتة ومتكلّسة، من بينها استخدام الإسلام وسيلة للتسلّط باسم الدين والسعي إلى «دولة الخلافة» بنسخة فارسية، ومن بينها أيضاً احتقار دائم لـ «ما يُسمّى المجتمع الدولي» بذريعة أنه خاضع للولايات المتحدة، أو «الشيطان الأكبر» الذي يعتبر الملالي أنه انتصر عليه بمجرد أن وافق صاغراً على التفاوض معه، وراكم الانتصارات متوقّعاً المزيد، لكنه يتبادل معه الآن تهافتاً واضحاً على التطبيع. ولن يكون هناك تطبيع فعلي إلا إذا اعترف الأميركيون بنفوذ إيراني ناجز في العراق وسورية ولبنان، الدول التي استطاع الملالي و «الحرس» عزلها عن محيطها العربي والعبث بأنظمتها السياسية وصيغ التعايش فيها. أما اليمن فمسألة أخرى، ليس فقط لأنه امتداد طبيعي وحيوي لدول الخليج بل لأنه يمسّ أمنها، وكذلك لأن لا أضرحة ومقامات ولا مصالح تاريخية لإيران فيه. فالحوثيون تمذهبوا «اثني – عشرياً» لزوم المصلحة في التموّل والتسلّح ولا يشكلون سوى ميليشيا قادرة على تنفيذ أوامر طهران ورغباتها، حتى لو وجدت حلفاء آنيين في الداخل فإنها تبقى أعجز من أن تؤسس نظاماً أو تدير دولةً واقتصاداً.

طالما أن الحجة الأكبر لباراك أوباما وإدارته وحلفائهما الغربيين في دفاعهم عن «الاتفاق النووي»، فإن التحدّي الأكبر إثبات أن إيران اللانووية، بالمعنى العسكري، لا بدّ من أن تختلف عن إيران المسلحة باحتمال الحصول على «القنبلة»، وخلاف ذلك يكون كل مغزى الأزمة وهدفها طوال اثني عشر عاماً، تمكين إيران من إقامة نفوذها وتوسيعه. لم يكن مقلقاً خلال المفاوضات أن تعاند طهران قبل التنازل، بل المقلق أن الدول الغربية اندفعت ولا تزال مندفعة إلى نسيان كل مآخذها (المبدئية والحقوق – إنسانية) على النظام الإيراني، وإلى قبول منظومة انتهاكاته الداخلية والخارجية لمجرد أنه برهن فاعليةً عسكريةً وسياسيةً. الأكثر إقلاقاً أن يُستنسخ نمط التعامل مع إسرائيل للتعامل مع إيران بعد الاتفاق، كأن تواصل مجموعة الـ5 + 1 الانسياق في ابتزازات الأجندة الإيرانية متجاهلةً أخطاءها لمصلحة «فاعليتها»، وأن تدفعها تنافساتها «البزنسية» للانزلاق إلى دعم المغامرات الإقليمية لإيران التي أسست بضع عشرات من الصراعات الأهلية التي ستبقى مشتعلة لسنوات طويلة مقبلة – وتحتاج إلى «شرطي إقليمي» – ما لم يتحمّل «المجتمع الدولي» مسؤوليته بجعل ضبط السلوك الإيراني أولوية لتوطيد الأمن والاستقرار في المنطقة.

طوال الأزمة النووية تطلعت إيران إلى التفاوض أولاً مع أميركا لبتّ الملفات العالقة بينهما، لكن خصوصاً للحصول على قبول واعتراف بالنفوذ الذي حصّلته. وفي كل مناسبة تشير إلى استعدادها للتعاون والتفاوض مع السعودية بحثاً عن حلول للأزمات الماثلة. أما الحاصل الآن فهو أن إيران بدأت تعرض التفاوض في ضوء استقوائها بالتقارب مع أميركا التي لم يُسجَّل ولا مرة أنها عارضت التدخل الإيراني في سورية ولبنان واليمن، أما في العراق فهي موافقة على صيغة لتقاسم النفوذ لمصلحة إيران. لكن السعودية لا تستطيع بأي حال اتخاذ موقف مشابه للموقف الأميركي طالما أن إيران تمضي في تخريب البيت العربي، ثم تدعو إلى التفاوض.

* كاتب وصحافي لبناني

 

 

مخاضات ولادة اتفاق مكتوب/ سميح صعب

يخضع الاتفاق – الاطار النووي بين ايران ومجموعة 5+1 لتفسيرات وشروحات من الجانبين المعنيين. لكن ذلك لا يحول دون التمسك به واعتباره وثيقة يمكن البناء عليها، خصوصاً انه لا يزال أمام المفاوضين حتى نهاية حزيران للتوصل الى اتفاق نهائي مكتوب.

فالاتفاق أتى في سياق سياسة يتبناها الرئيس الاميركي باراك أوباما منذ وصوله الى البيت الابيض قبل ستة اعوام وتقوم على اعطاء الديبلوماسية فرصة من أجل الانفتاح على دول تعتبر من ألد خصوم الولايات المتحدة. ولدعم موقفه حيال ايران استذكر اوباما مراراً كيف ان رؤساء أميركيين من كينيدي الى ريغان دخلوا في حوار مع الاتحاد السوفياتي السابق وتوصلوا معه الى اتفاقات للحد من التسلح على رغم العداء الايديولوجي الذي كان سائداً بين واشنطن وموسكو. ولذلك يرى أوباما اليوم ان الديبلوماسية تستحق ان تعطى فرصة مع ايران ومع كوبا في الوقت الذي لن يؤثر ذلك على استمرار الولايات المتحدة الدولة الاقوى في العالم عسكرياً واقتصادياً.

وفي الجانب الايراني، لا بد ان ثمة اقتناعاً لدى القيادة الايرانية بأن رفع العقوبات عن ايران يستحق تقديم تنازلات في الملف النووي لا تصل الى الغاء الحق الطبيعي لطهران في حيازة التكنولوجيا النووية السلمية. ولا بد ان امتلاك الطاقة النووية هو من المواضيع المسلم بها في ايران والتي هي موضع اجماع بين المتشددين والاصلاحيين ولا يقبل أي من التيارين بالتخلي عنها نهائياً.

ولا ينتقص التوجه الايراني الجديد، الذي بدأ مع انتخاب الاصلاحي حسن روحاني، من مكانة ايران الاقليمية اذا ما دخلت في تسويات مع الغرب، من شأنها في النهاية تعزيز القوة الاقتصادية لايران التي لم تتوقف عن الدوران حتى في ذروة العقوبات الدولية، فكيف اذا رفعت العقوبات نهائياً. لذلك فإن تجربة الانفتاح من الجانب الايراني، تستحق على ما يبدو في نظر القيادة الايرانية، اعطاءها فرصة.

واستناداً الى هذين الاستنتاجين بالنسبة الى أميركا وايران، فإن التفاؤل بالتوصل الى تفسير واحد للاتفاق النووي النهائي، يمكن ان يكون هو الغالب على رغم ان تحالف الجمهوريين الاميركيين مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ، لا يفوت فرصة والا يعلن عزمه على اجهاض الاتفاق بشكله الحالي.

وعليه، فإنه منذ الان وحتى نهاية حزيران الموعد المستهدف للتوصل الى الاتفاق النووي النهائي، من البديهي ان تصدر مواقف متوترة وان تطرأ تطورات وان تحصل تشنجات من هذه الجهة أو تلك، في محاولة لتحصين المواقع أو لقلب الطاولة ومنع الاتفاق من ان يبصر النور وتجنب استحقاق يرى كثيرون انه مر.

النهار

 

 

 

 

إيران ما بعد “الاتفاق” عدوانية؟/ علي حماده

يتفق جميع المراقبين على ان المنطقة تمر بتحولات جذرية. فتوقيع ايران على “الاتفاق الاطار” حول برنامجها النووي مع مجموعة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن زائد المانيا، فتح الباب واسعا امام مسار تغييري في المنطقة لا تُعرف طبيعته حتى الان، لكن من المؤكد ان ايران “ولاية الفقيه” مقبلة بعد انطلاق قطار رفع العقوبات وإصرارها على الانفتاح الاقتصادي المتعدد الوجه وعلى تحولات كبيرة، وان شهدت في المدى المنظور مزيدا من التصلب في آلة النظام العقائدية والامنية كان في الداخل عبر قمع البرجوازية المدنية التائقة الى القطع مع ايران “ولاية الفقيه”، ام في الخارج عبر الاندفاع في اتجاه الاقليم لمزيد من السيطرة على العراق وسوريا ولبنان واليمن. وللتذكير، فإن الاحتفالات الشعبية الكبيرة التي شهدتها ايران ما كانت احتفاء بـ”نصر إلهي” بمقدار ما كانت احتفاء بقرب افول نجم ايران “ولاية الفقيه” واستعجالا لدفن مرحلة الانقطاع عن العالم تحت شعارات “ثورية” ودينية ادت في النهاية الى تبديد ثروات البلاد على الامن والعسكر و”الفتوحات” الاقليمية القصيرة المدى. لقد احتفى الايرانيون في الشوارع بقرب الانفتاح على اميركا اكثر مما احتفوا بشعارات الكرامة والعزة الوطنية التي اراد النظام وضع “الاتفاق الاطار” على البرنامج النووي في سياقاتها بشكل وهمي في النهاية، تنازلت ايران عن برنامجها بوجهه النووي بعدما بددت ثروات وطنية طائلة، انتهت بتجويع الشعب.

ما تقدم لا يعني ان الازمة مع الغرب انتهت، فالعبرة في احترام ايران لالتزاماتها، وهذا ما ستكشف عنه الاشهر المقبلة. اما في ما يتعلق بالمشروع التوسعي في المنطقة، فلا ينتظر ان يحصل تحول في القريب العاجل. ايران كانت ولا تزال قوة عدوانية توسعية في المشرق العربي، وهي تتمدد على المسرح بوجوه متعددة من العراق الى لبنان واليمن مرورا بسوريا.

فالصراع في العراق لن ينتهي مع محاصرة “داعش”، اذ ان النزاعات المذهبية التي فجرتها ايران في الداخل ستبقى بمثابة القنبلة الموقوتة التي يمكن ان تفجر البلاد مرة ثانية وثالثة. اما سوريا فالمعركة ستكون اكثر شراسة مع قرار المواجهة المباشرة الذي اتخذته السعودية وتركيا على الارض. والمتوقع ان تشهد المرحلة المقبلة اشتعال جميع جبهات المواجهة في سوريا، في مسعى من التحالفين المتواجهين لتغيير المعطيات على الارض  جذرياً. أما في اليمن فالمشروع الايراني لن يمر إلا بهزيمة التحالف العربي – الدولي، وقد  قرر هذا الاخير لحظة اطلاق “عاصفة الحزم” الذهاب الى النهاية لإخراج ايران من الجزيرة العربية . فالحرب في اليمن مصيرية ولا تحتمل حلولا وسطية تتكرر فيها بدعة “حزب الله” اللبناني هناك.

اما في لبنان حيث ركيزة ايران الصلبة بوجود “حزب الله”، فالتورط في الدماء السورية لن يتأخر في استهلاك جزء مهم من  قوة الحزب البشرية. خلاصة القول ان ايران الداخلة مرحلة جديدة مع الغرب قد لا تقل عدوانية عما سبق. لذا وجب على العرب مواصلة المواجهة مهما كلف الامر.

 

 

 

 

الطريق إلى إيران/ هشام ملحم

اهتمام الرئيس الأميركي باراك اوباما بإيران ورغبته في فتح صفحة جديدة مع هذه الأمة المهمة كانا واضحين لأي مراقب لمقابلته المصورة مع معلق “النيويورك تايمس” توماس فريدمان. يعتقد أوباما أن ثمة فرصة لقوى اصلاحية في ايران تريد “كسر” الأطر الجامدة التي قيدتها منذ زمن، “الامر الذي يوفر لنا فرصة لإقامة علاقة مختلفة”. وهو يرى “ان الاتفاق الاطار” النووي يعبر عن ذلك.

في المقابل، يعبر أوباما بشكل أوضح من أي وقت مضى عن احباطه في التعامل مع الدول العربية التي يرى ان “أكبر الاخطار التي تواجهها ليس مصدرها غزو ايراني، بل مشاعر السخط الداخلي، والمتمثلة بشباب مغيّب والبطالة، ووجود ايديولوجيا عدمية، وغياب قنوات سياسية شرعية للتعبير عن المظالم.

هذه المواقف ليست جديدة كلياً، بل هي تنويعات لمواقف قديمة، وان كان توقيتها بعد الاتفاق الاولي على البرنامج النووي الايراني يعطيها بعداً اضافياً ومقلقاً لبعض جيران ايران العرب. اهتمام أوباما بايران وانبهاره بامكان تحقيق تحول تاريخي في العلاقة معها مماثل لما فعله الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون مع الصين، قديمان قدم رحلة المرشح أوباما الى البيت الابيض والتي بدأت في 2007. آنذاك قال أوباما خلال مناظرة انه كرئيس لن يتردد في التحاور مع قادة دول تعتبرها واشنطن مارقة مثل ايران وسوريا. في خطاب التنصيب في 2009 مد أوباما يده على أمل ان تتغير القبضة الايرانية الى يد ممدودة. بعد اسبوع من ذلك جدد أوباما توجيه الرسالة نفسها في المقابلة الأولى التي أجرتها معه فضائية “العربية”.

وتوالت الاشارات الى ايران بأشكال متعددة، منها رسائل الى الشعب الايراني في مناسبة عيد النوروز، اذ حيا “قادة الجمهورية الاسلامية الايرانية”، وفي اعترافه بخطابه في القاهرة في حزيران 2009، بأن واشنطن كانت متورّطة في الانقلاب على حكومة محمد مصدق الشرعية في 1953. وفي السنوات اللاحقة بعث أوباما بعدد من الرسائل الى المرشد علي خامنئي أجاب الولي الفقيه على بعضها فقط مردداً الشكاوى الايرانية التقليدية.

الاتفاق، في حال اقراره، سوف يجمد الابحاث التي يمكن ان تسمح لإيران بتصنيع قنبلة نووية على الاقل لعقد من الزمن في مقابل خروجها من قبضة العقوبات. والاتفاق يسمح لأوباما بأن يقول إنه جمد البرنامج الايراني وتفادى الحرب. المشكلة ان الاتفاق يأتي في أسوأ ظرف اقليمي منذ عقود، وعلى خلفية انهيار عربي شبه كامل، اذ يعيش عدد كبير من العرب في ظل ايران. وبما ان واشنطن تحتاج الى دور ايراني عسكري في العراق، ولا تتحدى نفوذها الجامح في سوريا ولبنان وحتى اليمن، فان الاتفاق سوف يعزز الهيمنة الايرانية في المنطقة.

 

 

 

البؤس الذهني لجماعة إيران/ دلال البزري

ثمة معادلة “فكرية”، أو بالأحرى لازمة “فكرية”، تتردّد على ألسنة قادة جماعة إيران، قوامها نقطتان: الأولى، الترحيب الشديد بالإتفاق الأميركي الإيراني حول النووي، إعتزاز بهذا الإعتراف العالمي “بمكانة إيران ودورها”، ونشوة كبيرة بها، هي التي “أحيت العزّة والإستقلال ودعمت خيارات شعوب المنطقة”؛ ذلك ان إيران هي “نواة المقاومة ضد العدوان الإسرائيلي والإرهاب التكفيري”… إلى ما هنالك من تهانٍ ذاتية، حفظنا عباراتها غيباً. أما النقطة الثانية، فهي بالعكس تماما، تعبّر عن تذمر واستياء واستهزاء بـ”العدوان على اليمن”، الذي تعدّه “خطأ سعودياً إستراتيجياً”، داعية إلى “ترك الشعب اليمني لخياراته”، متهمةً السعودية بـ”الفتنة المذهبية”، عارضةً عليها، بدل الحرب في اليمن، أن “تقصف اسرائيل نصرة للشعب الفلسطيني”، متهمة اياها بـ”التعاون مع إسرائيل المحتلة للأراضي الفلسطينية”.. مع بقية الكلمات المحفوظة.

هذه المعادلة طبيعية إلى حدّ بعيد؛ فجماعة إيران في كل المشرق العربي هم مخلوقات إيرانية، لا يمكنهم سوى التعبير، وبفظاظة فكرية مألوفة، عن نشوتهم بانتصارات إيران، مرجعيتهم، وبالتنديد بـ”العدوان” على اليمن، الذي هو حرب على نظرائهم الحوثيين، الميليشيات الشقيقة، حديثة العهد في اليمن، والتي لم تثبت قدميها في جذور اليمن كما فعل “حزب الله” في لبنان. كان يمكن لهذه الجماعة أن تعبر عن فرحتها واستيائها بشيىء من الاعتدال، ولكن لا! أبتْ إلا ان يكونوا مثل كل جماعة تابعة، أكثر ملكية من الملك.

أقول انه من الطبيعي ان لا ينقلب جماعة إيران لحظة “إنتصار” مرجعيتهم الايرانية، فيصبحوا مثلا دعاة استقلال عربي أو قطري عن ايران؛ بالعكس، هم ربما جاهدوا وتعبوا وأرسلوا الكثيرين الى الموت، من أجل تلك اللحظة الخالدة في تاريخ امتنا. وهم، في فرحتهم هذه، اختل ذكاؤهم، أو انهم بالغوا في عدم تقدير ذكاء الصاغين اليهم. فكانت مشكلات ذهنية كثيرة تعتري معادلتهم “الفكرية” هذه:

غيب المهلِّلون بالإنتصار الإيراني فحوى الإتفاق الأميركي الإيراني النووي؛ لم يذكروا، ولو على سبيل القليل من الامانة، ان الاتفاق هذا يدور حول محورين، لا ثالث لهما: رفع كافة العقوبات الإقتصادية عن إيران، مقابل تأجيل أو تجميد، ليس معروفا بالدقة بعد، القدرة على صناعة القنبلة النووية الإيرانية. لم يتعب الاميركيون والإيرانيون خلال الأشهر الطويلة من مفاوضاتهم الماراتونية، من أجل محاربة الإرهاب، ولا إسرائيل، ولا خياراتنا الوطنية. ولولا مصلحتهما الشديدة في التلاقي والإتفاق، لما نجحا بالتوصل اليهما. ما يفترض بأن إيران اقتربت من اميركا، وان اسرائيل بات موضوعها مختلفا، إذ ترى هذا التقارب بعين الغيرة الاستراتيجية؛ فـ”مشروع المقاومة” الإيراني، كما فهمنا من القليل مما تسرّب من هذه المفاوضات، هو تقرّبه من اميركا، منافسةً لإسرائيل، من دون التطرّق، ولو باشارة واحدة متواضعة، إلى تحررنا نحن، أو كرامتنا.

بالمقابل، بعد هذا الإنتصار الإيراني التاريخي، سليل “الإنتصار التاريخي الاستراتيجي…” لعام 2006. تريد جماعة إيران ان نكتّف أيادينا، وننتظر المزيد من الجموح الإيراني للهيمنة علينا، عبر ميليشيات مذهبية مؤطّرة ومنظّمة. يريدون أن يكون هذا “العجز العربي” أبديا، محْكما، بحيث لا تقوم لنا قائمة في أي أفق، منظور وغير منظور: فبدل هذه الوثبة السعودية ضد إحدى الميليشيات الإيرانية، التي ذكرتنا بأننا أمة مهدّدة بأمنها وما تبقى من سيادتها، وبعد الإنتصار الإيراني على الجميع… كان عليها، أي السعودية، أن تشن هجوماً على إسرائيل؛ أي تدعم الاتفاق النووي الأميركي الإيراني، اولا، ثم تترك حدودها  وممراتها الاستراتيجية سائبة، تقصف اسرائيل بالصواريخ: أي أن يأتي التهديد من حدود السعودية في الجنوب، فيكون ردّها بضرب العدو الإسرائيلي في الشمال؛ كأننا بصدد مثل فيلم كارتون… رسوم متحركة.

“إنتصر” الإيرانيون في الإتفاق النووي، ولم يعطوا الفلسطينيين، الذين حُملت عل أكتافهم مهام تمكينهم في منطقتنا، ولا حتى لفتة شكر وامتنان على هذا “التعتيل”… وحده أوباما، رأس حربة الامبريالية، تكلم عنهم، فقال في معرض مساجلته نتنياهو حول هذا الإتفاق مع ايران: “كنت دائماً أؤمن بضرورة إيجاد وسيلة للعيش بسلام جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين… لا بد علينا ان نعترف بشرعية مطالبهم وبأن هذه الأرض وهذه المنطقة هي أرضهم ومنطقتهم أيضاً.عليها (اسرائيل) ان تعترف بشرعية مطالبهم، وبأن هذه الأرض أرضهم” (مقابلة مع توماس فريدمن في “نيويورك تايمز”).

انه مسمار في ذكاء جماعة ايران وفي أخلاقياتهم السياسية… ومن الذي دَقّه؟ رئيس الإمبريالية الأميركية، صاحبة العلاقة “العضوية” بالصهيونية…

 

 

 

بعد الإتفاق النووي/ إيلـي فــواز

تلقّف العالم بكثير من المشاعر المتناقضة أخبار لوزان عن التوافق على بنود الإتفاق النهائي المزمع توقيعه بين إيران والدول “الخمسة زائد واحد”، والذي بحسب البيت الأبيض سيمنع طهران من الحصول على القنبلة النووية إذا ما التزمت بعهودها، كما سيسمح برفع العقوبات عن بلد منهك اقتصادياً.

المعارضون للاتفاق رأوا أنه سيء، اذ إنه لن يفشل في منع ايران من الحصول على القنبلة النووية وحسب، بل سيرفع من امكانات النظام الايراني في مناطق النزاع التي يشارك فيها في الشرق الاوسط.

المؤيدون للاتفاق اعتبروه من ناحيتهم انتصاراً “لاإادة الشعوب” و”نهج المقاومة”، وصاغ الممانعون بياناتهم التي يمتلكون سرها وحدهم بشكلٍ يبدو معه ان الاتفاق منع الدول الخمسة زائد واحد من الحصول على القنبلة النووية ورفع العقوبات عنها.

يبقى ان التعبير الأصدق اتى من الشابات والشبان الايرانيين الذي نزلوا الى شوارع طهران للاحتفال بالانفتاح على الغرب، بشكل فهموه انتصاراً على ظلامية نظام حجزهم رهينة لعقائد وايديولوجيات لم تأتهم سوى بالكوارث.

إيران ستحصل على القنبلة، هذا أمر شبه حتمي. فقبلاً الاتفاق مع كوريا الشمالية والغرب لم يمنع الأولى من الاستحواذ على النووي، والمقلق ان المنطقة ستذهب باتجاه سباق على التسلح. لكن الامر الأكثر باعثاً للقلق في هذا الاتفاق يبقى عودة نظام “إرهابي” الى احضان الشرعية الدولية، من دون أن يقدم تنازلات في اي من الملفات الأخرى لا سيما تدخله العسكري المباشر في الحرب السورية والعراقية واليمنية، وتمكنه من السيطرة على لبنان من خلال امساك حزب الله بمفاصل الدولة بالاخضاع، وتدخله في سياسات دول مستقلة من خلال دعم جماعات شيعية كما في البحرين او حتى في المملكة العربية السعودية، هذا ناهيك عن انشطته الارهابية في اكثر من مكان.

عودة ايران الى احضان الشرعية الدولية لن يكلفها حتى احترام حقوق الأقليات لديها التي تقمعها ثقافياً، او حتى احترام حقوق الانسان التي تدعي الدفاع عنه وعن الظلم الذي يلحق به.

سارع الخامنئي إلو التأكيد ان هذا الاتفاق اصلا محصوراً بالمشكلة النووية. وحسناً فعل حتى لا يلتبس الأمر لا على العالم العربي ولا حتى على الشباب الايراني المتحمس لهذا الاتفاق.

ايران لن تبدل من نهجها الاستعماري والتوسعي. و هذا ما فهمه تحديداً الملك سلمان بن عبدالعزيز عندما اطلق “عاصفة الحزم”.

أما في لبنان فسارع الشيخ نعيم قاسم، نائب أمين عام حزب الله، الى الحرص على أمن الخليج، مذكّراً انه يمر من خلال التفاوض مع ايران.

هذه بالأساس كانت رؤية الرئيس الأميركي باراك اوباما لشرق اوسط حيث نرى توازناً بين الشيعة والسنّة يفضي الى تنافس بينهما لا إلى حرب، ويجبر الاطراف على التفاوض.

تلك الرؤية حتى يومنا هذا أدت إلى نشوء ثلاث حروب وتدمير أربع دول في المنطقة وتسليمها للميليشيات: العراق، اليمن، وسوريا ولبنان. هذه الدول الأربعة تسيطر عليها الميليشيات بشكل لم يعد للدولة فيها وجود او لمؤسساتها دور عامل. هذا من دون اغفال ليبيا التي اصبحت مرتعًا للارهاب العالمي.

البعض يقول ان هذه الفوضى هي مجرد بداية ستطال بلدان تظن أنها بمنأى عنها.

 

 

النووي الإيراني وخيارات العرب/ غازي دحمان

ماذا عن العرب؟

ما هي خيارات العرب؟

دخلت إيران عصر إنتاج السلاح النووي وباعتراف وقبول دوليين، وهي حالة غريبة وسابقة في تاريخ العلاقات الدولية أن يتم دخول دولة ما إلى النادي النووي الدولي بإشراف واعتراف الدول الكبرى.

فقد جرت العادة في حالات سابقة أن يتم فرض الأمر على العالم ويجري بسرية تامة وتحوطات أمنية شديدة، كما هي حالة كل من الهند وباكستان الأقرب إلى الذاكرة. وهذا الوضع بقدر ما يمنح إيران أفضليات عديدة، يرتب مخاطر أمنية على أطراف مقابلة.

بالطبع لن تكون إيران دولة نووية في المدى القريب، أقله ليس بعد أعوام، لكنها ستصبح في النهاية كذلك، فالمفاوضات التي أجرتها والاتفاق الناتج عنها لم يهتم بقضية إخراج إيران من السياق النووي، بل كان يركز على مسألة تأجيل إنتاجها لهذا السلاح إلى تواريخ محددة، وضمن هذه المهل تستطيع طهران استكمال البنى التحتية اللازمة، بما فيها تهيئة الكوادر واستكمال البنية التقنية ضمن ظروف مريحة وبيئة دولية أقل توترا، والأهم من كل ذلك في إطار بحبوحة اقتصادية سيضمنها الاتفاق الموازي لرفع العقوبات الاقتصادية عن قطاعاتها المالية والنفطية واستعادة أموالها المحتجزة في الغرب.

ماذا عن العرب؟

يقع العرب في النطاق الأكثر حيوية للإستراتيجية الإيرانية وطموحاتها الإمبراطورية التي يجري البوح بها بين الحين والآخر. صحيح أن لإيران منافسين إقليميين من طبيعة نووية، مثل باكستان والهند وإسرائيل، ومنافسين إقليميين يمتلكون قوة عسكرية وازنة مثل تركيا، لكن هذه الأطراف لا تقع ضمن النطاق الإستراتيجي للمصالح الإيرانية، على الأقل في المديين القريب والمتوسط.

وتكشف عملية تفحص طبيعة علاقة إيران بهذه الأطراف وجود شبكة من التفاهمات السياسية والأمنية والاتفاقيات الاقتصادية البينية تشكل ضمانة لاستمرار التنسيق والتفاهم بينها، يضاف إلى ذلك وجود عوامل جغرافية وأمنية تحدّ من أي نشاط إيراني بتلك الاتجاهات. بل على العكس من ذلك، تحاول إيران قدر الإمكان الحفاظ على الترتيبات القائمة مع تلك الدول، فهي تدرك أن الصحارى الآسيوية في تخومها مع باكستان وأفغانستان كفيلة بضياع جهودها واستنزاف قدراتها لعقود من الزمن، في حين أنها تعاني من ضعف إستراتيجي هائل تجاه تركيا يتمثل في وقوع كتلتها الديمغرافية الكبرى وقلبها الحيوي على خطوط التماس.

وبالطبع لن تكون إسرائيل ضمن خارطة الأحلام الإمبراطورية، بل من المتوقع أن تكون الاتفاقيات السرية بين أميركا وإيران الرديفة لاتفاق التفاهم النووي قد ركزت على هذه المسألة بالتحديد لما يعنيه الأمن الإسرائيلي بالنسبة لأميركا. ثم إن إيران -البراغماتية في السياسة أكثر من أميركا نفسها- تدرك أن فلسطين انتهت بالنسبة لها كوظيفة، بعدما استثمرتها إلى أبعد حد.

وتاليا فإن الأمر سينتهي إلى التزام تام بقواعد الاشتباك بين أذرع إيران في المنطقة وبين إسرائيل، تماما كالحالة التي سادت لأربعة عقود متواصلة على جبهة الجولان، حين كان نظام الأسد فاعلا على كل الجبهات باستثناء جبهته مع إسرائيل لدرجة وصلت حد اختيارها المكان الأفضل لاستجمام الإسرائيليين وراحتهم.

على ذلك، فإن تصريف الأحلام الإمبراطورية وتفريغ شحنات النهوض القومي الإيراني سيكون مرشحا بدرجة مؤكدة في المسارح العربية، خاصة أن إيران أسست على مدى أكثر من عقد بنية كاملة من آليات السيطرة وتوطين القوة فيها بما يخدم مشروعها.

وقد اتبعت إيران في ذلك أسلوب توسيع مساحات الفراغ وتفكيك الكيانات ووضعها على خط التدمير الكياني الذاتي، كما حصل في سوريا والعراق، بعد صناعة نظام تغذية متكامل من الانقسامات المذهبية. والمشكلة أن هذا الأمر يحصل تحت لافتة النفوذ الثقافي والديني الذي تحاول إيران إقناع العالم بشرعيته، والمشكلة الأخرى أن إيران تعمل بكل جهدها على مد رقعة هذا النفوذ إلى مسارح أخرى في المنطقة العربية.

ما هي خيارات العرب؟

هذا الأمر يتطلب بدرجة أولى تحديد من هم العرب المستهدفون؟ بواقعية جارحة، ليس للعرب معيار واحد في تحديد مصادر الخطر. لقد أثبتت استجابة الأطراف العربية للمخاطر هذا التفاوت الواضح، ذلك أن الأمن القومي لم يعد عاملا موحدا لبلدان العالم العربي، بل على العكس من ذلك، صار عاملَ انقسام بجدارة، فما يراه طرف أمنا قوميا يعتبره طرف آخر صراعا غير مجد، والانخراط فيه قد تنتج عنه تداعيات على الأمن القومي لنظام ما، ناهيك عن افتقار العالم العربي إلى الآليات المناسبة والمؤسسات التي يمكنها إنتاج فعل قوة يتمتع بالديمومة والثبات.

وبالعودة إلى الأطراف التي يقع عليها التحدي أو تلك المحتمل انخراطها في مشروع مواجهة مع إيران والتصدي لها، فإن القائمة العربية تسقط أطرافا من خانتها أكثر مما تحتفظ، فبعد خروج العراق وسوريا من قائمة حسابات الأمن القومي العربي، بل وتحولهما إلى عنصر غير مساعد ومحسوب على الكفة الإيرانية أقله في الوقت الحالي، فإن نظام مصر -رغم مشاركته الرمزية في عاصفة الحزم- لا يبدو أن لديه الرغبة في السير بعيدا ضمن مشاريع الأمن القومي، إلا إذا ارتبطت بأجندته الأمنية ورؤيته الخاصة والضيقة التي تحصر مفهوم الأمن القومي في الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر أو مناطق قريبة منها.

ينسحب الأمر كذلك على الجزائر والمغرب اللتين تمتلكان قوة عسكرية معتبرة، حيث للبلدين تقديراتهما الأمنية الخاصة التي لا يدخل ضمنَها الخطر الإيراني، في حين لا يملك السودان قوة عسكرية مهمة تجعله طرفا فاعلا في أي ترتيبات مستقبلية.

إذًا فالأمر يقتصر على دول الخليج والأردن بدرجة كبيرة، كما يقع على عاتقها مواجهة التحدي الإيراني المفروض، خاصة أنها تقع ضمن قوس المصالح الإستراتيجية الإيرانية الحيوية، وفي عين استهداف المشروع الإيراني. ولا شك أن إيران المتفاهمة مع الغرب وقواه الرئيسية حول ملفات أمنية وسياسية، ستجد نفسها أكثر تحررا بالاندفاع تجاه هذه المنطقة، وبالاستناد إلى خبرتها العملاتية في سوريا والعراق، فإن الأمر قابل للاستنساخ في مرحلة ثانية في مناطق شبيهة بتركيبتها الاجتماعية وتفجير الخلافات والقلاقل كمقدمة لإحداث الفراغ ونقل منظومتها العسكرية.

وبالنسبة للأردن لا يبدو بعيدا عن خط الاستهداف الإيراني لكونه يمثل رابطا بين الخليج وسوريا ولبنان، كما يشكل بالحسابات العسكرية قوة رافدة للأمن الخليجي. وبما أن إمكانية تحييده غير ممكنة نظرا لارتباطه المتشابك ضمن خريطة الأمن الخليجية والسورية والعراقية، فإنه سيقع حتما ضمن خارطة عمليات إيران في المنطقة.

تشكل هذه الاحتمالات الأمنية جزءا أساسيا من مشهد المنطقة القادم، حتى إنها تكاد تبدو تطورات مؤكدة لا يمكن لصانع القرار الخليجي والأردني التغاضي عنها، خاصة أن إيران ستعمل في الفترة القادمة على تخفيض منسوب تفاعلات الاتفاق النووي على مجتمعها الداخلي ومحاولة منع تشكل دينامية اجتماعية سياسية تستفيد من الانفتاح الغربي وتؤثر تاليا على تركيبة السلطة وبنيتها بما يقلل من تأثير مراكز القوى الحالية، وبالتالي فإنها ستندفع باتجاه الخارج وإشغال مجتمعها ونخبها وقومياتها عن أي استحقاق داخلي، الأمر الذي من شأنه زيادة الضغوط والمخاطر الأمنية على الدوائر العربية المستهدفة.

والواقع يقول إن هامش المناورة والخيارات أمام الدول العربية بات ضيقا جدا جراء الاختراق الإيراني الواسع، كما أنه لا يمتلك مساحة زمنية كبيرة لبناء حقل مواجهة مرن، وتاليا فإن الفعالية المضمونة راهنا تكمن في بناء خطط للدفاع أكثر، على أن يصار لاحقا إلى استدراك النقص وسد الثغرات، وعليه فإن الخيارات تقع ضمن التالي:

1- استغلال القبول الدولي بمشاريع نووية مؤجلة والذهاب بهذا الاتجاه، والاستفادة من العرض الأميركي بالمظلة النووية على اعتباره اعترافا أميركيا صريحا بوجود مخاطر نووية. ومن المعروف أن هناك ثلاث دول في الإقليم لديها برامج نووية بدرجة ما: الأردن والإمارات والسعودية.

2- الذهاب باتجاه مأسسة مكون القوات المشتركة وهيكلتها ووضع قواعد لعملها، وإدراجها كواحدة من بنية القوة المفروض صناعتها في المنطقة، بالإضافة إلى تدعيم الجيوش الوطنية.

3- العمل على طرد النفوذ الإيراني من سوريا واليمن وتحجيمه في العراق إلى أبعد الحدود، وهذا يستلزم وجود قيادة تشرف على تنسيق الفعاليات القتالية التي تقودها القوى الوطنية في هذه البلدان وتعمل على توحيدها وإعادة هيكلتها.

لا تملك الدول العربية من خيار سوى المواجهة، فقد أثبتت تجربة اليمن أن الذهاب لمواجهة الخطر أكثر جدوى من انتظاره، ولا شك أن إيران المدفوعة بالأحلام النووية وبالثقة الكبيرة بالنفس سيغريها كثيرا وجود بقع فراغ للقوة في أكثر من مكان، وقد باتت تملك فائضا من الخبرة في كيفية تحويل أزمات الكيانات الضعيفة إلى فرص لها، وكيف تعبث بأمن تلك الكيانات، فهل نتنظر على الدور؟

 

 

 

 

ما بعد “لوزان”: روحاني وفريقه في مواجهة الداخل الإيراني/ د. فاطمة الصمادي

ملخص

تناقش هذه الورقة ردود الفعل الإيرانية على “اتفاق لوزان” الخاص ببرنامج إيران النووي، والأسباب التي يسوقها المؤيدون والمعارضون للاتفاق، والآليات التي سيتبعها كل طرف لتحقيق ما يريده سواء بدعم الاتفاق أو إجهاضه. وتقرأ الورقة أهم بنود الاتفاق والنقاط التي يعتبرها المؤيدون إنجازًا وكذلك النقاط التي يستند إليها المعارضون. وتتوقف الورقة عند موقف مؤسسة الحرس الثوري التي أظهرت دعمًا للاتفاق وموقف لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإيراني التي سجَّل عدد من أعضائها اعتراضًا واضحًا على الاتفاق.

وتخلص الورقة إلى أن مخرجات لوزان، وبعيدًا عن التفسيرات اللفظية والتلاعب بالمصطلحات “اتفاق إطاري” تارة و”تفاهم سياسي” تارة أخرى، هي اتفاق بكل ما ترتِّبه هذه الكلمة من نتائج وتبعات. ورغم الخلافات التي بدأت تظهر للعلن إلا أن معسكر المؤيدين للاتفاق يبدو أكثر صلابة؛ فقد حقَّقت إيران اعترافًا دوليًّا بامتلاكها التقنية اللازمة في المجال النووي، وحصلت على إقرار من المجتمع الدولي بحق إيران في امتلاك التقنية النووية السلمية وهو ما يشكِّل مصدر دخل كبير لإيران، وحصلت على تعهد بإلغاء العقوبات الاقتصادية، فضلًا عن تغيير السلوك السياسي تجاه إيران.

ورغم الخلاف والمخاوف التي تحيط بالاتفاق إلا أن القوى المؤثرة في الساحة السياسية الإيرانية تجتمع على  “ضرورة إنجاح الاتفاق”.

سريعًا وضعت الساحة السياسية الإيرانية الاتفاق الإطاري بين إيران ومجموعة دول 5+1 بشأن برنامج إيران النووي في معرض النقد والمحاسبة، ولم يشفع لوزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، ذلك الاستقبال الحافل من جماهير رحبت بالاتفاق. وجد المفاوض الإيراني نفسه عُرضة للنقد والهجوم، وكان عليه أن يقدم الكثير من الإجابات بشأن عدد من النقاط التي لا تزال غير واضحة في الاتفاق، فضلًا عن ضرورة تقديم ما من شأنه أن يحدَّ من شكوك ومخاوف الأطراف السياسية وفي مقدمتها نواب في مجلس الشورى، بدأوا يجاهرون بمعارضة الاتفاق والسعي لإبطاله. وتبدو حالة التجاذب مؤهَّلة للاتساع خاصة مع بدء التليفزيون الإيراني ببث مناظرات بين مؤيدي ومعارضي الاتفاق.

تبحث هذه الورقة في ردود الفعل الإيرانية على “اتفاق لوزان”، والأسباب التي يسوقها المؤيدون والمعارضون للاتفاق، والآليات التي سيتبعها كل طرف لتحقيق ما يريده سواء بدعم الاتفاق أو إجهاضه.

اتفاق لوزان: أهم البنود

تركزت بنود الاتفاق في محورين رئيسيين، هما(1):

الأول: التخصيب والتفتيش والمنشآت النووية

التخفيض بمقدار الثلثين لعدد أجهزة الطرد المركزي المستخدمة لتخصيب اليورانيوم لإنتاج قنبلة نووية، من 19 ألف جهاز إلى 6104 المثبتة بموجب الاتفاق، وتستعمل إيران منها 5060 جهازًا فقط لتخصيب اليورانيوم.

نسبة تخصيب اليورانيوم لا تتجاوز 3.67 % على مدى 15 عامًا.

التخفيض من مخزون اليورانيوم المخصَّب من 10 آلاف كيلوغرام إلى 300 كيلوغرام فقط على مدى 15 عامًا.

وضع أجهزة الطرد المركزي الزائدة والبنية التحتية لتخصيب اليورانيوم المتنازل عنها في مخازن تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على أن لا تُستخدم إلا كبدائل لأجهزة الطرد المركزي العاملة.

عدم قيام إيران ببناء أية منشأة جديدة بغرض تخصيب اليورانيوم خلال 15 عامًا.

عدم استخدام منشأة “فردو”، وعدم إجراء أبحاث بخصوص التخصيب في المنشأة، لمدة 15 عامًا، على أن يتم تحويلها للاستعمالات ذات الأغراض السلمية لاحقًا (معهد للبحوث الفيزيائية والنووية).

السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم فقط في منشأة “نطنز” لمدة 10 سنوات باستخدام 5060 جهاز طرد مركزي من الجيل الأول.

سحب 1000 جهاز طرد مركزي من الجيل الثاني من منشأة “نطنز” ووضعها في مخازن تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بمراقبة المواقع النووية الإيرانية كافة بانتظام، كما سيكون بإمكان مفتشي الوكالة الوصول لسلسلة الإمدادات التي تدعم البرنامج النووي الإيراني، سيما مادة اليورانيوم.

تمكين الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الوصول إلى أي موقع تشتبه فيه أو أية منشأة “سرية”.

موافقة إيران على تطبيق البروتوكول الإضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي يمنح الوكالة حق الوصول للمعلومات بشأن البرنامج النووي، بما في ذلك المرافق المعلنة وغير المعلنة.

موافقة إيران على الإبلاغ المبكر عن عزمها إنشاء أية منشأة جديدة.

إعادة بناء مفاعل “آراك” النووي الذي يعمل بالمياه الثقيلة، بشكل لا يمكن معه إنتاج البلوتونيوم، على أن تدعم في ما بعد الأبحاث العلمية والنظائر المشعَّة في إنتاج النووي السلمي.

تقوم إيران بشحن الوقود المستنفد من المفاعل خارج البلاد مدى الحياة، مع التزامها بعدم إجراء أبحاث أو عمليات إعادة تصنيع على الوقود النووي المستنفد.

التزام إيران بعدم بناء أي مفاعل نووي إضافي يعمل بالمياه الثقيلة لمدة 15 عامًا.

الثاني: العقوبات

وعلى صعيد العقوبات، كان أبرز ما تضمنه الاتفاق:

يقوم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، بتعليق العقوبات، بعد تحقق الوكالة الدولية للطاقة الذرية من تطبيق إيران جميع الخطوات الرئيسة المتعلقة ببرنامجها النووي.

تجديد العقوبات على إيران في حالة عدم التزامها بنص الاتفاق.

سيتم رفع جميع قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة ببرنامج إيران النووي في آنٍ واحد مع انتهاء إيران من معالجة جميع المحاور الرئيسة (التخصيب، مفاعل “فردو” و”آراك”).

صياغة مشروع قرار جديد في مجلس الأمن الدولي متعلق بنقل التكنولوجيا الحساسة، إضافة إلى دمج قيود مهمة على الأسلحة التقليدية والصواريخ الباليستية، والسماح بتفتيش البضائع ذات الصلة، وتجميد الأصول من خلال هذا القرار الجديد.

إعادة فرض العقوبات على إيران في حال حيادها عن تطبيق ما التزمت به.

الإبقاء على العقوبات الأميركية على إيران الخاصة بالإرهاب وحقوق الإنسان والصواريخ الباليستية.

قراءة في البنود

لقد وصل المفاوضون إلى نتيجة واضحة فيما يتعلق بأكثر من 95% من الموضوعات التي جرى التفاوض بشأنها(2)، وتضمنت الملاحق ست قضايا، هي: آراك، فردو، والتخصيب، والرقابة والتفتيش، والبحث والتطوير، والعقوبات، وهناك بنود واضحة بشأنها أيضًا. وبالعودة إلى تصريحات المفاوضين بأنه ما لم يتم الوصول إلى حلول فإن البيان الصحفي لن يصدر، فإن ذلك معناه أن ما تضمنه البيان الصحفي هو خلاصة للاتفاقات التفصيلية التي جرى التوافق عليها بين جميع الأطراف، بما فيها الطرفان: الإيراني والأميركي. وعليه، يمكن القول بأن “اتفاق لوزان” هو اتفاق على الإطار الكلي وحلول للكثير من القضايا، وأن التفاوض القادم سيكون لبناء آليات إجراء وتنفيذ هذا الاتفاق.

وفقًا لمعطيات كثيرة، لا يمكن لفريق التفاوض الإيراني أن يتملَّص أو يتهرب من التعهدات الدولية التي رتبها الاتفاق؛ وهو ما يشير إليه بوضوح البيان المشترك (ظريف-موغريني) والذي يقول صراحة بوجود (خطة عمل شاملة مشتركة)(3)، سيتم حل القضايا الرئيسية وفقًا لما ورد فيها، وأن القادم لن يختلف عن الأصل سوى بمزيد من الجزئيات التي سيتم إضافتها، وينص الاتفاق على أن الحلول بشأن خمس قضايا خلافية سيكون ضمن الإطار المتفق عليه(4). ولم تأت تصريحات جون كيري بعيدة عن هذا المعنى عندما تحدث عن “اتفاق سياسي يتضمن جزئيات”، وأن ما بقي يتعلق بـ”الجزئيات الفنية”(5).

وعلى صعيد الرقابة والتفتيش فإن الخلاف والتفاوض الذي حكم الملف النووي الإيراني مرشح للانتقال إلى مناطق وملفات أخرى لا تقل حساسية بالنسبة للجمهورية الإسلامية وفي مقدمتها برامجها التسليحية “البرنامج الصاروخي”.

مؤيدو الاتفاق: حققنا نصرًا

يرى مؤيدو الاتفاق أنه “منعطف تاريخي مهم” على صعيد علاقة إيران بالخارج وخاصة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية؛ حيث إن الاتفاق الإطاري يعد المرة الأولى التي جرَّب فيها الطرفان إمكانية الثقة ببعضهما(6).

ويذهب فريق من المؤيدين إلى القول بأن إيران حققت “نصرًا”(7) في لوزان ويستندون في ذلك إلى مجموعة أسباب، أهمها:

إقرار المجتمع الدولي بحق إيران في امتلاك التقنية النووية, بعد سنوات من رفض ذلك, بحجة التخوف من أغراض عسكرية للبرنامج النووي الإيراني.

يشكِّل هذا الاتفاق أيضًا اعترافًا ضمنيًّا من الدول الكبرى بأن إيران دولة تمتلك التقنية اللازمة في المجال النووي.

يُثبت الاتفاق أن إيران استطاعت تجاوز العقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليها، ولم تنجح هذه العقوبات في عرقلة قدرتها على تطوير برنامجها النووي.

ستشكِّل التقنية النووية مصدر دخل كبير لإيران, وخاصة على صعيد إنتاج وتصدير الطاقة الكهربائية. فهذا الاتفاق يسمح لإيران بإنتاج الطاقة الكهربائية من المفاعلات النووية, ويمكن تصور مقدار العائدات التي ستحصل عليها من تصدير الطاقة الكهرونووية مستقبلًا. فضلًا عن إنتاج النظائر المشعة للاستخدامات الطبية.

سيقود الاتفاق إلى إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على ايران على خلفية برنامجها النووي، وسيكون لذلك تأثيرات إيجابية على الاقتصاد الإيراني.

أبطل هذا الاتفاق الخيار العسكري ضد إيران، وقلَّل من فرص وإمكانيات إسرائيل في توجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني، خاصة أن الاتفاق سيأتي ضمن قرار لمجلس الأمن, وتعهد المجتمع الدولي بضمان عدم خروج البرنامج النووي عن مساره السلمي.

حافظت إيران على ديمومة برنامجها، خاصة أن الاتفاق لا يقضي بتفكيك أية منشأة على الرغم من تحويل بعضها من حيث الغرض مثل مفاعل فوردو الذي سيتحول إلى معهد للأبحاث النووية والفيزيائية.

الحرس: تغيير السلوك السياسي لواشنطن

وبدا موقف الحرس الثوري لافتًا من الاتفاق، فهو “دليل مقاومة الشعب الإيراني أمام أميركا”، وهذه المقاومة “أفشلت الخيارات القوية للولايات المتحدة الأميركية لفرض إرادتها السياسية على الجمهورية الإسلامية في إيران”(8).

ويقرأ الحرس في اتفاق لوزان دليلًا على “تغيير السلوك الأميركي”، وهو ما أجبر واشنطن على “تجاوز جميع الخيارات المطروحة على الطاولة واستعاضت عن ذلك بطريق الدبلوماسية لحل القضية النووية”(9). جدَّد الحرس تأكيده على ما يعتبره “خطوطًا حمراء”، وهي: “دورة التخصيب النووية، وإجراء أنشطة الأبحاث والتنمية في هذا المجال، وإلغاء جميع إجراءات الحظر ذات الصلة كنقطة مركزية لمطالب إيران”، وهي مطالب ضَمِنها الاتفاق بالمجمل.

وقدَّم الحرس دعمًا كبيرًا للرئيس الإيراني وفريق التفاوض، وعقد الرهان على “الجهاز الدبلوماسي الفَطِن والشجاع ليستخدم الفرصة المصيرية المتبقية القادمة لعزة إيران وإلغاء كافة إجراءات الحظر بالتزامن معًا”، ويقدم دعم الحرس مؤشرات كبيرة على أن روحاني كسب إلى جانبه ثقلًا يرجح كفته أمام معارضيه، ويمكِّنه من تمرير الاتفاق رغم معارضة لا يستهان بها داخل مجلس الشورى.

معارضو الاتفاق: اختراق للخطوط الحمراء

بناء على ما سبق فإن شخصيات وفئات سياسية داخل إيران، سيكون لديها أسباب مهمة لمهاجمة الاتفاق وانتقاده، وذلك سيتركز في محورين مهمين:

الأول: أن ما وافق عليه فريق التفاوض الإيراني رتَّب التزامات قانونية أمام المجتمع الدولي دون أن يكون له حق التراجع عنها؛ وذلك يخالف ما ورد على لسان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من أن “هذا المتن ليس ملزمًا”، فإيران مثلًا لن يكون بإمكانها تشغيل 10 آلاف جهاز طرد مركزي بدل 5000 جهاز، فضلًا عن تفاصيل أخرى كثيرة تشي بأن الاتفاق يحمل صفة الإلزام لإيران(10). وتقوم وجهة نظر المعارضين للاتفاق على أنه إذا كان كل بنود اتفاق لوزان ستُصاغ كما هي بدقة في الاتفاق النهائي، فذلك يعني أن المفاوض الإيراني قد تجاوز بعض الخطوط الحمراء، فإيران لم تكن تريد اتفاقًا من مرحلتين، بل اتفاقًا واحدًا نهائيًّا وشاملًا. والأهم هو أن في هذه البنود غموضًا كبيرًا، ومن المفترض أن يكون الاتفاق النووي واضحًا وشفافًا ومفهومًا للجميع، وتُعدُّ آلية إلغاء العقوبات أبرز النقاط غير المفهومة في مقابل التزام طهران بتعهُّداتها النووية(11).

والاتهام بتجاوز الخطوط الحمراء ختم جلسة للبرلمان بجدال لفظي بين محمد جواد ظريف والنائب الأصولي كريم قدوسي، الذي عارض بنود الاتفاق حول مفاعلي فوردو ونطنز. ويرى قدوسي ويشاركه في ذلك نواب آخرون أن جواد ظريف “لم ينصع لقرارات المرشد الأعلى”، وردَّ ظريف بأن ذلك “كذب.. لم تكن تحضر اجتماعات المرشد فكيف عرفت ذلك؟!.. عندما لا تعلم لا تتحدث”(12). وانضم النائب مهدى كوتشك زاده إلى قائمة المعارضين ورفع لافتة لوزير الخارجية تحوي نصًّا دستوريًّا يمنع عقد أي اتفاق يسيطر بموجبه الأجانب على المصادر الطبيعية والاقتصادية والثقافية والجيش وشؤون البلاد(13).

ويأتي النقد الذي يسوقه نواب في البرلمان منصبًّا على التناقض بين التصريحات الأميركية والإيرانية، فـ”ما جاء على لسان ظريف، الذي قال: إنه سيتم إلغاء كل أنواع العقوبات الأميركية والأوروبية، يختلف عمَّا جاء على لسان منسقة الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني، التي يُستشف من كلامها أن هذا الامتياز سيُمنح لإيران بعد التأكد من تطبيق إيران التزاماتها المنصوص عليها في الاتفاق”(14).

وستكون قضية “تخصيب اليورانيوم” محور خلاف آخر بين مؤيدي ومعارضي الاتفاق، فـ”إيران كانت تُخصِّب هذه المادة بنسبة عشرين في المائة لتستفيد منها في مفاعلاتها النووية، ومن ثم وافقت البلاد على تخفيض النسبة بموجب اتفاق جنيف المؤقت إلى 5 %، بينما ينصُّ اتفاق لوزان على عدم تجاوز التخصيب نسبة 3.67%”(15).

الثاني: عملية صياغة خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA): وهذا يشير بصورة واضحة إلى اتفاق على مرحلتين، الأولى: تتعلق بالأطر العامة للحل مع نسبة لا يستهان بها من الجزئيات، والثانية: تتعلق بالجزئيات التي تجعل من الاتفاق قابلًا للتوقيع والتنفيذ. ولذلك، فإن بعض الالتزامات المهمة للأطراف الأخرى خاصة في مجال العقوبات وجدولة إلغائها أو تعليقها لم تُحسم بعد، وهو ما من شأنه أن يقود إلى الكثير من النقد لهذا الاتفاق داخل إيران.

لجنة الأمن القومي: العقبة الأبرز

ويبدو أن لجنة الأمن القومي، ذات التأثير الكبير في مجلس الشورى، ذي الغالبية الأصولية، لديها مواقف من الاتفاق تتراوح بين الرفض والتحفظـ، ولذلك فإن مهمة حكومة روحاني أمام هذه اللجنة لن تكون بالسهلة. فاللجنة وفقًا لرئيسها النائب الأصولي، علاء الدين بروجردي، “ستبحث كل التفاصيل المتعلقة بمفاوضات لوزان، وستعمل على مراقبة الوضع عن كثب خلال الأشهر المقبلة”. وفي “حال عدم التزام الطرف المقابل، سيعمل البرلمان على الوقوف بوجه تقديم أية تنازلات من دون نيل مكاسب الاتفاق”.

ووفقًا لما تراه اللجنة فعلى “الاتفاق النهائي أن يضمن أولًا إلغاء العقوبات؛ إذ ليس من الواضح في اتفاق لوزان، ما إذا كانت قرارات العقوبات ستُلغى فوريًّا أم تدريجيًّا أم ستُمنح لإيران كمقابل، بعد التأكد من وفائها بعهودها”. خاصة أن “إيران باتت أسرع بكثير من السابق في تطوير برنامجها النووي، وأن أي إخلال بالتعهدات من قبل الغرب، يعني أن البرلمان سيُلزم الحكومة باستئناف النشاط النووي المعلق”(16).

وعلى الرغم من تأكيداته إلا أن بروجردي يتشارك مع رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني في أن ما تحقق كان إنجازًا، فـ”نتائج اجتماع لوزان أسفرت عن دخول الجمهورية الإسلامية فعليًّا إلى نادي الدول المالكة للتقنية النووية بعيدًا عن إنتاج القنبلة النووية”(17).

وسيكون البند المتعلق بتوقيع طهران على البروتوكول الإضافي لمعاهدة “الحدّ من انتشار الأسلحة النووية”(18)، والذي يسمح بتفتيش مباغت للمنشآت النووية في مدة أقصاها يومان، محل خلاف كبير خاصة أن مجلس الشورى هو صاحب الحق دستوريًّا في التوقيع على المعاهدات، ورغم مخاوف من رفض النواب تمرير الموافقة على هذه المعاهدة إلا أن المعارضة مع وجودها لا تُسقط أن “الغالبية يريدون إنجاح الاتفاق”.

الخلاصة: ما جرى اتفاق

يشكِّل ما جرى الاتفاق عليه في لوزان، الحدث الأهم في تاريخ البرنامج النووي الإيراني منذ إطلاقه وإلى اليوم. وبعيدًا عن التفسيرات اللفظية والتلاعب بالمصطلحات “اتفاق إطاري” تارة و”تفاهم سياسي” تارة أخرى فإن ما تم بعد 10 أيام ماراثونية من التفاوض هو اتفاق حقيقي، ولن يتسنى للتفاوض حول التفاصيل تغييره خاصة أن هذه التفاصيل قد جرى الإشارة إليها وبسطها في وثائق محددة صادرة عن الطرفين: الأميركي والإيراني، فضلًا عن أنه ليس من المعقول أن يشارك وزراء خارجية 6 دول في جلسات تفاوض مكثفة للخروج ببيان لا يرقى إلى اتفاق، ولذلك فإن مخرجات لوزان هي اتفاق بكل ما ترتبه هذه الكلمة من نتائج وتبعات.

ورغم الخلافات التي بدأت تظهر للعلن إلا أن معسكر المؤيدين للاتفاق يبدو أكثر صلابة؛ فقد حققت إيران اعترافًا دوليًّا بامتلاكها التقنية اللازمة في المجال النووي، وحصلت على إقرار من المجتمع الدولي بحق إيران في امتلاك التقنية النووية السلمية وهو ما يشكِّل مصدر دخل كبير لإيران، وحصلت على تعهد بإلغاء العقوبات الاقتصادية وهو ما سيترك تأثيرات إيجابية على الاقتصاد والمجتمع الإيراني. ولا يقل أهمية عن ذلك كله هو “تغيير السلوك السياسي الأميركي” تجاه إيران وإبطال الخيار العسكري ضد الجمهورية الإسلامية.

ويسوق المعارضون للاتفاق حُججًا لا تقل أهمية عن حجج المؤيدين؛ فقد رتَّب الاتفاق التزامات قانونية أمام المجتمع الدولي لا يمكنه التراجع عنها، خاصة على صعيد تخصيب اليورانيوم، وجاء على مرحلتين وليس كما أرادته طهران اتفاقًا واحدًا نهائيًّا وشاملًا، فضلًا عن أن آلية إلغاء العقوبات الاقتصادية يكتنفها الغموض وتحاط بتفسيرات متباينة.

وأيًّا يكن من مستقبل الخلاف إلا أن القوى المؤثرة في الساحة السياسية الإيرانية يجمعها “الرغبة في إنجاح الاتفاق”.

___________________________________________

د. فاطمة الصمادي: باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات، متخصصة في الشأن الإيراني

 

الهوامش والمصادر

1- Parameters for a Joint Comprehensive Plan of Action regarding the Islamic Republic of Iran’s Nuclear Program, WSJ, 4/4/ 2015 accesses date: 6/4? 20215:

http://online.wsj.com/public/resources/documents/IranDealParameters04022015.pdf

2- محمدي، مهدي، بيانيه روز سيزدهم! ارزيابي راهبردي- انتقادي توافق لوزان (بيان اليوم الثالث عشر: تقييم استراتيجي-نقدي لاتفاق لوزان)، ايران هسته اى، 4 إبريل/ نيسان 2015، تاريخ الدخول: 44 إبريل/ نيسان 2015:

http://www.irannuc.ir/content/2565

3- Parameters for a Joint Comprehensive Plan of Action regarding the Islamic Republic of Iran’s Nuclear Program, WSJ, 4/4/ 2015 accesses date: 6/4? 20215:

http://online.wsj.com/public/resources/documents/IranDealParameters04022015.pdf

4- Joint Comprehensive Plan of Action (JCPOA)

5- Julian Borger and Paul Lewis, Iran nuclear deal: negotiators announce ‘framework’ agreement, The Guardian, Friday 3 April 2015:

http://www.theguardian.com/world/2015/apr/02/iran-nuclear-deal-negotiators-announce-framework-agreement

6- مناظره زيباکلام و رسايي درباره توافق هسته اي لوزان (مناظرة زيباكلام ورسايي حول اتفاق لوزان النووي)، عصر إيران، 6 إبريل/نيسان 2015، تاريخ الدخول 7 إبريل/نيسان 2015:

http://www.asriran.com/fa/news/390139/%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B8%D8%B1%D9%87-%D8%B2%DB%8C%D8%A8%D8%A7%DA%A9%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88-%D8%B1%D8%B3%D8%A7%DB%8C%DB%8C-%D8%AF%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%87-%D8%AA%D9%88%D8%A7%D9%81%D9%82-%D9%87%D8%B3%D8%AA%D9%87-%D8%A7%DB%8C-%D9%84%D9%88%D8%B2%D8%A7%D9%86

7- عريبي، شاهر، هل حقَّقت إيران نصرًا في لوزان؟، موقع قناة العالم الإخبارية، 6 إبريل/نيسان 2015، تاريخ الدخول 7 إبريل/نيسان 2015:

http://www.alalam.ir/news/1692570

8- اللواء جعفري: مقاومة شعبنا أرغمت أوباما على اعتراف تاريخي، موقع قناة العالم، 7 إبريل/نيسان 2015، تاريخ الدخول 8 إبريل/نيسان 2015:

http://www.alalam.ir/news/1692741

9- اللواء جعفري: مقاومة شعبنا أرغمت أوباما على اعتراف تاريخي، موقع قناة العالم، 7 إبريل/نيسان 2015، تاريخ الدخول 8 إبريل/نيسان 2015:

http://www.alalam.ir/news/1692741

10- محمدي، مهدي، بيانيه روز سيزدهم! ارزيابي راهبردي- انتقادي توافق لوزان (بيان اليوم الثالث عشر: تقييم استراتيجي-نقدي لاتفاق لوزان)، ايران هسته اى، 4 إبريل/نيسان 2015، تاريخ الدخول: 4 إبريل/نيسان 2015:

http://www.irannuc.ir/content/2565

11- حميد رسائي: توافقنامه لوزان سوئيس، کدام خط قرمزها را نقض کرده است؟ (ما الخطوط الحمراء التي تجاوزها اتفاق لوزان؟)، فارس نيوز، 5 إبريل/نيسان 2015، تاريخ الدخول: 5 إبريل/نيسان 2015:

http://www.farsnews.com/newstext.php?nn=13940116001103

12- جزئيات مشاجره در کميسيون امنيت ملي مجلس ظريف به کريمي قدوسي:”با اين حرف ها به رهبر انقلاب تهمت مي زنيد” (تفاصيل الشجار بين كريمي قدوسي وظريف في لجنة الأمن القومي: أنت توجه التهم لمرشد الثورة)، موقع تابناك، 5 إبريل/نيسان 2015، تاريخ المراجعة: 6 إبريل/نيسان 2015:

http://www.tabnak.ir/fa/news/488447/%D8%AC%D8%B2%D8%A6%DB%8C%D8%A7%D8%AA-%D8%AF%D8%B1%DA%AF%DB%8C%D8%B1%DB%8C-%D8%A8%DB%8C%D9%86-%DA%A9%D8%B1%DB%8C%D9%85%DB%8C-%D9%82%D8%AF%D9%88%D8%B3%DB%8C-%D9%88-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%AF-%D8%B8%D8%B1%DB%8C%D9%81

13- اعتراض پلاکاردي کوچک زاده در صحن علني به بيانيه لوزان (مهدي كوتشك زاده يرفع لافتة معترضًا على اتفاق لوزان)، موقع ديارميرزا، 5 إبريل/نيسان 2015، تاريخ المراجعة 6 إبريل/نيسان 2015:

اعتراض پلاکاردی کوچک زاده در صحن علنی به بیانیه لوزان+تصاویر

http://www.tabnak.ir/fa/news/488447/%D8%AC%D8%B2%D8%A6%DB%8C%D8%A7%D8%AA-%D8%AF%D8%B1%DA%AF%DB%8C%D8%B1%DB%8C-%D8%A8%DB%8C%D9%86-%DA%A9%D8%B1%DB%8C%D9%85%DB%8C-%D9%82%D8%AF%D9%88%D8%B3%DB%8C-%D9%88-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%AF-%D8%B8%D8%B1%DB%8C%D9%81

14- حميد رسائي: توافقنامه لوزان سوئيس، کدام خط قرمزها را نقض کرده است؟ (ما الخطوط الحمراء التي تجاوزها اتفاق لوزان)، فارس نيوز، 5 إبريل/نيسان 2015، تاريخ الدخول: 5 إبريل/نيسان 2015:

http://www.farsnews.com/newstext.php?nn=13940116001103

15- شوقي، فرح الزمان، اتفاق لوزان وتحدي البرلمان الإيراني، العربي الجديد، 6 إبريل/نيسان 2015:

http://www.alaraby.co.uk/politics/2015/4/5/%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82-%D9%84%D9%88%D8%B2%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A

16- شوقي، فرح الزمان، اتفاق لوزان وتحدي البرلمان الإيراني، العربي الجديد، 6 إبريل/نيسان 2015:

http://www.alaraby.co.uk/politics/2015/4/5/%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82-%D9%84%D9%88%D8%B2%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A

17- بروجردي: اجتماع لوزان أدخل إيران إلى نادي الدول المالكة للتقنية النووية، وكالة أنباء إيرنا، 5 إبريل/نيسان 2015، تاريخ الدخول 5 إبريل/نيسان 2015:

http://www.irna.ir/ar/News/81559959/

18- كانت إيران قد انسحبت من البروتوكول في السابق، احتجاجًا على تحويل ملفها النووي إلى مجلس الأمن الدولي، وصدور عقوبات بحقها، وتشترط إيران لتوقيعه مجددًا إلغاء قرارات عقوبات مجلس الأمن.

 

 

 

ممانعات أربع بلا إطار تواجه “اتفاق الإطار”/ وسام سعادة

يُواجَه اتفاق الإطار بين إيران ومجموعة الدول الست بممانعات أربع:

1ـ المحافظون الجمهوريّون داخل الكونغرس الأمريكيّ، تحرّكهم أساساً القناعة «الأيديولوجيّة» بأنّ ادارة الرئيس باراك اوباما تفرّط «بالحقوق الإمبريالية»، والخشية «العملية» من تحرّر إيران من الضائقة المالية التي فرضتها العقوبات والأرصدة المجمّدة، ومن التملّص اللاحق للجمهورية الإسلامية من مندرجات الإتفاق.

2 ـ المحافظون الإيرانيّون – ويبدو أن الوليّ الفقيه أجاز لهم منسوباً معيّناً من انتقاد الإتفاق والفريق المفاوض. عينُ هؤلاء على «المضاعفات السلبية» للإتفاق، إنْ لجهة كساد نصيب غير قليل من البضاعة الأيديولوجية للنظام، أو لجهة الإحباط المشهدي الآتي، عند رؤية قسم من المنشآت والمكتسبات العلمية – التكنولوجية يُدمّر، تحت الرقابة الدولية.

3 ـ المحافظون العرب. والإتفاق يمهّد لوضع إيران في منزلة بين منزلتين. لا هي بالمستوى الاستراتيجي لباكستان والهند شرقها واسرائيل غربها طالما لا تحوز قنابل ذرّية، لكنها ستتمتع بالطاقة النووية بخلاف سائر البلدان العربية من المحيط إلى الخليج، مع أنّ المشروع النووي العراقي كان ذات يوم سبّاقاً، قبل تدميره وتدمير العراق. لكن، المحافظين العرب وبدل الانطلاق من تفاوت «المنازل الاستراتيجية الثلاث» في الاقليم بموجب هذا الاتفاق، فإنّهم ينفعلون بتوجّس أشمل، فيشتكون بشكل أو بآخر بأن واشنطن أخذت تنحاز لإيران على حساب العرب، وللشيعة على حساب السنّة، وهذا التوجّس يجد مثيلاً له ضمن أروقة «الاستبلشمنت» الحاكم في إيران، اذ ارتفع أكثر من صوت جهاراً في الآونة الأخيرة، يعتبر ان الدعم الأمريكي والغربي لتركيا والسعودية، وليس فقط لاسرائيل، هو من العناصر الأساسية للخلاف بين إيران والغرب.

4 ـ المحافظون الاسرائيليون، وهؤلاء يعتبرون أنّهم «نازلوا» باراك اوباما تحت قبّة الكونغرس الأمريكيّ، ثم «انتصروا عليه» في صناديق الاقتراع داخل اسرائيل. عند هؤلاء ان أي جهاز طرد مركزي تمتلكه إيران غير مقبول طالما هي لم تنبذ بعد العدائية تجاه اسرائيل، هذا في حين كان أحد الطلاب الإيرانيين المحافظين معبّراً في سخريته المرّة، حين شكر المفاوضين لأنهم أبقوا لبلاده أجهزة طرد مركزي تكفي لصناعة عصير الجزر.

تضغط هذه الممانعات بإتجاهات مختلفة. من المستبعد أن تتمكّن أيّ منها من اطلاق حركة ارتدادية عن المسار الانفراجي الحاليّ. باستثناء تلك الإيرانية الداخلية، فالمشترك بين الممانعات الأخرى التي يواجهها الاتفاق، أنّ انتقادها له، أو سخريتها منه، مردّها إلى انه لم يخرج عن موضوعيه المترابطين (الطاقة النووية والعقوبات الاقتصادية والمالية)، وعن الشروط العلمية والعملية لعلاج هذين الموضوعين. فلا هو مرتبط بآلية تدريجية للتطبيع الإيراني ـ الغربي، ولا بآلية اقليمية لتهدئة البال بين إيران والعرب، ولا بآلية متطبّعة مع فكرة وجود اسرائيل، رغم أن الاتفاق يكرّس احتكار اسرائيل للسلاح النووي في الشرق الأوسط.

بخلاف الموالين العرب لهم، أظهر المحافظون في إيران سلبية واضحة تجاه الاتفاق، وانما من النوع «المسيطر عليه»: غرض السلبية التقاط فائدة «معادية للامبريالية» ايديولوجياً من ضمن هذا الاتفاق، من نوع، انظروا ايها الإيرانيون، كم ان هذا الغرب مستكبر وظالم، فهو اذ يتهم نظامنا بالظلامية يشترط علينا تدمير عدد كبير من المنجزات العلمية – التكنولوجية والحدّ من تطوّر العلم والبحث العلمي في إيران.

بالتالي، ما سيقتضيه الاتفاق منا، من تضحية بالحق في المعرفة والاكتشاف والابتكار، ينبغي أن ينوّرنا أكثر إلى مغبّة تعليق الآمال على هذا الغرب، أو التفكير في الانفتاح عليه أكثر، ذلك ان الغرب عندما يطلب من بلد الحدّ من تطوّره العلمي انما يدحض بذلك «مزاعمه التنويرية» كغرب.

والحال ان هذا المنطق ليس بكاريكاتيري أبداً. فعلاً، «العناوين التنويرية» للغرب لا يمكن أن تزيل عنها هذا الحرج بالخفّة، عندما تتناقض مع اشاعة المعرفة العلمية التكنولوجية في بلدان العالم الثالث، ومنها إيران، بحجة أنّ هذه البلدان غير راشدة في طريقة استخدامها لهذه المعرفة.

زد على ان الحرج يضاعف اذا ما قابلنا بين نموذجين: الحصار الأمريكي والغربي لإيران لدفعها إلى تقليص معرفتها النووية، في مقابل الضغوط الأمريكية والغربية على الباكستان وبعض البلدان العربية فيما يتعلّق بمناهج التعليم الديني. من هنا، لئن كان الاتفاق سيجعل بعضاً من البضاعة الأيديولوجية للمحافظين الإيرانيين كاسداً، الا أنّه سيزوّدهم ببضاعة أيديولوجية أخرى، يمكن أن تكون أقوى من الزاوية المنطقية، لكن تسويقها الشعبويّ أضعف، ولا يُقارن بشعاراتية «الموت لأمريكا» أو «الموت لاسرائيل». فبعد كل شيء، الاستضعاف لا يمكن أن يكون استكباراً مضاداً، وهذا ما لم يعد بامكان المحافظين داخل إيران المكابرة عليه بالراحة نفسها.

بيد أنّ المكابرة لن تذهب من تلقائها، وهي اليوم مشترك بين هذه الممانعات الأربع أمام الاتفاق النووي، من زاوية ملف آخر: العراق.

وربّما كانت الحرب في اليمن تنسينا بأنّ نموذج السيطرة على تكريت العربية السنية من قبل الميليشيات الشيعية مدعومة بالقصف الجوي الأمريكي، ومتأففة منه في الوقت نفسه، في طريقه لأن يسلك الآن طريق التعاون الإيراني ـ الامريكي ـ الحكومي العراقي ـ الميليشياوي ـ الكردي ـ الرسمي العربي، لـ«الكَبْس» على مدينة الموصل؛ ومن غير الواضح الآن اذا كان اتفاق لوزان سيسرّع مثل هذه المعادلة في الموصل أيضاً، «لنبقى مكابرين ونضرب سوية»، أو أنّه سيوخّرها بعض الشيء.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

بعد لوزان تتفرغ إيران للرد على حلف «العاصفة»؟/ جورج سمعان

تفاهم لوزان» نصر للخيار السياسي والديبلوماسية. واختبار ناجع لسلاح العقوبات والحصار الاقتصادي. ما بدا طوال عقد من المستحيلات تحقق بالصبر والمثابرة على الخيار السلمي. ويمكن كلا الطرفين أن يعلن فوزه. تنازل كل منهما ليحقق الحد الأدنى المعقول من مطالبه وإن كانت دون الطموحات. إيران حصلت على حقها في البرنامج النووي السلمي، أياً كانت التدابير والإجراءات التي فرضت على منشآتها وعمليات التخصيب. وكسبت رفعاً للعقوبات. والمجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة نجح في فرض رقابة دولية صارمة على المنشآت والتخصيب بعد إجراءات وتدابير تحول دون إنتاج الجمهورية الإسلامية السلاح النووي. وما يدور اليوم في إطار الشرح والتفسير للتفاهم على «المعايير» طبيعي، إذا أخذنا في الاعتبار أن الخلافات على التفاصيل التي يمكن كشفها للرأي العام كانت بنداً رئيساً على طاولة التفاوض. المهم ألا يصل الأمر إلى حد التلاعب في «الترجمة»، كما حصل لقرار مجلس الأمن 242 الذي نص في ترجمة على انسحاب القوات الإسرائيلية من «الأراضي» المحتلة بعد حرب 1967، ونص في ترجمة أخرى على الانسحاب من «أراضٍ».

الاجتهاد في التفسيرات والشروح لتهدئة النفوس يجب ألا يضيّع الطريق إلى نهاية حزيران (يونيو) المقبل، موعد الاتفاق النهائي. لا تزال هناك مخاطر جمة. الجمهوريون في الكونغرس الأميركي الذين يقفون إلى جانب بنيامين نتانياهو يناهضون الرئيس باراك أوباما. يرفضون الاتفاق مع إيران. ويستعدون لنقل المواجهة مع إدارته إلى الحيز القانوني لمنعه من إبرام أي تفاهم. في الجانب الآخر، رموز في التيار المتشدد بطهران وصفوا التفاهم بأنه «كارثة». وتندروا متحسرين على المنشآت النووية التي ستتحول «مدن ملاه»، وعلى منشأة فردو التي ستغدو «مدينة سياحية»! لم يعيروا تظاهرات الابتهاج والترحيب بعودة الوزير جواد ظريف أي اهتمام. مثل هذا التناقض في قراءة التفاهم يجب أن يدفع القيادة إلى الانصراف لمعالجة أوضاعها الداخلية، بدل إضاعة جهودها وراء أحلام امبراطورية ولادة حروب لا غير.

تعليقات المتشددين ليست جديدة في أي حال. وقاومها المفاوضون طوال سنة ونصف سنة. لم يجازف أحد بإقفال باب الحوار ومغادرة الطاولة. الطرفان الأميركي والإيراني كانا بالطبع الأكثر حرصاً على التوصل إلى نتيجة. لأن البديل أمام الولايات المتحدة، سواء كان حرباً أو مزيداً من العقوبات، لم يكن لينتهي بأفضل مما انتهى إليه الخيار الديبلوماسي حتى الآن. علماً أن الرئيس أوباما وصل إلى البيت الأبيض على وقع شعارات: إنهاء الحروب التي خاضها سلفه، واستدعاء القوى الكبرى إلى المشاركة في إدارة شؤون العالم، ودفع القوى الإقليمية إلى معالجة الأزمات التي تواجه مناطقها، مواجهات أو تسويات. لذلك وضع كل ثقله خلف المفاوضات بين إيران والدول الست. وهو يراهن على أن فتح الجمهورية الإسلامية أبوابها أمام العالم الخارجي وقوانينه سيبدل المناخ السياسي الداخلي ويدفع نحو التغيير. ومثله وضع الرئيس حسن روحاني كل ثقله ومصيره ورصيده الشعبي في المفاوضات. راهن على التوصل إلى تفاهم للحفاظ على مستقبله السياسي، وللتجديد ولاية ثانية ربما. ولم تكن القيادة في طهران أقل حرصاً. ذلك أن ما كانت «الثورة الإسلامية» تزرعه في المنطقة يحتاج إلى رعاية واعتراف بشرعيته. ويستدعي تالياً العمل على رفع العقوبات ليسهل لها تمويل عملياتها ومواقعها المكلفة في الخارج.

وبعيداً عن رغبة الطرفين وحرصهما على هذا الإنجاز، لم يكن أمام إيران مفر من التفاهم على «معايير» أساسية أو اتفاق إطار لمواصلة المفاوضات حتى آخر حزيران المقبل. التطورات في أكثر من ساحة إقليمية في السنوات الأربع الأخيرة لم تكن لمصلحتها، على رغم نشوتها بالقبض على عواصم عربية أربع، وانتشارها من أفغانستان إلى ساحل المتوسط، ومن مضيق هرمز إلى باب المندب! أبرز التحديات ما واجه نظام حليفها الرئيس بشار الأسد الذي يستنزفها بكل أنواع الدعم لبقائه صامداً. وواصلت فصائل المعارضة أخيراً تقدمها في ريف إدلب، وفي الجبهة الجنوبية على الحدود مع الأردن. لكن ما هدّد تمددها كان قيام «الدولة الإسلامية» في بلاد الشام. دفعها «الخليفة أبو بكر» إلى مواقع دفاعية. وكان من تداعيات ذلك حكومة جديدة في بغداد ليست بعيدة عن طهران لكنها ليست بالقرب الذي كانته حكومة نوري المالكي. أرغمت على قبول تغيير تحت شعار إعادة بناء اللعبة السياسية بما يرضي المكون السني في العراق والإقليم أيضاً. وآخر إخفاقاتها حرب تكريت التي كشفت فشلها وفشل قوات «الحشد الشعبي» في تحرير المدينة من التنظيم الإرهابي… إلى أن طلبت بغداد المدد من طيران «التحالف الدولي – العربي». وفي لبنان يصب حليفها «حزب الله» جل جهوده للقتال إلى جانب نظام الأسد. وهو يراقب اليوم ما يجري جنوب شبه الجزيرة عاجزاً عن نجدة التجربة الحوثية التي رعاها طويلاً. فالتحالف العربي – الإقليمي الجديد بقيادة السعودية كان الصدمة الكبرى. وصار اليمن على حافة الخروج من تحت العباءة الإيرانية.

كانت إيران في عز اندفاعها تراهن على إحكام الطوق على المملكة العربية السعودية، عبر التفاف هذا الهلال من سورية والعراق شمالاً إلى اليمن جنوباً. من دون إغفال الأسطول الإيراني في مياه الخليج وعلى مضيق هرمز. فضلاً عن الأراضي والمياه التي أتاحها السودان لكل نشاطاتها في التمدد نحو سيناء ومد فصائل فلسطينية في قطاع غزة بالسلاح والصواريخ وكل أنواع العتاد والمساعدات. غالت في التمدد والانتشار مستفيدة من انشغال خصومها الغربيين بالبرنامج النووي والمفاوضات. راهنت على تكريس هذا الحضور في الإقليم وشرعنته، جائزة ترضية تصرف بها تيار المتشددين عما يمكن أن تقدم من تنازلات في المفاوضات. لكن التحرك الذي قادته الرياض عمق الخلل الذي أصاب استراتيجيتها. وفاقم مخاوفها في سورية والعراق. أقامت السعودية سداً منيعاً من المغرب على الأطلسي إلى الخليج مروراً بباب المندب. فضلاً عن السندين الباكستاني (النووي)، في الحديقة الخلفية للجمهورية الإسلامية، والتركي (الأطلسي) الذي لا يخفى دوره وتأثيره في العراق وسورية على السواء. ناهيك عن موقع كل من البلدين في الحسابات الإسلامية والإقليمية والدولية.

إطلاق السعودية التحالف الجديد وحملتها في اليمن جاء في توقيت دقيق وحساس لإيران التي تقف أمام مفترق طرق بعد ثلاثة عقود ونصف عقد. «تفاهم لوزان» يفرض عليها ضبط ساعتها على إيقاع الساعة الدولية. يعدها بمرحلة جديدة بعد الاتفاق النهائي آخر حزيران المقبل. ويعد الإيرانيين بتحريك العجلة الاقتصادية والتجارية والمصرفية والاجتماعية، أي بحياة أفضل. ويفترض منطقياً أن ينعكس تهدئة في الإقليم… ويفترض أن يساهم التحالف الجديد بقيادة السعودية أيضاً في إحياء شيء من الواقعية في سياسة طهران. لم يعد مثمراً الرهان على الوهن العربي. يمكنها اليوم أن تراهن على بعض التناقضات في الصف العربي. لكن هذه مهما تجذرت وتفاقمت لا يمكنها أن تعرقل البناء الذي انطلق من النواة العربية في التحالف الجديد.

الرئيس أوباما دعا بعض القادة العرب إلى قمة في كمب ديفيد قريباً لمناقشة تداعيات الاتفاق النووي وقضايا المنطقة. وكانت إدارته رفعت الحظر المفروض على المساعدات المخصصة لمصر. وأيدت «عاصفة الحزم». لكن هذا لا يكفي ما لم تبادر إيران قبل أميركا بالتوجه إلى جيرانها لطمأنتهم إلى أنها لن تتوسل الاتفاق الموعود حصان طروادة لمواصلة سياسة الزحف في المنطقة العربية. يجب أن تبعث بإشارات إيجابية تبدي استعداداً لمعالجة الأزمات التي يغذيها الصراع المذهبي. مسؤوليتها أن تخطو لتبريد الجو المذهبي المحموم الذي يسمم العلاقات بما يتجاوز الحيز العربي إلى الإسلامي العام. لن تستطيع أن تبني قاعدة ثابتة وسط العالم الإسلامي السني الواسع. تحتاج إلى البوابة السعودية للعبور إلى حضن هذا العالم لتشعر بمزيد من الأمان. بعدها يمكن الولايات المتحدة أن تمارس دور ضابط الإيقاع بين الرياض وطهران، كما كانت تفعل أيام حكم الشاه. وربما كان في خطتها دفع الطرفين العربي السعودي والإيراني إلى تقاسم المنطقة من سورية إلى جنوب الجزيرة العربية.

ولكن في ضوء تجربة العقود الثلاثة الماضية، يتوقع بعض خصوم إيران ألا تصبر طويلاً للرد على التحالف، بعد «عاصفة الحزم»، و»قمة العزم» في شرم الشيخ. لعلها تراقب أو تراهن على خلافات بين بعض العرب. وإذا فشلت أمامها ساحات كثيرة للرد. من مواقع وتجمعات في دول مجلس التعاون، إلى توتير الجو السياسي ربما في الكويت وما يتركه من تداعيات في شبه الجزيرة. فقد علت أصوات نيابية تنتقد الحكومة لمشاركتها في الحملة على الحوثيين من دون الرجوع إلى مجلس الأمة، عملاً بمنطوق الدستور. مع أن هذه الأصوات لم ترتفع «حرصاً على الدستور» عندما انضمت الكويت إلى التحالف الدولي في حربه على «داعش»! ويمكن اللجوء إلى استراتيجية جديدة في لبنان، سياسياً وعسكرياً، تنهي التفاهم على تحييد لبنان الذي قام بعد لقاءات مسقط بين الأميركيين والإيرانيين.

في أي حال ما يجري في العراق على أيدي قوات «الحشد الشعبي» ربما كان صورة واضحة عن عدم رضوخ إيران وسكوتها. وهي بتركها الميليشيات الشيعية الموالية لها تعيث فساداً ونهباً وحرقاً وتشريداً في تكريت وقبلها في دساكر أخرى تحررت من قوات «داعش»، لا تسعى إلى الانتقام مما ألحقته «الدولة الإسلامية» بصورتها فحسب. ولا تسعى إلى الثأر أو ترميم سياستها وقبضتها التي اهتزت بخروج رجلها نوري المالكي من دار رئاسة الوزراء فحسب. بل تسعى إلى توسيع مناطق نفوذها لتشمل معظم العراق. لقد باتت ميليشياتها دولة داخل دولة. ولا قدرة لحكومة حيدر العبادي على ردعها. خلاصة القول إن مواصلة طهران نهج الرد والتمدد سيفاقم المواجهة في الشرق الكبير، بصرف النظر عن نتائج لوزان وما سيحمله شهر حزيران.

 

 

 

 

أميركا – إيران: ضربتان للإيديولوجيا/ حازم صاغية

كائناً ما كان الرأي السياسيّ بـ»اتّفاق الإطار»، فالكثيرون ممّن تناولوه غلّبوا «مبدأ اللذّة» والرغبات على «مبدأ الواقع». فهو، في النهاية، تسويةٌ تلبّي، مثل كلّ تسوية، بعضاً من مصالح الطرفين، لا كلّها. وإذا جاز التلخيص بأنّ أميركا ستضمن، بعد استكمال الاتّفاق، عدم حصول إيران على السلاح الذريّ فيما ستضمن إيران رفع العقوبات، كانت الإيديولوجيا هي الخاسر الأكبر. وهي، باستطالتها الحربيّة، خاسر بمعنيين: قلع الأنياب النوويّة واستبعاد الحرب في العلاقة مع إيران.

وبالمعنى نفسه بدت المصالح هي المستفيد الأوّل. ولئن كان هذا جليّاً في حالة إيران بعد رفع العقوبات وتمتّعها بمنافع الرفع، فهو أيضاً، وبسبب الهجمة المتوقّعة للشركات الغربيّة وللعقود النفطيّة، إقرار بالأولويّة التي تكسبها «اليد الخفيّة» للسوق على حساب المواقف المبدئيّة القصوى.

والحال أنّ الإيديولوجيّين في الطرفين بدوا مربكين قبل التوصّل إلى «اتّفاق الإطار». فالمرشد علي خامنئي سبق له، في آخر ظهور علنيّ، أن ردّد «الموت لأميركا» كما أكّد على أنّ الإيرانيّين يريدون التوصّل إلى تسوية، وهي بالضرورة تسوية مع هذا الكائن الآيل سريعاً إلى الموت! أمّا بعد «الإطار»، فلم يكتف متشدّدو إيران بإبداء التحفّظات، بل ذهب بعضهم إلى أنّ قيادة بلادهم رضخت لـ «الشيطان الأكبر». وفي هذا، كانوا كأنّهم يردّون على قول مؤيّديهم عندنا حيث جزموا بأنّ أميركا «رضخت» لإيران. وقد استعانت صحيفة «كيهان» بالسخرية في نقلها هذه الأجواء إذ كتبت، وهي من ألسنة حال المتشدّدين: «إنّه اتّفاق يكسب فيه الجميع: برنامجنا النوويّ سيزول، والعقوبات ستبقى».

وعلى الجانب الآخر يمثّل الجمهوريّون الأميركيّون، وهم دائماً أكثر إيديولوجيّة من منافسيهم الديموقراطيّين، ما يمثّله المتشدّدون الإيرانيّون. وقد كُتبت حتّى اليوم أطنان المقالات في تفسير موقف باراك أوباما وإدارته، وكان معظمها يكرّر نقطتين لا يملك الجمهوريّون ردّاً عليهما ما خلا الاستنجاد بحجج «العالم القديم»: أنّ تركيز أميركا الاقتصاديّ، وكذلك الاستراتيجيّ، انتقل إلى آسيا والمحيط الهادئ، اللذين صارا الإلدورادو الأميركيّة الراهنة، وأنّ واشنطن لم تعد مستعدّة لأن تتحمّل مجدّداً أكلافاً كالتي تكبّدتها في حرب العراق بسبب الجمهوريّين أنفسهم. وكما هو معروف، كان أصلاً أحد أبرز الأسباب وراء صعود أوباما السياسيّ ومعارضته حروب جورج دبليو بوش.

وقبل سنوات على انتخاب الرئيس الحاليّ كان إدوارد لوتفاك، وهو عالم اجتماع سياسيّ أميركيّ، قد أضاف في تفسيره ظاهرة العداء الأميركيّ المستجدّ للتدخّل والحروب عنصراً ديموغرافيّاً. فمن قبل كانت الأسرة تنجب خمسة أبناء أو ستّة، وهي اليوم تنجب ولدين أو ولداً واحداً. وهذا ما يقود إلى إضعاف القدرة على التجييش وعلى زجّ الأبناء في حروب يتكاثر وصفها بـ»العبثيّة». ثمّ إذا كانت «الشهيّة الاستراتيجيّة» في الماضي شرطاً لاكتساب القوّة الاقتصاديّة، فهذا ما تغيّر بعد تجربتي اليابان وألمانيا اللتين تخلّتا عن القوّة العضليّة فأحرزتا، بدلاً منها، قوّة اقتصاديّة باهرة.

وفي هذا حلّت فلسفة للأمن القوميّ تضع منع تهديد الداخل محلّ المبادرة بتهديد الخارج، بوصفه الأولويّة ومحطّ التركيز. فموجبات الحرب الباردة على نطاق كونيّ غير موجبات الصراع مع أطراف أصوليّة لا يحول تمدّدها الجغرافيّ دون موضعيّتها العسكريّة التي لا تستدعي، في عرف أوباما، أكثر من الضرب جوّاً.

وهذا على عمومه قد يُحدث، في حال استكماله، انفراجات في علاقة الطرفين المعنيّين. لكنّه بالتأكيد لن يقلّل، إن لم يزد، المآسي المتوالية في أمكنة أخرى من العالم لا تزال تحكمها فظاظة دون – إيديولوجيّة.

الحياة

 

 

 

إيران والقتال على طريقة عنترة!/ محمد مشموشي

لم تقدم ايران، الدولة الاقليمية الكبرى (عفواً «الامبراطورية» كما تسمي نفسها)، الى البلدان العربية طيلة الأعوام الـ36 الماضية من جمهوريتها الاسلامية، سوى السلاح بيد والمال بيد أخرى لتشكيل ميليشيات طائفية ومذهبية فيها. وليس في الذاكرة، على سبيل المثال لا الحصر، أن ايران تبرعت خلال تلك الفترة بأي مبلغ من المال، كبيراً كان أو صغيراً، لبلد عربي تعرض لكارثة طبيعية أو انسانية (الصومال أو السودان أو سورية حالياً) لتضميد جراح أبنائه أو حتى للمساعدة على اعادة بنائه.

هكذا، على سبيل المثال أيضاً، لم تقدم ايران للفلسطينيين في قطاع غزة ما يعين على اعادة ترميم منازلهم وبالتالي البقاء في أرضهم، بعد الحربين المدمرتين اللتين شنتهما اسرائيل عليه في الأعوام الأخيرة، بل تولت ذلك دول ومؤسسات عربية وأجنبية في مؤتمرين للدول المانحة في شرم الشيخ ثم في الدوحة. والأمر نفسه شهده اللبنانيون في أعقاب حربي 1996 و2006 وما نتج منهما من خسائر فادحة مادياً وبشرياً، حيث قامت بلدان عربية وأخرى أجنبية صديقة ومؤسسات دولية باعادة بناء ما تهدم وحتى التعويض عن الأضرار.

أما بالنسبة الى سورية، التي شرد نصف سكانها وقتل منهم أكثر من مئتي ألف انسان ودمرت بناها التحتية بالكامل على مدى أربع سنوات، فبإمكان العرب ودول العالم ومؤسساته الاغاثية اذا رغبوا أن يجتمعوا في الكويت، كما حدث قبل أيام، وأن يخصصوا لإطعام أهلها وايوائهم أربعمئة مليار دولار من أصل ثمانمئة مليار يحتاجون اليها.

الشيء الوحيد الذي فعلته ايران، هنا وهناك، أنها لا تزال ترسل الأسلحة والميليشيات والصواريخ الى سورية، تماماً كما فعلت سابقاً عندما زودت «حماس» و «الجهاد الاسلامي» في غزة و «حزب الله» في لبنان بالمزيد من السلاح… ومعه، كما هي عادتها، المزيد من الحض على مواصلة القتال ضد من تسميهم «الأعداء»، والتهنئة بـ «الانتصار الإلهي» الذي تحقق لـ «المقاومين والممانعين» في تلك الحروب.

لكن من هم هؤلاء «الأعداء» الذين يجب قتالهم، والذين لا قتال ممكناً ضدهم الا بالسلاح الحربي… أو بالسيف، على طريقة عنترة بن شداد؟

في الخطاب الايراني السائد أنهم: أولاً، كل من يعارض «الجمهورية الاسلامية الايرانية» أو حتى يقف ضد نظرية «ولاية الفقيه» ومسؤوليتها الشاملة… وبين هؤلاء المرشحان لرئاسة الجمهورية موسوي وكروبي اللذان يقبعان في السجن منذ 2009. ثانياً، إسرائيل والصهيونية باعتبارهما اللافتة اللازمة لتغطية تسلل ايران الى قضايا العالم العربي ودواخله. وثالثاً، «الاستكبار العالمي» الذي يستنزف ثروات الشعوب وتمثله الولايات المتحدة. ورابعاً، والأفدح من ذلك كله، ما يسمى «المظلومية» التاريخية للشيعة في العالم… وفي العالم العربي في شكل خاص.

وماذا كانت حصيلة القتال المعلن والممجّد ضد هؤلاء حتى الآن؟ هذا الكم من الكوارث الانسانية والبشرية والمادية والسياسية في العالم العربي، من لبنان الى البحرين الى سورية الى العراق الى اليمن أخيراً… ومعه بالطبع، هذه الحروب الأهلية الصامتة بين المسلمين السنة والشيعة من ناحية، وبين المسلمين والمسيحيين من ناحية ثانية، وبين العرب والفرس والأتراك والأكراد على مساحة المنطقة كلها من ناحية ثالثة.

لكن معه، بالتعريف الايراني المعلن والممجّد بدوره، عودة «الامبراطورية الساسانية، وعاصمتها بغداد» الى الوجود بعد آلاف السنين، كما سقوط أربع عواصم عربية في يد «الولي الفقيه»، كما بعد ذلك كله مد نفوذ ايران الى عدد من بلدان المنطقة، وصولاً الى المساومة عليها وعلى النفوذ فيها في مفاوضاتها مع العالم حول ملفها النووي.

فبالسيف، وبالسيف وحده على طريقة عنترة بن شداد، عملت «الجمهورية الاسلامية الايرانية» على إقامة سلطتها في بلاد فارس وفي المنطقة على امتداد أعوامها الـ36 الماضية.

واذا كان من معنى عملي لـ «الاتفاق/الاطار» الذي تم توقيعه بينها وبين الغرب في لوزان بسويسرا، فهو أن الرئيس الأميركي باراك أوباما ورؤساء الدول الخمس الأخرى أبلغوا العالم، ومعه «الولي الفقيه» اذا كان يفقه فعلاً، بأن الزمن الذي كان يقال فيه «ان السيف أصدق انباء من الكتب» قد ولى الى غير رجعة.

فالقتال بالسياسة والاقتصاد والعلم والتربية، وليس بالسيف حتى لو كان سلاحاً نووياً، هو الوحيد الممكن في القرن الحادي والعشرين.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

 

هل يكون مصير الاتفاق النووي الإيراني كمصير اتفاقات كثيرة ظلّت حبراً على ورق؟/ اميل خوري

يقول سفير لبناني سابق إنه ليس المهم التوصل الى توقيع اتفاقات ومعاهدات بين الدول، إنما الأهم هو التوصل الى تطبيقها تطبيقاً دقيقاً وكاملاً، وهذا يتطلب إرادة صادقة ونيّة حسنة. فكم من الاتفاقات والمعاهدات وقعت ولم يتم الالتزام بتنفيذها فكانت الحروب. ومن هذه المعاهدات المهمة معاهدة “فرساي” التي سدلت الستار على وقائع الحرب العالمية الأولى وقد تمّ توقيعها عام 1919 في قصر فرساي، ثم صار تعديلها عام 1920 وتمخض عنها تأسيس عصبة الأمم للحيلولة دون وقوع صراع مسلح بين الدول كالذي حدث في الحرب العالمية الأولى. ونصت المعاهدة على أشد الضوابط والقيود على الآلة العسكرية الالمانية لكي لا يتمكن الالمان من اشعال حرب ثانية. وعلى رغم خفض الرقم الكلّي لتعويضات الأطراف المتضررين من الحرب وتحميل المانيا مسؤولية دفعها، فان الديون التي أثقلت عاتق المانيا وأعاقت عجلة اقتصادها سببت امتعاضاً شعبياً أدى الى اشعال الحرب العالمية الثانية على يد المستشار الالماني أدولف هتلر الذي مزق معاهدة “فرساي” وأعلن الحرب.

والجميع يذكر ما آل اليه اتفاق أوسلو بين الاسرائيليين والفلسطينيين وما تبعه من اتفاقات ظلّت من دون تنفيذ، لأن ليس في نيّة اسرائيل الانسحاب من كل الأراضي الفلسطينية التي تحتلها، ولا التخلي عن القدس الشرقية لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية، بل تريد كل القدس عاصمة لاسرائيل، كما أنها لا تريد عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم ولا حتى إقامة دولة لهم إلا بشروط تجعلها غير قابلة للحياة. فاذا كانت اسرائيل لم تحترم القرارات الدولية وتنفذها فهل يعقل أن تحترم أحكام الاتفاقات وتلتزم تنفيذها؟ ثم كم من الاتفاقات عقدت مع لبنان ولم تنفذ تنفيذاً دقيقاً كاملاً لأن الطرف الأقوى الموقع عليها رفض أو عرقل ذلك. فميثاق 1943 غير المكتوب ظل البند المهم فيه وينص على “لا شرق ولا غرب” من دون تنفيذ، ما جعل الساحة اللبنانية مفتوحة لصراعات كل المحاور العربية والاقليمية والدولية. و”اتفاق القاهرة” الذي وقع بهدف حماية ما تبقى من سيادة الدولة اللبنانية لم يحقق هذا الهدف لأن الفصائل الفلسطينية المسلحة أبت إلا أن تكون هي الدولة داخل الدولة. واتفاق 17 أيار الذي كان هدفه تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي كي يستعيد لبنان سيادته على كل أراضيه، ربطت اسرائيل فجأة انسحابها بانسحاب القوات السورية من لبنان، فكان هذا الشرط كافياً لامتناع لبنان الرسمي عن توقيعه على رغم موافقة الحكومة عليه. و”اتفاق الطائف” الذي اصبح دستوراً للبنان لم ينفذ هو أيضاً تنفيذاً دقيقاً كاملاً لأن الوصاية السورية على لبنان لم يكن لها مصلحة في تنفيذه كاملاً لأن تنفيذه يقيم الدولة القويّة في لبنان القادرة على بسط سلطتها وسيادتها على كل أراضيها بقواتها الذاتية ودونما حاجة الى الاستعانة بأي قوّة مستعارة، فأدى ذلك الى عدم قيام هذه الدولة والى بقاء الوصاية السورية على لبنان ثلاثين عاماً.

أما عن الاتفاقات المعقودة بين لبنان وسوريا في ظل هذه الوصاية فحدّث ولا حرج. فما من اتفاق معقود بين البلدين تم تنفيذه تنفيذاً دقيقاً كاملاً، وما صار تنفيذه منها كان لمصلحة سوريا، وما هو لمصلحة لبنان لم ينفذ لا سياسياً ولا أمنياً ولا اقتصادياً، حتى أن عبارة “عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا وسوريا لأمن لبنان في أي حال من الأحوال، وأن لا يسمح لبنان بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو بأمن سوريا، وأن سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأي عمل يهدّد أمنه واستقلاله”، تكرّرت في كل الاتفاقات المعقودة بين لبنان وسوريا ولم تحترم. فاسرائيل اعتدت على لبنان في حرب تموز 2006 ولم تتحرك سوريا دفاعاً عن أمنه واستقلاله، وأصبحت الحدود اللبنانية – السورية ممراً للمسلحين ولتهريب الاسلحة، ولم تتخذ اجراءات لمنع ذلك، لا بل كانت سوريا ولا تزال ملاذاً لعدد من الفارين من وجه العدالة.

فهل يمكن القول إن الاتفاق حول الملف النووي الايراني سيكون محترماً ويلتزم جميع موقعيه تنفيذه تنفيذاً كاملاً، أم يكون مصيره كمصير اتفاقات كثيرة معقودة مع اسرائيل ومع الفلسطينيين ومع سوريا ولبنان، لا بل كمصير كثير من القرارات الدولية التي لو أنها نفذت لكانت منطقة الشرق الأوسط تنعم من زمان بالأمن والسلام والاستقرار والازدهار.

الواقع أن الطرف الأقوى في كل اتفاق يتمّ توقيعه هو الذي يستطيع تنفيذ ما يشاء منه وعدم تنفيذ ما لا يشاء. ومن يدري متى يقوم وأين هتلر جديد يمزق المعاهدات والاتفاقات ويعلن الحرب؟…

النهار

 

 

بدء نهاية كذبة “الممانعة”؟/ علي حماده

احتفلت إيران بالاتفاق – الاطار الذي توصلت اليه مع مجموعة دول 5 + 1 في لوزان، واعتبرته انتصاراً، في حين أن الاتفاق أجّل لمدّة سنين طموحاتها النووية، ووضع البرنامج برمّته تحت اشراف دولي. هذا معناه أن ايران صاحبة الحلم الامبراطوري وضعت جزءاً من “كرامتها” الوطنية التي جسّدها البرنامج النووي طوال عقدين من الزمن تحت “وصاية” دولية، وبالتحديد تحت وصاية الولايات المتحدة التي تمثّل من الناحية العملية الطرف الدولي المعني بالبرنامج النووي. وإذ يخرج الايرانيون من “المبارزة” الطويلة بعد دفن معظم الشعارات التي قامت عليها الثورة الايرانية، فضلاً عن دفنهم جانباً أساسياً من العداء مع “الشيطان الأكبر”، فإنهم ربما ربحوا انفتاحاً اقتصادياً يلي رفع العقوبات المتدرج، ويكون بمثابة عصر جديد سيكون حتماً مختلفاً عما سبقه. أما الاميركيون فإنهم يربحون في مطلق الأحوال كونهم ما كانوا يخشون البرنامج النووي الايراني حتى بوجهه العسكري، بل لأنهم يدخلون طهران – النظام شاءت أم أبت في عصر أميركا والغرب. فالمجتمع الايراني أنهى طلاقه مع الثورة ومع الخمينية منذ زمن بعيد، وهو متعطش لدخول عصر العولمة بمختلف وجوهها الاقتصادية، الثقافية والاجتماعية. وفي إيران جيل من الشباب أكثر تغرباً من أي وقت مضى، ولا ينتظر سوى لحظة للتحول الكبير في العلاقة مع الغرب. هذا الجيل الشاب لا يجد أي رابط حقيقي بحلفاء ايران – النظام كروسيا وكوريا الشمالية وسوريا بشار، وكثيرون منهم خرجوا في “الثورة الخضراء” سنة 2009، ليعلنوا دفن ايران الخميني، رافعين شعارات لا غزة ولا لبنان، احتجاجاً على السياسة الايرانية الخارجية وامتداداتها على قاعدة “إيران أولاً!”.

الذين خرجوا ليلة وصول وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف لاستقباله في مطار طهران الدولي إنما جاؤوا معلنين بشكل أو بآخر نهاية ايران الخميني، وذلك قبل وفاة “الولي الفقيه” السيد علي خامنئي، وقبل بدء مسار التفكك البطيء لمنظومة النظام الفولاذية، بما فيها “الحرس الثوري” بمختلف قواه العسكرية – الامنية – الثقافية – الاقتصادية – المالية.

ما تقدم لا يعني ان النظام سقط، أو انه آيل الى السقوط سريعاً. سيقاتل أهل النظام بقوة وبدموية أي ارادة تحررية في ايران، لكن المشهد الأخير سيرسم بدخول ايران عصراً مختلفاً تماماً عما سبق. والأهم من ذلك بالنسبة الى القوة الخارجية المرتبطة عضوياً بالنظام مثل “حزب الله” سيتغير المشهد تدريجاً، مع سقوط “الشعارات” الممجوجة عن “تحرير القدس” و”الممانعة” و”المقاومة” بتحولها الى أدبيات مثيرة للسخرية. وحده سيتواصل الاستقطاب المذهبي القوي الذي تمارسه طهران “ولاية الفقيه” يطاول شرائح شيعية عربية وغير عربية خارج إيران. ولكن مع الوقت سيتبين للشيعة العرب تحديداً أن هذا النوع من الاستقطاب انما وضعهم في قلب حرب مذهبية طاحنة مع السنّة العرب لا نهاية لها.

ربما كان “حزب الله” أن يخفض نبرته الانتصارية فيما بدأت مسيرة الألف ميل في ايران نحو المقلب الآخر!

النهار

 

 

 

الاتفاق النووي.. أفضل من لا شيء!/ جريج ثيلمانيس

اتفقت إيران والقوى الست المشاركة في المفاوضات بعد طول انتظار على المعايير الأساسية لاتفاق إطار بخصوص برنامجها النووي. وعلى أساس التفاهم الذي تم الإعلان عنه في مدينة لوزان السويسرية يوم الخميس الماضي، ستكون أمام أطراف التفاوض مهلة ثلاثة أشهر لاستكمال التفاصيل الفنية لاتفاق نهائي.

ومثل هذا التفاهم السياسي الكبير بين الولايات المتحدة والدول الأعضاء دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا من جانب، وإيران من جانب آخر، يمكن أن يصبح من أهم إنجازات اتفاقية منع الانتشار النووي ذات الآثار البعيدة خلال العقود الأخيرة.

وبمجرد التفاوض بشكل كامل على ذلك الاتفاق والإعلان النهائي عن مخرجاته، فإنه سينهي الخيارات المتاحة في الوقت الراهن أمام إيران، التي تُمكنها من المضي قدماً بشكل سريع نحو تصنيع أسلحة نووية. وستعزز الاتفاق أيضاً السلطة العالمية للوكالة الدولية للطاقة الذرية في وضع إجراءات وقائية فيما يتعلق بالتطوير السلمي للطاقة الذرية، وتمنحها قوة دافعة نحو هدف «عالمية تدابير التحقق من الأنشطة النووية» مثل «البروتوكول الإضافي» للوكالة.

وعلى رغم المنافع الكثيرة التي سيجلبها الاتفاق إلى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، إلا أنه ليس اتفاقاً مثالياً على صعيد الأهداف التي وضعتها الولايات المتحدة لمنع الانتشار النووي. ولو أن العالم كان نموذجياً، لما أصبحت لإيران بنية تحتية نووية قوية، تمثل دورة كاملة للوقود النووي، بيد أن تحقيق تلك الغاية كان يستلزم فرض حلّ وليس التفاوض عليه. ولكن إيران دولة مستقلة، وسكانها يؤيدون برنامجها النووي، الذي تزعم حكومتها أنه سلمي تماماً.

وقد عانت إيران من أضرار اقتصادية خطيرة نتيجة سنوات من العقوبات، وأضرار سياسية جمّة بسبب العزلة الدولية الناجمة عن قرارات صادرة عن الأمم المتحدة. غير أنها لم تبدِ أية إشارة إلى اقترابها من الاستسلام. ومثلما أوضح «روجر كوهين» الكاتب الصحفي في «نيويورك تايمز» مؤخراً: «تفضل إيران الجوع على الانصياع»!

وبناء على ذلك، لا جدوى من مواصلة ما وصفه المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي «جاري سيك» بـ«السعي إلى حل خرافي»، لا يمكن التوصل إليه في العالم الحقيقي. وقد آن الأوان كي يقر منتقدو الدبلوماسية بأن البديل لذلك الاتفاق الذي تم الإعلان عن إطاره يوم الخميس الماضي سيكون عدم الاتفاق على الإطلاق.

وفي ضوء ذلك، لابد من مقارنة تبعات الاتفاق مع تأثيرات غيابه على النحو التالي:

* يضع الاتفاق قيوداً، يمكن التحقق منها، لقدرات إيران بشأن تخصيب اليورانيوم. ومن دونها كانت إيران ستزيد قدرات التخصيب.

* يقيد عدد وأنواع أجهزة الطرد المركزي التي تستخدم في تخصيب اليورانيوم لمدة عشرة أعوام، ومن دون ذلك، كانت إيران ستمتلك عدداً غير محدود من أجهزة الطرد المركزي المتطورة.

* يحدد سقفاً لمستوى تخصيب اليورانيوم عند الـ3,67 في المئة اللازم من أجل مفاعلات الطاقة النووية. ومن دونه كانت طهران ستصبح قادرة على التخصيب عند مستويات أعلى من 90 في المئة، والتي يمكن استخدامها في تصنيع الأسلحة النووية.

* بموجب الاتفاق لن تحتفظ إيران سوى بكميات ضئيلة من مخزونات اليورانيوم المخصب. وخلاف ذلك يعني أنها كانت ستواصل زيادة مخزوناتها من اليورانيوم بداية من العام الجاري، بما في ذلك اليورانيوم الذي تم تخصيبه عند مستوى 20٪، التي جمعتها إيران قبل الاتفاق المبدئي في عام 2013.

* ينهي الاتفاق عملية تخصيب اليورانيوم في مفاعل «فوردو» الذي أنشأته إيران تحت الأرض في منطقة جبلية، لمدة تصل إلى 15 عاماً، بدلاً من أن تتمكن من زيادة أنشطة التخصيب هناك سريعاً.

* ينطوي الاتفاق على إجراء تعديلات على مفاعل «آراك» الذي يعمل بالماء الثقيل، بحيث ينتج كميات من البلوتونيوم أقل بكثير من الدرجة المستخدمة في الأسلحة، مع عدم الاحتفاظ بأي كميات منه، بعد أن كان المفاعل يوشك على التمكن من إنتاج البلوتونيوم المستخدم في الأسلحة بما يكفي لصنع قنبلتين سنوياً.

* يُمكّن الاتفاق من عمليات تفتيش مكثفة وبإشعار قصير، ومراقبة متطورة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل دائم. ومن غير ذلك، كانت ستظل شفافية البرنامج النووي الإيراني ضئيلة، وهو ما يقوي فرص نجاح إيران في وضع برنامج أسلحة نووية سري.

* ويضاعف الاتفاق الزمن اللازم لإنتاج كمية من اليورانيوم تكفي لتصنيع سلاح نووي بمقدار أربعة أضعاف، في الوقت الذي كانت تتجه فيه إيران إلى تقليص الزمن اللازم لإنتاج مواد كافية لصنع قنبلة واحدة إلى بضعة أسابيع.

* وفي هذه الأثناء، يقدم الاتفاق حوافز إيجابية لإيران كي تلتزم بالقيود، بدلاً من أن يواصل المتعصبون في النظام الإيراني جني أموال من خلال أنشطة خرق العقوبات.

وقد استغرق الأمر أشهراً مديدة من المفاوضات المكثفة من أجل إيجاد صيغة تنطوي على الامتيازات المشار إليها. وسيستغرق الأمر أسابيع أخرى لوضع التفاصيل المعقدة للتنفيذ. ولابد من النظر بهدوء إلى ما يمكن كسبه من الاتفاق، وما يمكن خسارته من دونه.

محلل استخباراتي سابق لدى وزارة الخارجية الأميركية

يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفيس»

الاتحاد

 

 

 

 

الاتفاق النووي.. ما البديل؟/ إد روجرز

الآن وقد أعلن أوباما التوصل إلى اتفاق إطار مع إيران بشأن برنامجها النووي، واصفاً إياه بأنه «اتفاق جيد يستجيب لأهدافنا الأساسية»، يتبادر سؤال إلى الذهن حول ما الذي يجب أن يفعله القادة «الجمهوريون»؟ الحقيقة أن أفضل ما يمكن القيام به في حالة أعضاء الكونجرس «الجمهوريين» هو مسايرة الاتفاق وعدم السعي لإجهاضه منذ الوهلة الأولى مع التركيز على تشديد آليات المراقبة التي ستخضع لها المنشآت الإيرانية والتحقق من التزامها ببنود الاتفاق، وبالأخص يتعين الابتعاد عن محاولات إفشال الصفقة قبل موعدها النهائي في شهر يونيو المقبل، هذا في وقت يتعين أيضاً التعامل فيه مع قواعد الحزب الأكثر تشدداً والرافضة للاتفاق مع إيران جملة وتفصيلا.

ولا ننسى أنه في ظل أوباما لا يمكن أبداً التطلع إلى اتفاق أفضل، ولكن مع ذلك لا نريد استفزاز إيران بإعطاء الانطباع بأن الهدف هو تعطيل مشروع التوافق لأن ذلك سيؤدي فقط إلى تسريع إيران لوتيرتها والذهاب مباشرة إلى القنبلة النووية، لا سيما وأن أوباما في السلطة، فإيران تعرف جيداً أنه طالما ظل الرئيس الحالي في البيت الأبيض لن تكون هناك حرب ضدها حتى لو سعت إلى اكتساب السلاح النووي، وبالطبع إذا كان أحد يريد الترشح عن «الجمهوريين» للانتخابات الرئاسية المقبلة، فلا مناص من معارضة الاتفاق الإطاري، إذا لا يمكن بالنظر إلى المبادرات التي انخرط فيها أوباما وكان مآلها الفشل أن يستثمر أحد من المرشحين «الجمهوريين» في دعم مبادرة أخرى قد تنتهي إلى نفس المصير ومعها مشواره السياسي، هذا بالإضافة إلى عناد «الجمهوريين»، الذين لن يعترفوا أبداً بأن سياسة أوباما الخارجية ربما تكون ساهمت فعلاً في ضمان قدر من الأمن والسلامة لأميركا، لذا في حال نجح التفاهم الحالي مع إيران ووُقع الاتفاق النهائي فذلك جيد، أما إذا تعثر وتبين أنه لا اتفاق هناك في الأفق، فإنه يتعين على الرئيس المقبل أن يتصدى للمسألة ويطرح البديل.

والمشكلة أن «الجمهوريين» يجدون أنفسهم في واقع بالغ الدقة فهم من جهة يعرفون أن الاتفاق غير مبني على أساس متين، وأنه يتعين الافتراض دائماً بأن الإيرانيين سيغشون، وأنهم مهما فعلوا لن يعترف أوباما بانتهاكاتهم، لأن همه إنجاح الاتفاق، لكن من جهة أخرى يعرفون أن التشدد داخل الكونجرس لن يؤدي إلى نتيجة، ليبقى الحل هو الانتظار، فلو استطاع هذا الاتفاق إبطاء مسيرة إيران نحو القنبلة، لربما أمكن بعدها لرئيس «جمهوري» أن ينهي الاتفاق ابتداء من 2017.

كاتب أميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»

الاتحاد

 

 

من المبكر الاحتفال/ راشد فايد

بين كل ردود الفعل الدولية والاقليمية، على اتفاق لوزان النووي، يبدو تعليق وزير الخارجية الألماني شتاينماير الأكثر واقعية، بقوله: “من المبكر الاحتفال”.

الأسباب المستنتجة من هذا التقويم عديدة، أولها أن الاتفاق النهائي لن يكون جاهزاً قبل 30 حزيران. الثاني، ان الاتفاق أثار معارضة، في طهران وواشنطن ما قد يهدد لاحقاً الالتزام به. الثالث: أن من مصلحة قيادتي البلدين أن تضخما للخصوم الداخليين، حسنات “الانجاز”. واذا كان أوباما سيواجه الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، التي تشكك في نيات طهران، فان نظيره حسن روحاني يواجه تشكيك الحرس الثوري، الذي وصف الاتفاق بـ”الكارثة”. الرابع، ان وتيرة ازالة العقوبات تركت لمرحلة استكمال المفاوضات.

أمر طبيعي أن يثير الاتفاق الكثير من التحليلات السياسية المتناقضة. لكن “الاحتفائيين” من جمهور ايران، الموزعين في “امبراطورية فارس” المتوهّمة، لم يفوتوا فرصة تأكيد التماهي معها، ومشاركتها طموحاتها، بترسيخ الوهم بأن الاتفاق النووي انتصار لـ”مشروع المقاومة”، وفي صلبه توسيع هيمنة طهران على المنطقة.

يستبعد هذا التهليل حقائق عدة. أولها أن المفاوضات على النفوذ مؤجلة لدى واشنطن وطهران على السواء. وما القفزات الايرانية المفاجئة، لا سيما في اليمن عبر الحوثيين، الا طرٍقاً على بابها. الثاني ان تصدي الرياض للانقلاب الحوثي رسالة واضحة لمن يشاء، مفادها أن أمن المنطقة شأن عربي أولا وأخيراً.

الثالث، ان الادارة الأميركية، في منتصف سبعينات القرن الفائت، لم تسمح للشاه محمد رضا بهلوي، بأن يوسع اطار نفوذه، ليكون وكيلا اقليميا لها، بما يبعد، ليس الاتحاد السوفياتي، العدو”، وحده، بل والولايات المتحدة، الحليف، عن التدخل في الشرق الأوسط، أو اتخاذ موطئ قدم فيه، حسبما كان يطمح.

الرابع، يخص حزب ميليشيا ايران في لبنان، وما يماثله في الدول العربية وغيرها، وهو تذكير بواقعة “بطلها” الرئيس الايراني الأسبق محمد خاتمي (1997-2005 )، فقبيل انتهاء ولايته الرئاسية، اتخذ مبادرة لمصالحة واشنطن، عهد الرئيس جورج بوش الابن، تحديداً في 2003، أي بعد سنة من خطاب الأخير على “محور الشر”، الذي جمع فيه ايران الى العراق وكوريا الشمالية.

حملت المبادرة نقاطا محددة، نقلها السفير السويسري لدى طهران: 1 – التزام الشفافية المطلقة في الملف النووي، أي فتح المواقع أمام التفتيش الدولي. 2 – التعاون مع واشنطن في ما يساعد الاحتلال الأميركي للعراق. 3 – تجريد حزب الله من السلاح. 4 – الاعتراف غير المباشر بدولة اسرائيل.

مقابل هذه التنازلات، كان لطهران مطلبان: رفع العقوبات، واعتراف بـ”مصالح ايران العسكرية” في المنطقة. البندان الأولان يتحققان حالياً، فيما البندان الأخيران على الطريق.

ليس على الحزب أن يقلق من ذلك، فهو جزء من التجربة اللبنانية الحافلة بخيانات “الحلفاء” الإقليميين لمن راهنوا عليهم في الداخل.

النهار

 

 

 

تركيا وإيران من «عاصفة الحزم» إلى تداعيات لوزان النووي/ خورشيد دلّي

تسير العلاقات التركية– الإيرانية وفق معادلة حساسة، يحكمها التنافس الإقليمي من جهة، والحرص على المصالح الضخمة المشتركة من جهة ثانية. في الحالة الأولى، كثيراً ما يأخذ التنافس مظهر الاشتباك على القضايا المتفجرة في سورية والعراق واليمن… وفي الحالة الثانية، السعي إلى تحييد المصالح الاقتصادية والأمنية عن تداعيات هذا الاشتباك، لكن، يبقى إيقاع هذه العلاقة مرتبطاً إلى حد كبير بالتطورات العاصفة التي تشهدها المنطقة.

«عاصفة الحزم» محطة فاصلة، فهي وضعت العلاقات بين البلدين أمام اختبار جديد، خصوصاً إذا تطورت «العاصفة» إلى تدخل بري، وكان لافتاً الموقف التركي القوي الداعم لها، بل إن الرئيس رجب طيب أردوغان رفع من سقف اللهجة التركية عندما اتهم طهران بالتدخل في الشؤون الداخلية لسورية والعراق واليمن، داعياً إياها إلى سحب قواتها من هذه الدول، وان الصبر على السياسة الإيرانية هذه لم يعد يحتمل، وهو ما يعكس تصاعد وتيرة الصراع بين أنقرة وطهران منذ بدء الثورات العربية في تونس ومصر وانتقالها إلى اليمن وسورية، فالتطورات الدراماتيكية في هذه البلدان عمقت من الانقسامات التركية- الإيرانية أكثر فأكثر، لاسيما في سورية والعراق، حيث الصدام العميق بين البنى الاجتماعية يأخذ شكل حروب متداخلة طائفياً على المستويين المحلي والإقليمي. فتركيا وإيران وقفتا على النقيض إزاء ما يجري في سورية والعراق، كل طرف لأسبابه ودوافعه واستراتيجيته، فطهران أعلنت دعمها الكامل للنظام السوري، وهذا طبيعي ومفهوم في ظل التحالف القائم بينهما منذ أكثر من ثلاثة عقود، وانطلاقاً من هذه الرؤية تحركت إيران على كل المستويات لدعم النظام السوري في حربه ضد خصومه في الداخل والخارج، فيما على العكس تماماً، تحركت أنقرة في كل الاتجاهات لإسقاط النظام السوري. والخلفيات نفسها تنطبق على ما جرى ويجري في العراق واليوم في اليمن، وإن اختلفت ظروف كل ساحة. وعلى هذا الأساس ينبغي النظر إلى الموقف القوي الذي صدر عن أردوغان بدعم عاصفة الحزم والردود الإيرانية الغاضبة عليها، والتي وصلت إلى حد المطالبة بإلغاء الزيارة التي من المقرر أن يقوم بها أردوغان إلى إيران غداً.

والحقيقة أن انتقادات أردوغان لسياسة إيران مع بدء «عاصفة الحزم» شكلت أقوى موقف تركي ضد إيران حتى الآن، بعد أن حرصت أنقرة على عدم الصدام مع إيران، فأردوغان اتهم إيران للمرة الأولى بالسعي «إلى الهيمنة على المنطقة وان هذا الأمر لم يعد يحتمل»، كما دعاها إلى «سحب قواتها من اليمن وسورية والعراق»، وأرفق أردوغان تصريحاته بالإعلان عن دعمه «عاصفة الحزم» وإبداء الاستعداد لتقديم لوجستي بهذا الصدد. تصريحات أردوغان هذه فجرت عاصفة من الردود في إيران، ففيما استدعت وزارة الخارجية القائم بالأعمال التركي في طهران باريش صايجي احتجاجاً طالب عدد من النواب والمسؤولين بإلغاء زيارة أردوغان إلى طهران، لكن الردود الإيرانية الغاضبة لم تغير من التأييد التركي لعملية «عاصفة الحزم»، بل إن أنقرة كشفت عن أنها كانت على علم مسبق بـ «عاصفة الحزم»، في إشارة إلى تنسيق سعودي– تركي في ظل تحسن في العلاقات بين البلدين.

ثمة من يرى أن الاشتباك التركي– الإيراني الجديد بسبب «عاصفة الحزم» لن يغير من قواعد لعبة التنافس التقليدية بين البلدين، فالصراع على الأزمة السورية التي دخلت عامها الخامس لم يفجر العلاقات بينهما حتى الآن، بل ظل البلدان يعملان على تطوير علاقاتهما الاقتصادية وكأن لا علاقة للمصالح الاقتصادية هذه بالصراع الجاري، فالمشاريع الضخمة في مجال النفط والغاز والتجارة تسيل لعاب الجانبين وتجعل من كل طرف ينظر إلى الآخر بأهمية استراتيجية كبيرة. ولعل مثل هذه النظرة قد تتعزز أكثر فأكثر مع تفاهم لوزان النووي بين إيران والغرب، خصوصاً أن تركيا لعبت في المرحلة الماضية دوراً كبيراً في الحد من تأثير العقوبات الغربية المفروضة على إيران من خلال خرق هذه العقوبات عبر علاقات مالية وتجارية ملتوية. ومع اتفاق لوزان، فإن تركيا التي تتطلع إلى أن تصبح ممراً دولياً لخطوط الطاقة، قد تتحفز أكثر لعلاقات اقتصادية أقوى مع إيران.

ولعل ما يرجح بقاء العلاقة بين البلدين في الحدود التقليدية للصراع هو الاتفاق الضمني بينهما على عدم السماح بإقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة، خصوصاً بعد تحول الأكراد في عموم المنطقة إلى لاعب إقليمي مهم، حيث طموحاتهم القومية بإقامة دولة كردية مستقلة تغير من الحدود الجغرافية للمنطقة.

في المقابل، يرى البعض أن ثمة تطورات توحي لأنقرة بأن مشروعها الإقليمي بات على أبواب مرحلة جديدة لا بد معها من تغير قواعد اللعبة التقليدية في العلاقة مع طهران، فتركيا التي بدت متضايقة جداً من تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة باتت ترى في «عاصفة الحزم» مدخلا لإعادة الدفء إلى علاقاتها مع الدول العربية الخليجية، لا سيما السعودية، خصوصاً أن «عاصفة الحزم» حظيت بدعم دول إقليمية كبرى غير عربية مثل باكستان، كما أنها باتت ترى في علاقة جيدة مع السعودية مدخلاً لتحسين العلاقة مع مصر بعد أن صعد أردوغان إلى قمة الشجرة، بما يعني وجود محور أو فضاء إقليمي أشمل، وهو ما قد تراه أنقرة ورقة قوة إقليمية في صراعها مع إيران على قضايا المنطقة، ولا سيما تجاه الأزمة السورية والسعي لإسقاط النظام، حيث تحلم تركيا بـ «عاصفة سورية» على غرار «عاصفة الحزم» اليمنية.

الثابت أن أردوغان في حيرة سياسية كبيرة بين روح عاصفة الحزم واتفاق لوزان النووي، وهي حيرة لن تنتهي إلا بعد زيارته المقررة إلى طهران والنتيجة الحقيقية لتلك الزيارة.

* كاتب سوري

 

 

 

 

أميركا وإيران النووية/ بدر الإبراهيم

منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، واقتحام طلاب إيرانيين السفارة الأميركية في طهران، والعلاقة بين الولايات المتحدة وإيران يشوبها العداء، فأيديولوجيا النظام الإيراني أعلنت العداء مع أميركا، والأميركيون لم يقبلوا بالتحول السياسي في إيران بعد إطاحة الشاه، ومنذ اقتحام سفارتهم، عملوا على محاصرة طهران بشتى الوسائل. الحديث الآن يدور حول صفحة جديدة في العلاقات الأميركية الإيرانية، بعد الاتفاق على المبادئ الأساسية لتسوية الملف النووي الإيراني، في لوزان، وتصل التكهنات إلى نشوء تحالف جديد بين إيران والقوى الغربية، وفي مقدمتها أميركا، لكن مراجعة مسار المفاوضات، وصولاً إلى تسوية لوزان، يدفعنا إلى وضع الأمور في حجمها الطبيعي، بعيداً عن المبالغات الإعلامية.

ينشغل المحللون بمعرفة من فرض شروطه على من في نهاية المطاف، ومن المهم هنا العودة إلى مسار المفاوضات لمقارنته بالنتيجة النهائية. بدأت المفاوضات حول الملف النووي الإيراني عام 2003، بمحادثات بين ثلاث دول أوروبية، ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، مع إيران حول برنامجها النووي، وكان المطلب الأساسي، في ذلك الوقت، منع إيران من تخصيب اليورانيوم، لكن المحادثات تطورت، وتحولت عام 2006 إلى محادثات مع دول (5+1)، وتوالت العروض المتبادلة من هذه الدول ومن الجانب الإيراني، لكن المسألة انتهت، بحسب الاتفاق، إلى الاعتراف بحق إيران في تخصيب اليورانيوم وتخزينه على أرضها، وهي المسألة التي كانت محل شد وجذب 12 عاماً، تحول خلالها الرفض الغربي للتخصيب إلى موافقة عليه في دولة ثالثة، ثم جاءت المبادرة التركية البرازيلية عام 2010، لتعرض التخصيب في إيران والتخزين في تركيا، وإمداد إيران بنسبة معينة مما يخزن في تركيا، وانتهى الأمر، في الاتفاق الأخير، بالقبول بالتخصيب والتخزين في إيران.

كسبت إيران مسألة التخصيب، وأيضاً، احتفظت بستة آلاف جهاز طرد مركزي، بعد أن كان مرفوضاً إبقاؤها على جهاز طرد مركزي واحد في بداية المفاوضات، وهي، الآن، دولة تملك التقنية النووية، والمقصود بامتلاكها امتلاك القدرة على إنتاجها وتصنيعها. وبحسب الاتفاق النووي، تحتاج إيران إلى عام، لتحصل على ما يكفي من المواد الانشطارية، لإنتاج سلاح نووي واحد، أي أنها دولة على “العتبة النووية” باعترافٍ دولي. المكسب المهم بالنسبة لطهران، هو رفع العقوبات المفروضة من مجلس الأمن، والعقوبات الأميركية، المتعلقة بالملف النووي، حيث ستتمكن إيران من جذب الاستثمارات، وبيع النفط، وتحسين وضعها الاقتصادي. لا بد، أيضاً، من ملاحظة خلو الاتفاق النووي من أي مقايضات، بخصوص الملفات الإقليمية، وهو ما يغضب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي يريد ربط التسوية النووية بتنازلات إيرانية في الإقليم، تطمئن إسرائيل، أو على الأقل باعترافٍ إيراني بحق إسرائيل في الوجود.

في المقابل، نجحت القوى الغربية في رسم حدود للبرنامج النووي الإيراني، وانتزاع تنازلات من طهران، منها وضع سقف لتخزين اليورانيوم، إذ وافقت إيران على خفض مخزونها من اليورانيوم المخصب من 10 آلاف كيلوغرام إلى 300 كيلوغرام، كما أن أميركا وحلفاءها ضمنوا عدم وجود سلاح نووي، غير السلاح النووي الإسرائيلي في المنطقة، بغض النظر عن رغبة إيران، أو عدم رغبتها، في إنتاجه، كما أن توقيع إيران على البروتوكول الإضافي لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية يضعها أمام آليات تفتيش ومراقبة دقيقة، إضافة إلى توقف نمو البرنامج النووي الإيراني عن الحد المسموح به في الاتفاق، في السنوات العشر المقبلة.

يستفيد الإيرانيون من رفع العقوبات، خصوصاً التي فُرضَت بقرارات من مجلس الأمن الدولي. لكن، هناك عقوبات أخرى تفرضها الولايات المتحدة، المتحكمة بالتدفقات المالية العالمية، على إيران، تحت عناوين مختلفة، منها حقوق الإنسان، ودعم “الإرهاب”، وبرنامج الصواريخ البالستية، وهي عقوبات مستمرة، ويمكن لأميركا أن تعيد إدراج عقوباتٍ متعلقة بالملف النووي، تحت هذه العناوين لاحقاً، ما يجعل رفع العقوبات بشكل نهائي أمراً غير مضمون، خصوصاً مع حدوث توترات أميركية-إيرانية حول ملفاتٍ مختلفة.

حصدت إيران اعترافاً عالمياً بها دولةً تملك التقنية النووية وتنتجها، واعترافاً أميركياً ضمنياً بشرعية نظامها الذي لم تعترف به منذ قيام الثورة الإيرانية، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، غير أن هذا لا يعني سوى انتقال إيران من خانة الدول “المارقة” التي تشمل كوريا الشمالية إلى خانة الدول “المنافسة”، مثل روسيا والصين، والتي تختلف معها أميركا، لكنها قد تتفاهم معها لفض اشتباكات أو منازعات في أماكن مختلفة، ما يعني أن حالة العداء بين البلدين ستظل قائمة، وهما لن يتحولا إلى حليفين، خصوصاً وأن التسوية تُعنى فقط بالملف النووي، وأن الاشتباك قائم في ملفات أخرى عديدة. لذلك، تبدو المبالغة في الحديث عن آثار الاتفاق النووي، في غير محلها، لجهة العلاقة بين أميركا وإيران، لكنها، بالتأكيد، تؤثر على مكانة إيران والاعتراف بها، ضمن النظام العالمي.

أثمرت المفاوضات الطويلة اتفاقاً، قال عنه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إنه أفضل من خيار الحرب، لكن هذا الاتفاق لن ينهي اشتباكاً أميركياً-إيرانياً معقداً، في ملفات عديدة.

العربي الجديد

 

 

 

إنها معركة الإقليم/ غسان شربل

> لن تدوم حروب الإقليم إلى الأبد. ستأتي ساعة يجلس فيها المتحاربون والمتنافسون إلى طاولة للبحث في شروط الأمن والاستقرار. عندها سيطالب كل طرف بالاعتراف له بدوره وموقعه ومداه الحيوي استناداً إلى الأوراق التي جمعها خلال فترة المبارزة في الإقليم. في هذا السياق يمكن تفسير مجموعة أحداث ومواقف. اندفاع الحوثيين وداعميهم حتى باب المندب. انطلاق عملية «عاصفة الحزم». خطوات الرئيس عبدالفتاح السيسي. وتصريحات الرئيس رجب طيب اردوغان على رغم زيارته المقررة لإيران غداً. وكذلك ما يحصل في سورية.

ولنفترض أن تلك الطاولة عقدت اليوم. باستطاعة المفاوض الإيراني القول صراحة أو مداورة إن بلاده موجودة على حدود السعودية عبر الأراضي العراقية واليمنية. وأنها موجودة على حدود تركيا ليس فقط عبر الحدود المشتركة بل أيضاً عبر الأراضي العراقية والسورية وقرب البوابة الأردنية. وأنها موجودة على حدود الأمن والمصالح المصرية عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب وعلى رغم فرار السودان من حلف الممانعة. وأنها موجودة على حدود إسرائيل عبر جنوب لبنان وبعض الجولان السوري.

يستطيع المفاوض الإيراني أيضاً أن يقول أو يلمح إلى أن بلاده أقوى من أميركا في العراق. وأقوى من روسيا في سورية. وأقوى من العرب في لبنان. هذا فضلاً عن اليمن.

منذ بدايات العقد الماضي، أطلقت إيران هجومين متوازيين. الأول في الملف النووي والثاني لانتزاع الموقع الأول في الإقليم، خصوصاً بعد إسقاط نظام صدام حسين. في الهجوم الثاني وتحت لافتة المقاومة والممانعة قامت بإضعاف الأهمية الاستراتيجية للمنافسين المحتملين في المنطقة. منعت خروج الحلقة اللبنانية من «هلال الممانعة» بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أطلقت حرب 2006 في لبنان وأسقطت بعد سنوات حكومة الرئيس سعد الحريري. منعت محاولة إعادة التوازن في العراق ومنعت الرئيس إياد علاوي من تولي رئاسة الوزراء. وفي بيروت وبغداد كانت الرسائل موجهة إلى السعودية وتركيا تماماً كما حدث حين منعت لاحقاً سقوط الحلقة السورية.

حققت إيران نجاحات في الهجوم الإقليمي. انتزعت صفة اللاعب الأول في بغداد ودمشق وبيروت مستفيدة من الانسحاب الأميركي ومحدودية الدور الروسي. نجحت أيضاً في سعيها إلى لعب دور المرجع السياسي والديني لجزء كبير من الشيعة العرب.

في ظل الفصل الأخير من المفاوضات النووية، أطلقت إيران الفصل الأخطر من هجومها الإقليمي وتمثل في الانقلاب الحوثي ودفعه إلى حدود عدن وباب المندب. ولعلها راهنت على ثلاثة أمور: الأول عدم رغبة باراك أوباما في اتخاذ أي موقف صارم يؤدي إلى تعطيل المفاوضات. والثاني، توقعتْ أن لا يصل غضب السعودية إلى حد اتخاذ قرار الحرب. والثالث أن لا تلتقي إرادة مصر وتركيا مع إرادة السعودية.

أي قراءة هادئة للمعركة الدائرة في الإقليم تفيد بأنه لم يكن أمام السعودية غير ما فعلت. لا تستطيع قبول سقوط باب المندب في يد الحوثيين وإيران، ذلك أن هذا الممر حيوي لتدفق النفط وسلع أخرى. ولا تستطيع التعايش مع يمن يقيم فيه زعيم ميليشيا إيراني الهوى هو عبدالملك الحوثي على ترسانة صاروخية يمكن أن تشكل ورقة تهديد دائم أو ابتزاز مفتوح.

واقع الأمر أن إيران اصطدمت في محاولتها لإعادة صياغة موازين القوى في الإقليم بالثقل السعودي. ثقل السعودية الإسلامي والسياسي والاقتصادي وثقل علاقاتها الدولية. وحين قررت السعودية وضع قدراتها العسكرية في تصرف هذا الثقل ولد سريعاً تحالف لجبه الحلقة اليمنية من الانقلاب الكبير. لم تقبل السعودية محاولة التسلل إلى خاصرتها البحرينية ولم تقبل أيضاً محاولة التطويق عبر باب المندب.

إنها معركة الإقليم. من المبكر الجزم بانعكاسات التفاهم النووي على مجرياتها. أثبتت التجارب أن الإدارة الدولية للإقليم غائبة أو هزيلة أو تعيش مرحلة انتقالية. وأن باستطاعة اللاعبين الإقليميين وضع الكبار أمام وقائع جديدة. لهذا اتهم اردوغان إيران بالسعي إلى «الهيمنة». ولهذا قال السيسي لجنرالاته إن باب المندب يعني الأمن القومي العربي. ومن هنا يمكن النظر إلى «عاصفة الحزم» كمحاولة لإعادة التوازن الإقليمي ولجم الهجوم الإيراني الكبير. فحروب الشرق الأوسط الرهيب لن تدوم إلى الأبد. ولا بد من امتلاك أوراق فعلية للمشاركة في رسم ملامح النظام الإقليمي الجديد.

الحياة

 

 

 

إيران ضد السعودية/ عبد الرحمن الراشد

في هذا الجزء أحاول أن أركز فقط على جزئية تأثير الاتفاق الغربي – الإيراني النووي على العلاقة بين الضدين الإقليميين الكبار، السعودية وإيران. قبل أن يفتح الرئيس الأميركي باراك أوباما المفاوضات مع النظام الإيراني كانت العلاقة سهلة التعريف. السعودية في نفس المعسكر مع الولايات المتحدة، سياسيا واقتصاديا، أما الآن فإن إدارة أوباما تعتبر إيران شريكا ليس من خلال التفاوض النووي، بل أيضا في عملياتها العسكرية ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا، وكذلك ضد طالبان في أفغانستان. فعليا، لم تعد أميركا دولة عدوة لنظام آية الله الخميني.

أحد كبار المفاوضين الإيرانيين ظهر على قناة «سي إن إن» مفسرا سر التغير، قال إن الأميركيين اكتشفوا أن إيران بعد الحصار الطويل عليها أكثر الأنظمة استقرارا وأقواها وأكثرها تأثيرا! طبعا، من يعرف إيران يدرك أن ليس كل ما قاله دقيقا. فإيران، مثل سوريا، وعراق صدام من قبل، تقوم على نظام آيديولوجي أمني. وقد انهار نظام صدام بعد أسبوع واحد فقط من الغزو الأميركي، كما أن نظام سوريا الذي عرف قوته الأمنية، سريعا بعد سقوط حالة الخوف، صار محاصرا من قبل ثوار لا يملكون حتى دفاعات أرضية، ولا صواريخ ضد طائراته، ويقتلونه إلى اليوم بأسلحة بسيطة. وبالتالي فإن قوة إيران الأمنية العسكرية قد تكون هي السبب في انهياره، وليس العكس. قامت الثورة الخضراء من عشرات لآلاف من الشباب الإيرانيين الذين ملأوا الشوارع يطالبون صراحة بسقوط نظام آية الله، وقد قامت قوات الباسيج بقمعهم، واستطاعت إطفاء ثورة شعبية تواجه النظام الديني في إيران، هي الأولى منذ إسقاط نظام الشاه. لا يوجد هناك ما يمنع تكرار الانتفاضة الشبابية، خاصة في حال انفتاح النظام.

السعودية في المقابل دولة تقوم على شرعية سياسية ودينية أيضا، مع القبيلة والدين والنفط. وهي مثل دول الخليج العربية، تنفق الكثير على إرضاء مواطنيها اقتصاديا، بخلاف إيران التي تنفق معظم مداخيلها على العسكر والأمن، وبالطبع على مشروعها النووي. السعودية وإيران بلدان متشابهان في صفات عديدة. كريم ساجدبور من مؤسسة كارنيغي يحلل التنافس الإيراني – السعودي، زعامة الطائفتين، السنة والشيعة، والقوميتين، العرب والفرس، والتحالف مع المعسكر الغربي ومواجهته. ثلاثية سيسقط منها ضلع عداء إيران مع الغرب، وبعد إعلان الاتفاق سيبيع النظام الإيراني للشعب الإيراني مصالحته مع الولايات المتحدة على أن الغرب استسلم له، وأن إيران هي المنتصر في المعركة. دينيس روس يرى أن الاتفاق ليس اتفاقا حتى يتم توقيعه، وأن هناك تفاصيل كثيرة في المفاوضات، تقيد الإيرانيين عند الاتفاق.

لكن إن لم تلتزم إيران بالاتفاق النووي ستكون مشكلة أكبر لإسرائيل، التي تخشى من النظام الفاشي الديني أن يضغط على زر القنبلة النووية في يوم ما، ويقضي على ثلاثة ملايين يهودي. فقد سبق لإيران أن ضحت بمليون إيراني في الحرب مع العراق في الثمانينات باسم الله والحسين، رغم أن صدام كان وقتها مستعدا للصلح نتيجة وضعه العسكري الضعيف، وقد قبلت إيران المصالحة مع صدام لأنها فشلت في هزيمته.

أما بالنسبة لدول الخليج، تحديدا السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين، فإنها تعيش كابوس الهجوم الإيراني منذ عقود، حتى منذ أيام حكم الشاه، والآن بعد الاتفاق النووي، لم يعد هناك شك في أن الخطر تضاعف. وبسبب الاتفاق يوجد شعور بالغضب من إدارة أوباما لأنه باع هذه المنطقة بثمن بخس، وتركها تواجه مصيرها مع دولة شريرة، وهم الذين سعوا لسنين طويلة على احترام تعهداتهم مع الغرب. وقد سبق أن كتبت في هذه الزاوية عن مبدأ أيزنهاور الذي وقع في عام 1957، وفيه تتعهد الولايات المتحدة بالدفاع عن السعودية بشكل عام. ومن أجل طمأنة السعوديين أعلن الرئيس أوباما تأكيد التعهد قبل فترة قريبة، وأنه يتعهد بالدفاع عن حدود السعودية. طبعا، كلمة حدود عبارة مطاطة وعليه أنه يكون أكثر وضوحا، حتى يوقف أي تفكير إيراني، أو بالوكالة، من خلال الميليشيات الشيعية، بالهجوم على السعودية خلال الفترة التي تلي الاتفاق النووي. بالنسبة للسعودية فهي دولة مسالمة، لا يوجد لديها طموح بالهجوم على إيران، إنما العكس صحيح، وهنا ما لم يعلن الأميركيون بشكل صريح التزامهم بالدفاع عن السعودية ضد إيران والعراق، فإننا أمام فوضى إقليمية كبيرة نتيجة توقيع الاتفاق النووي. فالإيرانيون يروّجون أن أوباما ليس مهتما بأمن الخليج وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. وهذا التفكير الإيراني سيدفع للمزيد من الحروب الإقليمية.

السعودية، ومعها أربع دول خليجية، الإمارات وقطر والكويت والبحرين، قادرة، إذا تطلب الأمر، على مواجهة إيران، لكن حربا كهذه ستكلف الجميع الكثير من الفوضى والدمار. يوجد غضب ضد حكومة أوباما لأنها تختصر النزاع مع إيران نوويا، في حين أن نظام طهران يفكر في تحقيق المزيد من المكاسب الجغرافية، ودائما كانت حروب إيران فعليا ضد دول الخليج وليست ضد إسرائيل، وهي اليوم تسعى لفرض نفسها قوة إقليمية، بتحييد الغرب، وهو أمر لن يمر بسهولة لأسباب متعددة، من بينها الخلاف الطائفي، فإيران تتزعم الشيعة، وهي طائفة صغيرة لا تتجاوز واحدا من كل تسعة من المسلمين السنة. وبالتالي ستصبح الولايات المتحدة عدوا لغالبية المسلمين بسبب موقفها الساذج من الصراع بين المسلمين. ليس مطلوبا من واشنطن أن تتخذ موقفا معاديا لأحد، لكن السماح لإيران بأن تكون دولة نووية بعد عشر سنين، أو السماح لها بأن تكون دولة مهيمنة إقليميا الليلة، سنرى صراعا إقليميا طويلا يرفع أسعار البترول وتنمو فيه الجماعات المتطرفة الإرهابية.

اعلاميّ ومثقّف سعوديّ، رئيس التحرير السابق لصحيفة “الشّرق الأوسط” والمدير العام السابق لقناة العربيّة

الشرق الأوسط

 

 

 

اتفاق نووي.. وحزمة قرارات صارمة/ ديفيد اغناتيوس

كانت حجة الرئيس أوباما الأكثر إقناعا التي طرحها، أول من أمس (الخميس)، إزاء اتفاق الإطار النووي مع إيران من البساطة بمكان: بمجرد إبرام الاتفاق فسوف يكون أفضل من أي بديل واقعي آخر.

بكل تأكيد هي ليست اتفاقية ممتازة، ولا تُعد حلا دائما للتهديدات التي تشكلها إيران العدوانية تجاه إسرائيل وبقية دول منطقة الشرق الأوسط. ولكن الإطار المتفق عليه تمخض عن أكثر مما يساور المشككين من مخاوف. وتكمن المشكلة في أن المساومات الهزيلة سوف تستمر لـ3 شهور أخرى (على أقل تقدير) قبل إبرام الاتفاق النهائي.

دافع أوباما عن الاتفاق من خلال استدعائه لاتفاقيات الحد من التسلح مع الاتحاد السوفياتي السابق، التي تضمنت الكثير من الثغرات والمخاطر المحتملة أكثر مما تضمنه الاتفاق الإيراني. غير أن الاتفاقات الأميركية – السوفياتية، على نحو ما قال أوباما، «جعلت العالم أكثر أمنا». أكد وزير الخارجية الأميركي جون كيري، صاحب العزيمة الصلبة والمحروم من النوم، على أن الاتفاقية جاءت أفضل من حالة الوضع الراهن «غير المقبولة».

المثير للقلق بحق هو أن هذه الصفقة لم تُبرم بالكامل بعد: فليست هناك مصافحة نهائية بين المسؤولين. وكل الجلسات المسائية والتهديدات بالانسحاب من المفاوضات لم تكن كافية لإجبار إيران على الالتزام الرسمي بالشروط التي طرحتها الولايات المتحدة من خلال قائمة دقيقة من 4 صفحات لمعاملات الخطة الشاملة المشتركة الملزمة. بدلا من ذلك، أجّل الجانب الإيراني التوقيع النهائي على الاتفاق إلى يوم آخر، بعد جولة المفاوضات النهائية ووقتها الإضافي.

إحدى إشارات «النقص» فيما أعلن عنه أول من أمس كانت عدم التطابق بين صحيفة الحقائق الأميركية المفعمة بالتفاصيل والبيان المقتضب في صفحة ونصف الصفحة، الذي قرأه مشاركةً كل من وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف ومنسقة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني. «يمكننا الآن إعادة صياغة النص والملاحق (بالاتفاق النهائي)، استرشادا بالحلول المتوصل إليها عبر الأيام الماضية»، حسبما أفاد به البيان الأوروبي – الإيراني المشترك. يبدو ذلك (بالكاد) وكأنك تنقر على زر «النهاية».

تكمن النقطة القوية والأساسية لدى الولايات المتحدة، إذا ما تسنى لي قراءة الوثائق بعناية، في أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران لن تشهد زوالا قريبا، حتى تتحقق الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من «التزام وتنفيذ إيران لتعهداتها النووية الرئيسية» عقب إبرام الاتفاق النهائي. وبالتالي، ليس من مصلحة إيران، على ما يبدو، أن تنتهج سبيل المماطلة.

أحد الجوانب المثيرة للقلق بالاتفاق، من حيث الأهمية، هي أنه بمجرد التحقق من الامتثال الإيراني المبدئي لبنود الاتفاق النووي يتم رفع كافة العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة والمتعلقة بالقضية النووية الإيرانية، ويجري إعداد مشروع قرار جديد بمنظمة الأمم المتحدة لتوجيه جهود الامتثال الإيرانية في المستقبل. أجل، هناك بند «المعاودة»، الذي يسمح بإعادة فرض العقوبات إذا ما تأكد انتهاك إيران لبنود الاتفاقية، غير أن تلك الصيغة تشكل كابوسا حقيقيا للأمم المتحدة.

سعت الولايات المتحدة لصيغة أكثر صرامة: الانخفاض التدريجي في رفع العقوبات، وفيه يتعين على إيران «اكتساب» كل تنازل إضافي تطلبه. واعتبر ذلك من قبيل القيود المفروضة على السلوك الإيراني، وشدد كيري على ذلك مرارا وتكرارا للإيرانيين. من الصعوبة التيقن من ذلك، ولا تزال المعلومات المتوفرة منقوصة، ولكن يبدو أن الولايات المتحدة خففت من شروطها بشأن تلك المسألة الرئيسية، مما يثير الكثير من القلق.

تجاوزت الشروط المبدئية من الاتفاق، على نحو ما هو موضح في مذكرة «المعاملات» الأميركية، معظم ما كان يتوقع الكثيرون حدوثه؛ إذ يُسمح للإيرانيين بتشغيل 5060 جهازا من أجهزة الطرد المركزي خلال السنوات العشر المقبلة، بدلا من 6000 أو 6500 جهاز. كما يُحظر إجراء عمليات تخصيب اليورانيوم، لمدة 15 عاما، في منشأة فوردو العملاقة المحصنة تحت الأرض في إيران، وهي فترة أطول مما كان يتوقعه البعض. ويُسمح للإيرانيين بتخصيب «بعض» اليورانيوم في منشأة ناتانز ولكن حتى مستوى 3.67 نقطة مئوية فقط، وهو المستوى الأدنى من حد إنتاج الأسلحة النووية بكثير، كما يتم إرجاء استخدام مخزون المواد المخصبة عند حجم 300 كيلوغرام لمدة 15 عاما.

وترجأ كذلك الأبحاث الإيرانية (أو نتائجها على أدنى تقدير). سوف يتم إزالة نحو 1000 من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة من منشأة ناتانز، ولن يُسمح لأي من أجهزة الطرد المركزي الأخرى بتخصيب اليورانيوم في أي مكان في إيران خلال السنوات العشر المقبلة. ويجري إعادة تهيئة وضبط المفاعل النووي العامل بتقنية الماء الثقيل في أراك، حتى لا يمكنه إنتاج وقود القنبلة النووية.

ينطوي أهم جزء من أجزاء الإطار على خطط التفتيش والتحقق. ويبدو هنا أن الولايات المتحدة حصلت أيضا على جل ما تصبو إليه. وتعمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية في نهاية المطاف على مراقبة كافة المنشآت النووية الإيرانية، باستخدام تدابير التطفل المعروفة باسم «البروتوكول التكميلي». كما تستمر جهود مراقبة المناجم والمصانع وغيرها من عناصر تسلسل التغذية النووية الإيرانية لمدة 25 عاما. إنها حزمة قرارات صارمة بحق، من حيث منع الإيرانيين من التلاعب.

جاء توصيف ظريف للاتفاق مغايرا تماما لتوصيف كيري وأوباما له، غير أن ذلك النوع من التلاعب الدبلوماسي هو من الأمور المتوقعة في أي مفاوضات. تبدو تلك الصفقة جيدة بالفعل، غير أنني كنت أتمنى لو أنها أُمهرت بالتوقيع.

* خدمة «واشنطن بوست»

صحافي وروائي. وهو محرر مشارك وكاتب عمود في صحيفة “واشنطن بوست”. كتب ثمانية روايات، بما في ذلك الجسم من الأكاذيب.

الشرق الأوسط

 

 

 

 

الاتفاق النووي والربيع العربي/ نبيل شبيب

من المستفيد إقليميا؟

الاتفاق من منظور إسرائيلي

تأثيرات الربيع العربي

إن أثر الاتفاق الإيراني الدولي حول الملف النووي، على مسار ما شاع وصفه بالربيع العربي، هو جزء من الإجابة الضرورية على السؤال المحوري بشأن ذلك الاتفاق، وهو: ما الذي سيتقلص من “الخطر الإيراني” الإقليمي وما الذي سيبقى أو يتنامى منه عندما يُستكمل اتفاق الإطار في لوزان، باتفاق شامل بعد حوالي ثلاثة شهور؟

قضية الملف النووي الإيراني المطروحة دوليا منذ أكثر من ١٢ سنة، قضية بالغة التعقيد، لا تفيد معها الأحكام التعميمية أو المتسرعة، لا سيما عند الخوض في الجوانب التقنية التفصيلية، إنما العنصر الأهم في السؤال أعلاه هو الجوانب المتعلقة بما شاع وصفه بمشروع الهيمنة الإيراني إقليميا، وكيف سيكون تأثير الاتفاق عليه، وهو موضوع الحديث هنا.

من المستفيد إقليميا؟

إن البلدان التي لا تمتلك سلاحا نوويا، تعتمد في مواجهة عدو يملكه على شبكة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية تجعل استخدامه ضدها غير مأمون العواقب دوليا، أما البلدان التي تمتلك السلاح النووي فتعتمد غالبا على مفعول “الردع المتبادل” بينها وبين من يصنف عدوا لها.. من مستواها.

إذا لاحظنا أن أي قوة عسكرية نووية “ناشئة محدودة” لا تمثل خطرا فعليا على “القوى النووية الكبرى” القادرة على الردع لأنها قادرة على الرد بقوة ساحقة، سنجد أن المفعول الحاسم للاتفاق، وهو تقليص احتمال بروز قوة عسكرية نووية إيرانية “إقليميا” يرتبط في الدرجة الأولى بخارطة المعادلات السياسية والعسكرية الإقليمية، وسيصب بالتالي في صالح القوى النووية الإقليمية، الهندية والباكستانية والإسرائيلية، إذ لن يضاف إليها منافس إقليمي جديد.

ولكن هل تستفيد المنطقة العربية من الاتفاق؟ المهم بالمنظور العربي هو انتشار النفوذ الإيراني وتضخم حجم تأثيره المباشر في لبنان وسوريا والعراق والبحرين واليمن وغيرها، فضلا عن وجود تأثير له على بعض المنظمات الفلسطينية، وبعض الدول الأفريقية، ناهيك عن تعزيز وجوده العسكري بحريا.

ولكن جميع هذه التحركات الإيرانية في المنطقة العربية، سواء المباشرة أو المعتمدة على مليشيات مسلحة تابعة وقوى سياسية محلية، لم يرتبط بتمرير مشروع تسلح نووي إيراني أو إحباطه.. فلا مجال للتوهم بأن منع هذا المشروع من التنفيذ في السنوات القادمة، سيؤدي إلى وقف تحرك المليشيات، أو تقلص النفوذ المتنامي اعتمادا عليه، في أي بلد من البلدان العربية ذات العلاقة.

السؤال الأصح هو من يتضرر إقليميا من الاتفاق؟ ويكمن الجواب في الجانب البالغ الأهمية من الاتفاق، وهو أنه “يحرر” القوة المالية والاقتصادية الإيرانية بعد حقبة الحصار والمقاطعة والعقوبات، وبالتالي ستجد تحركات نشر النفوذ الإيراني إقليميا مزيدا من القدرة الإيرانية على تنفيذ ما كانت العقبات التمويلية -وليس غياب تسلح نووي- تحد منه ولو جزئيا حتى الآن.

بل يمكن القول إن “الاتفاق” إذا اكتمل خلال شهور، يأتي في “أنسب” الأوقات على صعيد الوضع المالي الإيراني المتدهور، بعد أن ازداد التذمر الداخلي، كما انتشرت تقارير ودراسات عديدة تؤكد بلوغ الطاقة المالية الذاتية نقطة حرجة مع وصول حجم النفقات في عدة بلدان عربية أرقاما “أسطورية”.

ألا يجدد الاتفاق بذلك القوة المالية الدافعة للمشروع الإيراني الإقليمي تجاه المنطقة العربية؟ ألا يؤكد أن الضرر الأكبر سيكون على حساب الدول العربية وشعوبها؟

الاتفاق من منظور إسرائيلي

طغى على الساحة الحديث عن أن الطرف الإسرائيلي متضرر أيضا، ومع التسليم بذلك ينبغي أن نحدد معالم التضرر وحجمه الحقيقي، فالأرجح أن الخلاف الإسرائيلي الأميركي على مجرى المفاوضات صادر عن حرص الإسرائيليين على الانفراد إقليميا في الميدان بمشروع هيمنتهم الصهيوني، بينما يرى الأميركيون أن الإسرائيليين يستفيدون أكثر من سواهم من منع إيران من التسلح النووي، وأن عليهم القبول بالثمن، وهو أقرب إلى “تقاسم مناطق النفوذ” مع إيران، أي على غرار ما كان الوضع عليه في عهد “شاه إيران”.

وليس مجهولا أن الولايات المتحدة الأميركية كانت آنذاك وراء إنشاء أول مركز في إيران للدراسات حول الطاقة النووية، ولم يسبب ذلك اعتراضا إسرائيليا في حينه، بل مضت فرنسا ثم ألمانيا آنذاك على طريق دعم بناء مفاعلات نووية إيرانية قبل عام ١٩٧٩، ولم يكن ذلك يسبب مشكلة ما مع الإسرائيليين.

ولكن في الفترة التالية بعد ١٩٧٩ كانت الساحة خالية من “شرطي إيراني”، سواء في إطار تكامل وتعاون أو تنافس وصراع، ولا يريد الإسرائيليون الرجوع عن ذلك الآن طوعا.

لهذا لن تزول نقاط الالتماس والاحتقان بين الإيرانيين والإسرائيليين في المستقبل المنظور، ولا سيما أن مشروع الهيمنة من الجانبين لا يقتصر على ميدان التسلح النووي، علما بأن التسلح بحد ذاته “أداة” وليس هدفا، إنما تشمل أهداف المشروعين وميادين النفوذ السياسي والمالي والاقتصادي.

وهنا كان المشروع الصهيوني منفردا نسبيا بعد ١٩٧٩، والاعتراض الأكبر حاليا هو الاعتراض على تمكين إيران عبر “رفع العقوبات” من قدرة أكبر على التحرك، ولا سيما أن هذه الخطوة بالذات تفتح أبوابا واسعة أمام التعاون المالي والاقتصادي والتجاري وأمام الاستثمارات وربما التعاون التقني على مستويات عالية بين إيران ومعظم الدول الغربية، وليس مجهولا أن هذه الدول كانت تواجه طوال السنوات الماضية ضغوط أصحاب المال والأعمال فيها باتجاه “فتح” الأسواق الإيرانية أمامها.

الجدير بالتنويه هنا أن الخلافات الداخلية الأميركية حول الاتفاق النووي، مهما بدت كبيرة، فقد بدأت تتقلص تدريجيا تحت تأثير الموازنة بين المكاسب والخسائر الأميركية -وليس الإسرائيلية- عند المقارنة بين تعامل واشنطن مع مشروع هيمنة إسرائيلي منفرد إقليميا وبين مشروعين للهيمنة في وقت واحد.

تأثيرات الربيع العربي

هل تتعمد السياسات الأميركية تبديل الخارطة “الإستراتيجية” لتعاملها مع دول المنطقة، في اتجاه ترجيح الهيمنة الإيرانية رغم الأضرار المترتبة على دول عربية معروف أنها “حليفة” للأميركيين إقليميا، ولا سيما الدول الخليجية؟

بتعبير آخر: هل تتعمد واشنطن دعم النفوذ الإيراني على حساب “الدول العربية” أم يأتي ذلك نتيجة أخطاء السياسات الأميركية فحسب؟

منذ اعتمادها على الواقعية النفعية -قبل أكثر من مائة عام- لا تقوم السياسة الأميركية على أي “تحالف أبدي” من جانبها وإن طالبت به الآخرين تجاهها. ولن تتخلى واشنطن الآن عن السعي للحفاظ على علاقاتها السابقة مع الدول العربية المعنية، جنبا إلى جنب مع تجديد نوعية علاقاتها مع إيران إلى وضع أشبه بما كان في عهد الشاه الإيراني، ولكن أين كانت النقطة الحاسمة بهذا الاتجاه؟

في نطاق التعامل مع المنطقة العربية بمجموعها كان عام اندلاع الثورات العربية عاما حاسما في إحداث تبديل جذري على السياسات الأميركية عموما، أما بالنسبة للملف النووي الإيراني تخصيصا، فيمكن الرجوع إلى ١٢ سنة مضت، وسنجد أن السنوات التسع الأولى منها كانت سنوات رفض أميركي متواصل للطلبات الإيرانية والأوروبية للدخول في مفاوضات مباشرة مع طهران.

ولم ينتقل التعامل الدولي مع الملف النووي الإيراني من أسلوب الضغوط، إلى أسلوب “التفاوض المكثف” إلى جانب الضغوط إلا عام ٢٠١٢ ، وهذا ما لا يصح فصله عن مفعول الحدث الأبرز في المنطقة، أي حدث الثورات الشعبية العربية وهي في أوج عنفوانها.

لقد كان محور التوقعات الأميركية والغربية عموما في ذلك العام أن المنطقة مقبلة على تغيير جذري في خارطة القوى السياسية فيها بالمعنى الشامل للكلمة، وبغض النظر عن المواقف الرسمية المعلنة بشأن تأييد تحرر إرادة الشعوب، ونشوء أنظمة ديمقراطية، وما يتفرع عن ذلك، بدأ منذ ذلك الحين ما أصبح الآن واضحا للعيان من تحركات الأعاصير المضادة للرياح الشعبية الثائرة في الربيع العربي.

أميركيا لم تبدأ تلك التحركات من نقطة الصفر، فما يوصف بالفوضى الخلاقة، أو الهدامة، مما يسود في المنطقة حاليا، بُذرت بذوره الأولى في فترة التحركات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق علاوة على مناطق أخرى كالصومال.

إن جميع ما كان موضع “شكوك” و”اتهامات” و”فكر مؤامرة” بشأن تعزيز السياسات الأميركية للموقع الإيراني إقليميا، ولا سيما في العراق، أصبح الآن واقعا قائما، وقد انطوى في الوقت نفسه على تعزيز الصدامات من منطلق “مذهبي”، شيعي سني، من ساحات باكستان وأفغانستان والعراق وحديثا في بعض بلدان الربيع العربي.

هنا لا يفيد الجدل ما إذا كان ذلك نتيجة سياسات أميركية متعمدة أو خاطئة؟ فالحصيلة واحدة، والأهم من الجدل هو أن التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني بأبعاده الإقليمية المشار إليها، يبنى -أميركيا- على نتائج تلك السياسات منذ غزو أفغانستان.

إن ما يطرحه الاتفاق النووي الجديد ذو أبعاد إستراتيجية بعيدة المدى، وإذا كان الرد مطلوبا فلا بد أن يحمل رؤية إستراتيجية وخطوات عملية جريئة ذات تأثير كبير، ولا يبدو أن في الإمكان ذلك دون التقاء تاريخي لم تشهده المنطقة منذ زمن طويل، بين الإرادة السياسية الرسمية والإرادة الشعبية الثائرة، والفرصة القائمة لذلك الآن فرصة غير مسبوقة، وهي المغزى الأهم حاليا فيما تعنيه كلمة الربيع العربي.

الجزيرة نت

 

 

لا اتفاقية اميركية – ايرانية بعد/ حسين عبد الحسين

الضجة التي اثارها الرئيس باراك أوباما بتصويره محادثات لوزان على انها “تفاهم تاريخي” بين مجموعة دول خمسة زائد واحد، واللقاء الصحافي الذي منحه لزلمته في “نيويورك تايمز” توماس فريدمان، قبل ايام، لم يكونا احتفالا بانجاز او اختراق ديبلوماسي مزعوم في لوزان، بل محاولة خلق زخم اعلامي وشعبي للدفع قدما بالمفاوضات النووية، التي يبدو جليا انها تعثرت ولم تثمر حتى الآن.

وعلى عكس اتفاقية جنيف المؤقتة الموقعة في ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٣، لم تكن هناك مصافحات بين وزراء الخارجية، ولا وثائق موقعة، فقط صورة تذكارية وقف فيها وزراء الخارجية حسب تسلسل بلادهم ابجديا.

أوباما يعرف ان لوزان كان خيبة أمل. في خطابه الاسبوعي الاذاعي الذي تلا نهاية لقاءات لوزان، لم يتلفظ الرئيس الاميركي بكلمة اتفاقية، بل اكتفى بعبارة “تفاهم تاريخي”. حتى الصحافيين المحسوبين على ادارته، مثل المعلق المخضرم في صحيفة “واشنطن بوست” دايفيد اغناتيوس، كتب ان النص الذي وزعته الخارجية الاميركية جميل، لكنه كاد ان يكون حقيقيا لو انه اقترن بتوقيع ايران او بمصافحة مع الايرانيين على اساسه.

والنص الذي وزعته الخارجية الاميركية يختلف عن النص الذي وزعه الايرانيون. في النص الاميركي، رفع العقوبات يتم فقط بعد افادة وكالة الطاقة الدولية الذرية ان ايران التزمت بما وعدت به نوويا. في النص الايراني، يتم رفع العقوبات فور توقيع الاتفاقية النهائية، اي من دون شروط مثل افادة الوكالة الدولية. هذه نقطة اساسية، وعالقة، ويتمسك كل من الطرفين بوجهة نظره حولها. الاميركيون يريدون غطاء الوكالة الاممية لرفع العقوبات، فيما الايرانيين يريدون تثبيت انتصارهم على أوباما، ومرغ انفه في الوحل، وقبوله وعدهم بتنفيذ الاتفاق من دون شروط او دور لوكالة الطاقة الذرية، التي مازالت تشتكي من عدم تجاوب طهران مع تساؤلاتها. كما يصر الايرانيون على ان رفع العقوبات ليس مكافأة اميركية، بل هو في صلب الاتفاقية الندية بينهما.

ولأن ما تم التوصل اليه في لوزان لا يرقى ان يكون اتفاقية، بقي المرشد الايراني علي خامنئي صامتا. ولأن المفاوضات راوحت مكانها، شن أوباما حملة اعلامية لفتح الطريق امام نفسه والايرانيين للتوصل الى اتفاق مع حلول ٣٠ حزيران (يونيو).

لكن أوباما هاوٍ في العلاقات الدولية، شأنه شأن زلمته فريدمان صاحب التفكير الساذج والمقالات السطحية. فباعلانه الانتصار، وضع أوباما نفسه في موقف المجبر على التوصل الى اتفاقية، فكان حديثه عن “التفاهم التاريخي” ثرثرة شأنها شأن سياسته الخارجية بشكل عام. هكذا وضع الرئيس الاميركي نفسه تحت ضغط التوصل لاتفاقية، فيما الايرانيين لم يلزموا انفسهم بأي “تاريخية” لأي تفاهم.

لهذا السبب، رفع أوباما من رهانه، واطلق — في مقابلته الاخيرة مع فريدمان — مواقف لا سابق لها في صراحتها، قال فيها ان اميركا مستعدة لتطويب ايران زعيمة اقليمية، وتبنى فيها نظرة ايران نحو دول الخليج، متهما دول الخليج بأنها تعاني من مشاكل داخلية تدفع شبابها الى التطرف. ثم ختم أوباما بالقول ان اسرائيل متفوقة عسكريا، وهذا يكفيها ويفرض عليها ان تنكفىء وان لا تتدخل في الشؤون الاقليمية.

هدف مقابلة أوباما مع فريدمان واحد: اقناع الايرانيين بأن اميركا تسعى لتطويبهم زعماء الشرق الاوسط على حساب خصومهم، وخصوصا العرب.

لكن مرة اخرى، يتكشف عبط الرئيس الاميركي، فايران تعتقد نفسها زعيمة الشرق الاوسط — بل العالم بأكمله — من دون منة أوباما، بل رغما عن أنفه، وهي لن توقع اتفاقية قبل ان تتأكد انها أذلت أوباما وتفوقت عليه.

وسيستحيل على أوباما تلبية الشروط الايرانية، وهو حتى لو تراجع، لن يوافق الفرنسيون على رفع العقوبات من دون افادة الوكالة الدولية حول التزام ايران، اذ ان مواقف المجموعة الدولية يتم اتخاذها بالاجماع. هكذا، اذا تصلب الايرانيون، سيجد أوباما نفسه في ٣٠ حزيران، كما اليوم، يهرج ويتحدث عن انجازاته الدولية التي تقتصر على كونها مجموعة من الاماني التي لا تمت الى الواقع بصلة.

المدن

 

 

 

رجع الصدى بين نصرالله وخامنئي/ وليد شقير

هل سيكرر الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله في خطابه المقبل، القول إن «إيران لا تملي ولا تقرر ولا تتدخل ولا تهيمن» في سورية والعراق واليمن ولبنان وفلسطين… بعد تصريح المرشد الإيراني السيد علي خامنئي أمس، الذي قال فيه إن السعودية «ستتلقى ضربة في اليمن وتُهزم فيه»؟

هل سيكرر القول إن «إيران لم تأمرنا بأمر ولم تطلب منا أي طلب»؟

لم يكن الأمر بحاجة إلى دليل التطابق في الأوصاف التي أطلقها نصرالله على عملية «عاصفة الحزم» التي قادتها الرياض ضد الانفلاش الحوثي الإيراني، مع ما قاله خامنئي للتأكد من أنه أمر عمليات صدر من طهران للتعاطي الإعلامي الشديد الحدة مع قرار المواجهة السعودي- العربي ضد هذا الانفلاش. فهجوم نصرالله، مع جوقة الإعلام التابعة للنفوذ الإيراني، بما فيه إعلام الحوثيين وحلفائهم، شكل «الفرقة السباقة» التي مهدت لترداد خامنئي ما سبق أن طلب من القوى التابعة له أن تطلقه، بعد المفاجأة التي أحدثتها الحملة العسكرية السعودية العربية بتأييد من باكستان وتركيا، رداً على احتلال الحوثيين وأنصار الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، العاصمة الموقتة عدن، وتهديدهم الرئيس عبد ربه منصور هادي.

ومع أن التناقض صارخ في ما قاله نصرالله في خطابه غداة «عاصفة الحزم»، حين أقر بأن لإيران «احترامها وتأثيرها» في الدول المذكورة، وأنها تملأ الفراغ الذي تركه «العرب»، ثم تبرأ من التأثر بما تطلبه طهران منه، فإن استنساخ خامنئي أمس لتصريحات نصرالله هو رجع الصدى لأمر العمليات الذي أطلقه الجانب الإيراني في الرد على سعي الرياض والعواصم العربية الأخرى التي شاركتها الحملة إلى استعادة التوازن في المنطقة، مقابل تمكن طهران عبر «تصدير الثورة» من التقدم في نفوذها الإقليمي.

لم يكن ذهاب نصرالله إلى حد إطلاق الاوصاف المسيئة على المسؤولين السعوديين ناجماً عن انفعاله هو، بل كان صدى لانفعال القيادة الإيرانية التي رددت معظم ما قاله.

وبغض النظر عما ستؤول إليه مواجهة النفوذ الإيراني هذه، فإن عنصر المفاجأة والذهول ما زال يتحكم برد الفعل الإيراني، فطهران بنت حساباتها أولاً على أنها تتعاطى مع مسؤولين اخطأوا في التقدير، وثانياً على أن ازدراءها القومي الفارسي بمن سماهم نصرالله «العرب» لم يكن مطابقاً للواقع، فما كان واقعياً في هذه الأوصاف هو استبطان نصرالله انتسابه إلى غير هؤلاء «العرب».

والمصدر الأساس لهذا الذهول وتلك المفاجأة، هو أن الالتفاف العربي حول السعودية ومواقف مصر وسائر دول الخليج في القمة العربية في شرم الشيخ، جعل المواجهة عربية- إيرانية، فالرد في اليمن جعل ايران في موقع المحرج أثناء مفاوضات لوزان وسيؤثر في كل أوراقها على امتداد المنطقة. والهدف الإيراني هو منع استثمار الرد السعودي على الصعيد الإقليمي، وهو ما يجعل التحدي عربياً لا سعودياً فقط.

استعادة التوازن ستأخذ مداها الزمني في المرحلة المقبلة، التي ردد نصرالله أنها ستنتهي بـ «الانتصار» في اليمن وفي المنطقة، مستنهضاً الجهات الحزبية والمذهبية التي شكلت أذرعاً لطهران. والوعد بـ «الانتصار» تكرار للمكابرة التي تمارسها طهران حيال حرب الاستنزاف التي غرقت فيها وأغرقت «حزب الله» معها في سورية، فنصرالله يعد جمهوره بالانتصار في بلاد الشام منذ 3 سنوات، ويدعو الخصوم إلى الاستسلام لهزيمتهم الافتراضية أمام ما يمليه هو وطهران، من دون أن يرف له جفن إزاء الخسائر التي يوقعها بحزبه وبلده جراء الانغماس في حرب أهلية في بلد آخر لمصلحة بلد ثالث. لكنه انتصار لم يأتِ، بل نسمع كل يوم عن تحضيرات الحزب وجيش النظام لاستعادة القلمون السورية، تمهيداً لاستعادة إدلب، واستقدام الآلاف من «الحرس الثوري» إلى السويداء، على رغم زعمه أن الإيرانيين في سورية لا يصلون إلى 50 عنصراً!

توقع نصر الله في مقابلته مع «الإخبارية السورية»، أن يكون دخول الحوثيين إلى الأراضي السعودية «وارداً»، ممهداً لعمليات مدعومة إيرانياً داخل المملكة، واستند إلى قول الرئيس أوباما أن مشاكل دول الخليج هي مع الداخل عندها، متسلحاً باتفاق الإطار على النووي بين واشنطن وطهران لتصبح الحرب كراً وفراً، مثلما هي في سورية. أم أن نصرالله وطهران سيعتبران ما طرحته الرياض، من أن الحل السياسي بالحوار من دون استبعاد أي من المكونات اليمنية، بعد إنهاء المراهقة المكلفة التي أقحمت طهران الحوثيين ومن معهم فيها وبعد إعادتهم إلى حجمهم الطبيعي، هو الانتصار؟

الحياة

 

 

 

التطبيع وتحالف الأمر الواقع بين واشنطن وطهران/ راغدة درغام

في غضون أسبوع واحد هذا ما حصدته وزرعته طهران: احتفت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بفتح صفحة تاريخية مع الولايات المتحدة وتوصلت إلى إطار اتفاق نووي مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا وألمانيا. اشتغلت طهران على باكستان التي كانت أعلنت استعدادها للالتحاق بالتحالف الذي تقوده السعودية في شأن اليمن، وأتت النتيجة إعلان وزيري الخارجية الإيراني والباكستاني أنهما يريدان «تسهيل» الحوار اليمني. قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إن «توافقاً» حول الموقف من اليمن نجم عن لقاءات مع مسؤولين في سلطنة عمان وتركيا وباكستان، صاحبتي أهم جيشين في العالم الإسلامي. استقبلت طهران الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي كان انتقد التدخل الإيراني في اليمن عبر الحوثيين وشرحت له كيف باتت إيران ذات وزن ثقيل في موازين القوى الإقليمية. أعلنت طهران عن توجه فرقاطاتها ومدمراتها البحرية إلى خليج عدن ومضيق باب المندب في مهمة تستغرق حوالى ثلاثة أشهر – الفترة الزمنية نفسها المحددة في 30 حزيران (يونيو) للتوصل إلى اتفاق نووي نهائي ينصّب إيران عملياً قوة نووية في الشرق الأوسط، مع وقف التنفيذ.

وللتأكيد، إن فتح الصفحة الجديدة في علاقة الولايات المتحدة مع إيران حدث تاريخي بامتياز لأنه يعطي طهران تماماً ما أراده حكم الملالي من إدارة أوباما منذ أن بدأ الرئيس الأميركي سلسلة التنازلات. فالاتفاق النووي سيعطي طهران ما أصرت عليه وهو: اعتراف الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بـ «حقها» النووي والانحناء أمام إصرار طهران على امتلاك القدرات النووية شرط موافقتها على تأجيل التفعيل. إنه يدشّن الجمهورية الإسلامية عضواً فخرياً في النادي النووي العالمي بتصفيق حاد من القوى الخمس النووية الرسمية مع «أم العروس» – ألمانيا –.

الإطار الذي تم الإعلان عنه الأسبوع الماضي كنقطة انطلاق للاتفاق المنتظر بعد مفاوضات الثلاثة أشهر المقبلة مهم بأبعد من الناحية النووية. إنه يلبي أيضاً مطلبين آخرين مهمين جداً لإيران هما: أولاً، الإقرار الأميركي العلني، والذي له نكهة التعهد الرسمي، بأن الولايات المتحدة تحترم حكم الملالي في طهران وتنظر بإعجاب إلى تمكنه من اقتناء القدرات النووية على رغم العزل والعقوبات، ولن تسعى أبداً للإطاحة بهذا النظام. فهذا نظام أصبح شريكاً للولايات المتحدة للسنوات العشرة المقبلة – على أدنى تقدير – لأنه الطرف المتعهد بالامتثال لما سيُتَفَق عليه من تحقيق وتفتيش للنشاطات النووية على أيدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. إذن، لبّى الرئيس باراك أوباما طلباً أساسياً لملالي طهران وهو الاعتراف العلني بشرعية النظام.

وثانياً، لبى الرئيس الأميركي الطلب الآخر المهم جداً لطهران وهو الإقرار بوزنها وبطموحاتها وأدوارها الإقليمية من دون تدخل من الولايات المتحدة. وهكذا انحنى أوباما أمام الإصرار الإيراني على عدم التدخل الأميركي في سورية والعراق ولبنان واليمن، كي يضمن إنجاز ذلك الاتفاق النووي الذي يريد أن يربطه التاريخ باسمه.

هي ذي الصورة إذاً: أولاً، باعتراف الرئيس الأميركي، أن إيران ستكون بعد 13 سنة جاهزة للتحوّل إلى قوة نووية عسكرية. ما قد يحول دون ذلك هو آلية مراقبة غامض ومطاط لم تحدد معالمه بعد، تقوم به الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعلاقة غامضة وغير محددة مع عملية رفع العقوبات الدولية في مجلس الأمن.

ثانياً، العقوبات الدولية ستُرفَع عن إيران في مجلس الأمن بالتزامن مع تنفيذ الالتزامات النووية – هذا في رأي إدارة أوباما. أما في رأي طهران وعواصم أوروبية، ستُرفَع العقوبات حال توقيع الاتفاق النووي. مهما كان التفسير قابلاً للتأويل، إن الدول المتأهبة للاستفادة من الاتفاق النووي جاهزة للحصاد – وعلى رأسها روسيا والهند والصين والبرازيل أي دول «البركس» التي طالما تهادنت مع إيران وأعفتها من المحاسبة في سورية وعندما انتهكت القرارات الدولية. وأولى المحطات ستتمثل في تسليم روسيا إلى إيران صواريخ S-300 المتطورة فور رفع العقوبات.

أميركياً، إن رفع العقوبات عائد إلى الكونغرس وليس فقط إلى الإدارة الأميركية. كثيرون في الكونغرس يعتبرون أن رفع العقوبات عن إيران بصورة استباقية هو بمثابة التخلي الاختياري عن «عصا» ضرورية للتأكد من صدق إيران في تنفيذ التزاماتها وتعهداتها كما أنه هدر لـ «الجزرة».

واقعياً، إن إدارة أوباما في تلهفها إلى رفع العقوبات الأميركية والدولية إنما تقوم عملياً بتمويل الطموحات الإيرانية النووية والإقليمية المتمثلة بخوض حرب سورية، ودعم الميليشيات العراقية، والمكابرة عبر الحليف اللبناني «حزب الله»، وتسليح الحوثيين في اليمن.

عملياً، أبلغت إدارة أوباما طهران بصمتها البليغ أنها لن تتدخل ولن تمانع الدور الإيراني الإقليمي وأبلغتها ميدانياً أيضاً أنها حليف الأمر الواقع في الحرب الأميركية على «داعش».

فعلياً، وبعد قطيعة رسمية لأكثر من ثلاثين عاماً، دخلت العلاقة الأميركية – الإيرانية التطبيع من باب تحالف الأمر الواقع ومباركة التوسع الإيراني في البقعة العربية والتعهد بالاعتراف بشرعية النظام في طهران.

بالطبع هناك أهمية لإعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن سلاح الجو الأميركي بدأ عمليات الدعم للطيران السعودي في غاراته على اليمن بدءاً بعملية التزويد بالوقود في الجو للمقاتلات في عملية «عاصفة الحزم» التي يشنها التحالف ضد الحوثيين. واشنطن تؤكد أن دعمها العسكري لـ «عاصفة الحزم» سيبقى «محدوداً» ولن يصل إلى حد المشاركة في الغارات بل سيقتصر على مساعدات استخبارية ولوجيستية في العمليات العسكرية. أتى هذا الدعم متأخراً، لكنه يبقى ذا فائدة، لا سيما إذا ساعد الدعم الاستخباراتي في تحديد المواقع العسكرية لتجنب الضحايا المدنيين وإذا ساهم في الإسراع في الحد من العمليات العسكرية والعودة إلى الحوار السياسي للتوصل إلى تسوية.

إنما من الضروري للقيادات العربية أن تطالب إدارة أوباما بأكثر وبإصرار لجهة الحزم مع إيران للتوقف عن الإمدادات العسكرية للحوثيين وللكف عن الانتشار البحري في خليج عدن وباب المندب.

الرئيس باراك أوباما دعا قادة دول مجلس التعاون الخليجي إلى «كامب ديفيد» لطمأنتهم في شأن الاتفاق النووي المنتظر. عمان خرجت عملياً عن البوتقة الخليجية العربية وباتت مُصنّفة «حيادية» بل أقرب إلى إيران في المعادلة. إنما الحدث اليمني قرّب الصفوف السعودية الإماراتية القطرية وفتح مجالاً جديداً للتعاون الخليجي – الخليجي ولصياغة استراتيجية نوعية جديدة ترقى إلى التحديات.

واشنطن ستزداد انقساماً في الأسابيع والأشهر المقبلة ليس فقط بين الجمهوريين والديموقراطيين ولا بين الكونغرس والإدارة فحسب وإنما أيضاً على صعيد الرأي العام. الأكثرية الأميركية لا تريد الحرب ولذلك سترحب بطروحات إدارة أوباما حتى لو انطوت على مواجهة مع إسرائيل في الشأن الإيراني. لكن الحزب الديموقراطي وأعضاء الكونغرس من الديموقراطيين ليسوا في وارد الدعم التلقائي لإدارة أوباما تحت أي ظرف كان. إنهم منفتحون على فهم أعمق لمعنى الاتفاق النووي مع إيران.

ما لا يلقى الاهتمام هو البعد الإقليمي للتدخل والتوسع والزحف الإيراني في الدول العربية. هذا نقص تتحمل الدول العربية مسؤولية شرحه وإبرازه. الإعلام الأميركي لا يتقبل الرأي العربي بسهولة ولا بصورة متماسكة، لا عبر المسؤولين ولا عبر المحللين السياسيين العرب. هذا خلل لا يجوز تجاهله، لا سيما أن لدى العرب وسائل لإصلاحه.

الأهم هو وضع استراتيجية عربية للعمل مع الكونغرس من دون الظهور بأن ذلك عداء مع الإدارة أو تطاول على صلاحياتها. هناك نافذة مهمة يجب عدم التلكؤ في الاستفادة منها. أميركا منقسمة، ولا عيب في المساهمة في شرح أبعاد الاتفاق النووي وتداعيات سياسة النأي بالنفس عن مغامرات إيران في الأراضي العربية التي تتبناها الإدارة الأميركية.

ثم هناك عنصر «داعش» و «القاعدة» فلا يجوز أن تتقدم الدول العربية بالتحالف مع الولايات المتحدة ضد «داعش» و «القاعدة» من دون إبراز أهمية المشاركة العربية في سحق هذين التنظيمين.

وكما جاء في مقالة في «وول ستريت جورنال» لكل من هنري كيسنجر وجورج شولتز اللذين شغلا عدة مناصب في الإدارات الأميركية السابقة، إذا لم يتم إدخال عنصر اللجم السياسي على الضبط النووي، أن اتفاقاً يحرر إيران من العقوبات يغامر بإغداق القدرات التوسعية عليها. وليس في هذا الأمر مزاح.

 

 

 

خلفيات اتفاق لوزان وانعكاسه الإقليمي/ علي العبدالله

مع أن صيغة الاتفاق التي نشرت ليست الصيغة النهائية، وما زال أمام المتفاوضين وضع تفاصيل وآليات تنفيذية كي يكون تنفيذه محدد الشكل والمضمون، فإن المحللين يستطيعون تبيان التوجه الختامي للمفاوضات. فقراءة الاتفاق، وفق النص الأولي، تمكننا من تلمس حجم القيود التي وضعت على النشاط النووي الإيراني إن لجهة عدد أجهزة الطرد المركزي (6104) ونوعيتها ونسبة التخصيب التي لن تتجاوز الـ 3.67 في المائة وإخراج اليورانيوم المستنفد من إيران وعدم احتفاظها بأكثر من 300 كغ يورانيوم مخصب، أو لجهة تعديل مفاعل آراك للماء الثقيل وعدم استخدام مفاعل فوردوا في التخصيب، ناهيك عن تقيّد البحوث بمقتضيات استثمار الطاقة النووية في الشؤون المدنية، كي تُبعد إيران عن إنتاج قنبلة نووية، وفق الطرف الدولي، وتخضعه لرقابة دولية صارمة لفترة طويلة (10- 15 عاماً) للتأكد من التزامها ببنوده، في مقابل تخفيف العقوبات الدولية التي فرضها مجلس الأمن بعد تنفيذ إيران لبنود الاتفاق، وتعليق العقوبات الخاصة الأميركية الأوروبية مع إبقائها حاضرة وقابلة للفرض فور مخالفة إيران لبنود الاتفاق.

لقد وضع الاتفاق سقفاً للبرنامج النووي الإيراني وقيوداً صارمة قلّص بموجبها من حجمه فجعله غير قابل للتحول إلى إنتاج أسلحة نووية، ومنح إيران اعتراف العالم بحقها في امتلاك برنامج نووي سلمي، وفتح أمامها باب العودة إلى المجتمع الدولي وعودة العلاقات الطبيعية مع دوله، وخلصها من العقوبات المفروضة عليها، ما سيتيح لها الحصول على أموالها المجمدة لدى الدول، في أغلبها ثمن للنفط الذي باعته خلال فترة العقوبات، والبالغة حدود الـ 150 مليار دولار.

ركزت تعليقات كثيرة على رفع العقوبات وحصول إيران على كتلة نقدية كبيرة ستمنحها فرصة أكبر للتحرك الخارجي لاستكمال مشروعها الامبراطوري. غير أن قراءة مدققة ومتعمقة ستكشف أن هذا البعد هو الأقل أهمية في الاتفاق إذا ما قورن بخروج إيران من تحت سقف العقوبات، الدولية خاصة، التي وضعتها في صف الدول المارقة، وعودتها إلى المجتمع الدولي، وعودة العلاقات التجارية والاستثمارات وعودة الخبرات الأجنبية التي يمكن أن تُخرج الصناعة الإيرانية من الهوة التي وقعت فيها بفعل العزلة والعقوبات، وتحسين مستوى العمل في مجال استخراج النفط وتكريره وتصفيته، لتحقيق اكتفاء ذاتي في المحروقات، وإطلاق الدورة الاقتصادية وتوفير فرص عمل. وهذا ما يجلب الانتعاش إلى الاقتصاد ويخرج المواطنين من حالة التذمر واليأس. هكذا يسود الهدوء والاستقرار حيث كانت إيران تغلي بسبب عجز النظام عن مواجهة تبعات العقوبات اقتصادياً واجتماعياً وتقيد حركة المواطنين والحد من حرياتهم ولجم تطلعاتهم الإنسانية للسيطرة على ردود أفعالهم ومنعهم من الخـروج إلى الشـوارع للتعبـيـر عـن مـوقـفهم من النظام السياسي وخياراته الداخلية والخارجية.

لقد جرى الحديث عن انعكاس الاتفاق على الإقليم بعد رفع العقوبات، ما سيؤدي إلى إطلاق يد إيران في التصرف واستغلال المليارات المحررة في تثبيت نفوذها والتحول إلى قوة مهيمنة إقليمياً وتحقيق حلمها الامبراطوري. وهو حديث مبالغ فيه لاعتبارات أولها أن ما دفع إيران إلى الدخول في المفاوضات وقبول الاتفاق هو وضعها الداخلي والاحتقان الاجتماعي الذي ترتب على البطالة وانهيار سعر صرف العملة وعجز الحكومة عن توفير المحروقات والمواد الأولية للصناعة والزراعة وحاجتها إلى قطع الغيار والاستثمارات والخبرات لسد العجز، وعجزها عن تمويل مشاريع التنمية وتطوير البنى التحتية، وثانيها حاجتها إلى عودة الشركات الأجنبية للتنقيب عن النفط والغاز، وثالثها أخذ حصتها من النفط والغاز في السوق العالمية، ويمكن أخذ رفع العقوبات وتحرير الأموال المجمدة كعامل مساعد في هذه الأولويات. فحصولها على الأموال المجمدة لن يحدث فارقاً كبيراً في حركتها الإقليمية لأنها لم تشك من نقص كبير في قدراتها المالية. فلديها احتياطي نقدي معقول (110 مليارات دولار) لكنها كانت تشكو من الشيطنة والعزلة وتآكل بنيتها التحتية في مجالات الصناعة والنفط وحاجتها الماسة إلى الخروج من هذه الحالة لاعتبارات تتعلق بالهواجس والمخاوف الداخلية. لذا من المستبعد أن ترفع مستوى تدخلها الخارجي بعد رفع العقوبات بحيث تحدث فارقاً مهماً في المواجهة الدائرة في الإقليم بعامة وفي سورية بخاصة، أولاً لأنها ستعكف على حل المشكلات الداخلية وتعمل على تلبية مطالب المواطنين لتنفيس الاحتقان وتبرير التوتر السائد وهذا سيشجع الداخل الإيراني على رفع سقف مطالبه والضغط من أجل التركيز على الداخل والالتفات إلى حل مشكلات المواطنين في مجالات العمل والصحة والتعليم والبنية التحتية في الأرياف والكف عن هدر الإمكانيات على مشاريع الهيمنة والسيطرة لأنها دون طائل، ولأنها، ثانياً، لم تدخر جهداً في ذلك دون أن تنجح في تلافي ما حصل في العراق باستيلاء داعش على مساحات واسعة فيها أو في تحقيق أهدافها في سحق الثورة السورية وحسم الصراع عسكرياً لمصلحة النظام بعد مرور أربع سنوات على الصراع. فما زالت هزيمة حملتها على المثلث في جنوب سوريا، التي خطط لها وقادها الجنرال قاسم سليماني، وفشلها في تحرير تكريت من دون مشاركة طيران التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وعجزها عن حماية ودعم الحوثيين في اليمن والتصدي لحملة «عاصفة الحزم»، ماثلة للعيان.

لكن هذا لا يعني أن إيران ستخفف دعمها لاتباعها في سورية والعراق ولبنان. إلا أن التصعيد المتوقع سيتم لاعتبارات دفاعية مرتبطة بالرد على هزائمها السابقة وبردع دول «عاصفة الحزم» كي لا توسع هجومها على مواقع النفوذ الإيرانية عبر رفع مستوى دعمها للقوى التي ترعاها كماً ونوعاً.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

احتواء إيران بأدوات أميركية ناعمة/ غازي دحمان

إحالة النزاع الى زمن آخر هو أحد التعريفات الممكنة للاتفاق النووي بين إيران وكبار العالم، أما في الحاضر فإنه يجري تخفيض نسبة النزاعات إلى قدر محدد يستطيع الطرفان من خلاله ترتيب تقنيات التواصل وتفكيك مفاصل الخلافات ما أمكن، حتى يصار إلى ترشيق العلاقة ودوزنتها وفق منظومة القيم السياسية للمرحلة الحالية، على أن يتم بناء الأجزاء المتبقية من بنية العلاقات وفق مقتضيات الواقع.

يحتاج تحليل هذا النمط من الأحداث إلى مفاهيم، ذلك أن الحدث بقدر ما هو جهد لحل أزمة راهنة ووقف إفرازاتها وتفكيك تداعياتها الإقليمية، ستتطلب إدارته تطويراً دائماً لأدواتها في بيئة دولية متغيرة على الدوام، وبقدر ما يبدو الحدث مرتكزاً على البعد الأمني والعسكري فهو يحمل رهانات على تغييرات ستحصل على مستويات عديدة، اقتصادية وسياسية واجتماعية، تبدو متشابكة بحيث لا يمكن من دونها ضمان نجاح الحل.

الاتفاق يأتي من خارج صندوق التجربة الكلاسيكية للدبلوماسية الدولية، ذلك أنه لم يحصل أن تم حظر امتلاك أو إنتاج احد صنوف الأسلحة على دولة ما إلا في حالة خروجها خاسرة من حرب معينة، وهذا الأمر لم يحصل عملياً، لكنه استنسابياً حاصل من منطلق أن إيران خسرت في الحرب الاقتصادية والدبلوماسية، ونتيجة خسائر سنوات حصارها الاقتصادي وعزلتها الدبلوماسية تساوي خسارة حرب حتى لو لم تستخدم فيها الأسلحة الحربية.

على ذلك، فإن نمط التعاطي الدولي مع إيران ينطلق من قاعدة الهزيمة، والإجراءات التالية تأتي في هذا الإطار، وغالباً ما يطلق عليها العقل السياسي الغربي تشذيب وإعادة تكييف للقوة، وذلك يستدعي خلق سياقات جديدة لتصريف هذه القوة وموضعتها، وفي هذا الإطار كانت ثمة تسريبات تتحدث عن وجود رهانات أميركية على إحداث مسار جديد لإيران بحيث يشكل توقيعها على الاتفاق بداية مرحلة طويلة جرى وضع تصورات عنها وسيجري إنشاء الآليات المناسبة لإنجازها، بحيث تشكل دينامية تشمل عمليات تغيير سياسية واجتماعية واقتصادية تفضي إلى ظهور نموذج مختلف في نهايته لإيران، لكن اقتضى أن تكون المهمة الأولى والمستعجلة وضعها على سكة التحولات تلك بداية من إقرارها بفشل مشروعها القائم على تحدي ضوابط السلوك الدولية.

إيران من جهتها لديها حساباتها ورهاناتها، والواضح حتى اللحظة أنها بصدد تصميم مشروع متكامل على مقاس فائض الأرباح المتوقعة من اتفاقها مع الغرب وتطوير علاقاتها معه، وأول تلك الأرباح تقديرها قبول الغرب عرضها كقوة إقليمية أساسية، ومن ثم الاعتراف بهذه الحقيقة وحصد نتائج هذا الاعتراف من نفوذ سلس وتمدد، أفقي وعمودي، في منطقة الشرق الأوسط .

لكن ثمة إشكالية تقنية تعور منهجية التفكير الإيراني والبناء الإستراتيجي الموازي له، وهي شطب المتغيرات التي تشكل العامل الأهم في نجاح الإستراتيجيات أو فشلها، والوقوف عند متغير أساس ثابت يتمثل بالواقع الإقليمي، من دون إمكانية حصول خسارة في أصولها الإستراتيجية ومن دون قدرة الطرف المواجه على تطوير أدوات من شأنها قلب الوقائع بشكل كلي أو تحريك المعطيات بدرجة تتوازى أكلافها السلبية مع عوائدها الإيجابية، ولا شك في أن هذه المنهجية غير صالحة في عالم شديد الاضطراب والتغير وبيئة يصعب إجراء تقديرات دقيقة لها لمدة شهور وليس أعوام. هذا في العموم، أما في الوقائع، فلا يبدو واقعياً أن الدول الكبرى صاحبة النفوذ العالمي والتي تتعاطى مع إيران بصفتها طرفاً خاسراً ستذهب إلى مكافأتها بالاعتراف بنفوذ إقليمي غير واقعي بالأصل لموازنة خسائرها في الصفقة.

يخطئ من يعتقد أن أياً من الفوائد التي تتنظرها إيران سيتحقق من دون تشبيك مع الاقتصاد الغربي ومنظوماته المالية، وإلا فإن إيران لن تحصل سوى على أوراق نقدية خام قابلة للصرف والاستهلاك خلال مدة محددة ولن تفعل أكثر من توفير مواد استهلاكية في السوق لن تكون نتيجتها سوى تغيير نمط الاستهلاك، كما لن يكون ممكناً جذب الاستثمارات والتكنولوجيا والانخراط في شبكة الإنتاج والاستهلاك من دون بنية تامة تجهزها إيران، وخاصة على المستوى التشريعي، وهذه ستستلزم تطوير آليات صناعة القرار والتنظيم والإدارة، ما يعني أننا إزاء تغيير في بنية السلطة وأيديولوجيتها، وبناء مراكز قوى جديدة وحوامل اجتماعية لهذه التغيرات، إذ لا يمكن أن تكون إيران دولة بعقلية ثأرية إمبراطورية في مكان ومنفتحة على العولمة في مكان آخر، لأن أدوات المشروعين داخلية ما يعني أن واحداً من التيارين: التكنوقراط أو «الباسيج»، يجب أن ينتصر على الآخر.

على عكس ما يذهب التفاؤل الإيراني فليس ما يحتويه التفاهم مع الغرب سوى نسخة مطورة من سياسات الاحتواء ولكن بأدوات ناعمة جرى تغليفها بمغريات استهلاكية كتعويض عن حالة الحرمان المديدة، وتتهيأ مكونات العولمة الاقتصادية لتلقي ما ستفرج عنه العولمة الرأسمالية بشكل متواتر من أرصدة مجمدة، لكن في كل الأحوال فإن الغرب وضع خطوط اشتباك وقواعد جديدة للعبة مع إيران تضمن تشغيلها ضمن خطوط إنتاجه ودمجها في بنيته الدبلوماسية وإشباعها استهلاكياً، مقابل إشرافه على سلوكها وتوجيهه نمط إدارة اقتصادها وتصريف ثرواتها، ويعود الفضل لقادة إيران أنفسهم في نجاح سياسة الغرب الاحتوائية تجاه بلادهم، ذلك أن سنوات طويلة من الإدارة الفوضوية للثروات والسياسات لم يكن ممكناً لها سوى الوصول الى هذه النتائج.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى