صفحات الناس

اجتزاء قصة مروان لا يزيد تعاطفنا/ جهينة خالدية

!رغد طفلة وحيدة في الصحراء بحسب هاربر أيضاً.. إنما لدقائق

 وحده وسط صحراء ضحلة.

طفل، يحمل بؤسه وكيس نايلون ببعض الحاجيات الأساسية، وأغلب الظن أن ألعابه ليست بينها.

وجوده هناك، وسط اللاشيء، وحوله عناصر “مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”، كفيل بأن يخنقنا ونحن نشاهد كل هذا البؤس. كفيل بأن يدفعنا إلى تخيل عشرات القصص الأليمة حوله اجتيازه الصحراء وحيداً بعدما أضاع عائلته.. كيف مشى كل تلك المسافة؟ ماذا أكل؟ ماذا شرب؟ كيف صمد؟ ألم يتعب من المشي؟ أين ذهب أهله؟ كيف تاه منهم؟ اللعنة على الحرب.. قلنا في نفوسنا. تشارَكنا الصورة في مواقع التواصل الإجتماعي ولعنّا كل شيء.

 لكن مهلاً، ماذا عن تلك الظلال الأخرى إلى يسار الصورة؟ ولمن إذاً تعود تلك الحقائب الضخمة التي يحملها العامل مع الأمم المتحدة؟ هذان السؤالان فقط، كان يجب أن يطرحهما أول من نشر الصورة من وسائل الإعلام العالمية والإقليمية التي خُدعت (وهي لم تحرّف الصورة، إنما حرّفت في كلامها أو قصتها)، محولة كلمات ممثل مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في الأردن، آندرو هاربر الذي كان أول من نشر الصورة، من “مروان فُصل مؤقتاُ عن عائلته”، إلى ما غردت به مراسلة “سي أن أن” هالة غوارني: “مروان الذي قطع الصحراء وحيداً، بعدما انفصل عن عائلته ضمن موكب النازحين”.

ربما تُعتبر تغريدة غوراني، أكثر ما تسبب في تحريف قصة مروان، لا سيما أنها انتشرت بكثافة وأعيد تغريدها أكثر من ثمانية آلاف مرة. لكن هذا لا يعني أنها لا تُلقى مسؤولية على المفوضية وعلى هاربر، لا لكلام الصورة، بل لاجتزائها من موكب النازحين الضخم. ولم تصدر الصورة الدقيقة عن هاربر إلا في اليوم التالي، وبعد حملة تعاطف عالمية مع مروان. وغرد هاربر من جديد شاكراً المصور جارد كوهلر لإرساله له “الصورة الحقيقية التي التقطها للطفل مروان والتي يظهر فيها ضمن مجموعة من اللاجئين”. وكان كوهلر بدوره قد غرد مصححاً أيضاً: “مروان انفصل عن موكب العائلة، لكنه لم يكن وحيداً”.

 لكن لنعد بحساب هاربر (الذي لام الإعلام لإضافته كلمة “وحيد” عن مروان) إلى تاريخ 23 كانون الثاني المنصرم.. يوم غرد بصورة عن الطفلة رغد، ابنة السنوات الخمس والنازحة من درعا، فقال بالحرف الواحد إنها “تنتقل وحدها، مع مخدتها، إلى بر آمن عند الحدود الأردنية”. وها هو، بعد دقائق ثلاث فقط، يغرد بصورة أخرى عن رغد وعائلتها التي بحسبه: “التحقت بها لينزحوا جميعاً إلى الحدود الأردنية”. أغلب الظن أن هاربر لم يقصد سوى إضفاء بعض التراجيديا إلى قصة رغد، من دون تعمّد الكذب، لكنه اجتزأ القصة الكاملة.. وهو تماماً ما أعاد تكراره مع قصة مروان.

 قد يقع جزء كبير من مسؤولية التدقيق، على وسائل الإعلام، التي تعجز في أحيان كثيرة عن التدقيق في صورة تأتيها أصلاً من مصدر من المفترض أنه موثوق فيه. لكن مسؤولية مَن يعمل على الأرض، وهو على تماس مباشر مع قصص النازحين، أن ينقل صورة شاملة عما يراه، ولا يقتطع الصورة من سياقها في سبيل “أكشنة” القصة أو زيادة التعاطف معها. هذه ألف باء أخلاقيات المهنة.. وغير ذلك يصب بشكل مباشر في التحريف، بل ويسيء إلى القضية الأصل.

 وطبعاً هناك عدد كبير من وسائل الإعلام العالمية والعربية التي نقلت الخبر من دون التدقيق فيه.. ومعظمها ما زال “مخدوعاً” حتى اللحظة. وحتى مَن قرأ تصحيح هاربر لاحقاً، أبقى الخبر منشوراً في صفحاته كونه ساهم، وما زال يساهم، في زيادة عدد القراء.

لا يمكن المحاسبة على النيات.. بمعنى أن نية هاربر أو كوهلر أو حتى غوراني، لم تكن اختلاق قصة غير موجودة، بل تضخميها بغية إيصال أصوات اللاجئين ومآسيهم.. ما يدفع البعض إلى مزيد من التعاطف مع الأزمة السورية وربما التبرع للمتضررين.

 ليس هذا خطأ متعمداً، أو لنقل أنه ليس تلفيقاً، كما رأينا في أمثلة كثيرة على مدى سنوات ثلاث من عمر الثورة السورية. بل هي الرغبة في استدرار العطف. سبق أن إمتلأت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي بالأخطاء الفادحة، وليست آخرها الصورة التي نشرها رئيس الائتلاف السوري المعارض، أحمد الجربا، قبل شهر، لفتى سوري ينام بين قبري والديه، ليتبين أنها ليست إلا جزء من مشروع فني للمصور السعودي عبد العزيز العتيبي. وطبعاً الأمثلة غير السورية أيضاً كثيرة، ومن أبرزها صورة زميل لبناني الذي استخدم تقنية “فوتوشوب” لتكثيف الدخان فوق الضاحية الجنوبية لبيروت والتي قصفها الإسرائيليون في حرب تموز 2006. الصورة انكشفت طبعاً، وجعلت كل الصور الحقيقية والقاسية عن تلك الحرب الهمجية عرضة للتشكيك من قبل الرأي العام العالمي. إضافة إلى عشرات الصور لمجازر أو ضحايا حروب، سقطوا خارج سوريا، ونسبوا إليها.. ومن نافل القول إن وزير الخارجية السوري وليد المعلم كان “رائداً” في تقديم هذه الأمثلة في مؤتمراته الصحافية.

 ربما لشدة ما أنتجت الثورة السورية من صور دموية، ومشاهد مآس وعنف، يحتاج البعض إلى زيادة نسبة التراجيديا فيها أكثر مما هي تراجيدية فعلاً.. مضاعفة ما هو مضاعف أصلاً.. في مبادرة لا تخدم أحداً، ولا حتى اللاجئين الذين يحتاجون إلى إيصال أصواتهم عن قضيتهم العادلة إلى العالم.

 لا تحتاج آلام الشعب السوري إلى كذب. لا تحتاج صور الأطفال، جوعى وجرحى وقتلى، إلى تضخيم. هول ما يصلنا من سوريا كل يوم يبدو في حد ذاته غير حقيقي لفرط بؤسه.. لكن صور مجتزأة أو منتزعة من سياقها أو مفبركة، لن تزيد عدد المتضامنين مع مأساة الشعب، ولن تصوب الرأي العام في اتجاه معاناة اللاجئين.. بل ستجعل ذلك البؤس مشكوكاً فيه.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى