صفحات الثقافة

احذروا أحلامنا الخطيرة/ عقل العويط

 

 

لماذا أكتب هذه الافتتاحية عن الحلم؟ ببساطة فاقعة: لأننا نعتقد أن الحلم يمكّننا من دخول الطبقات العذراء والأمكنة المجهولة في نخاعاتنا الشوكية، ومن اختراع سبل خلاّقة وفعلية للعيش وللمواجهة؛ مواجهة سقوط السياسة، وسارقيها، وسقوط المؤسسات، وانهيار الدولة. بالحلم، نحمي حياتنا. والقيم التي نؤمن بها. به نستطيع تحصين مناعتنا الداخلية، وتأليب الرأي العام، وتحفيزه، وتحذير سارقي حياتنا من مفاعيل أحلامنا الخطيرة. هل ينبغي لنا أن نتناسى أننا بالحلم نصنع الحبّ والشعر والحرية؟! زميلنا عبده وازن وضع نصاً طويلاً عن الحلم، بين التأمل والبحث، ننشر مقاطع منه، تعميماً للفائدة.

إنه أوان الحلم. لو تركتُ للأمر الواقع أن يستولي عليَّ، لكان ينبغي لي أن أكون في مقبرة، أو في مصحٍّ عقلي ونفسي.

لولا أنني أحلم، لكنتُ زعيماً سياسياً، أو رئيس دين، أو صاحب مصرف، أو غاسل أموال، أو حجراً على قارعة، أو شوكةً يابسة في أرضٍ مهجورة.

لكنني أحلم، وهذا تماماً ما يجعلني قادراً على النوم حيث أستطيع أن أسلس القياد وأطلق العنان لرغباتي وهواياتي ومطامحي كلّها، ويجعلني قادراً على الاستيقاظ لمجالسة ركوةٍ موحشة من القهوة، وتحمّل أوزار النهارات والمستأسدين البشريين الكثر.

ولأنني أحلم، أريدكم أيّها القرّاء، أن تظلّوا تحلمون، لئلا يُصاب أحدٌ منكم بجَرَب الأمر الواقع، وهو وجودنا المسرطن، الذي هو الحياة الكلبة التي نعيشها.

ولأنني أحلم، أدعوكم إلى المواظبة على الحلم. ليس لأنه منتج أو مفيد أو منقذ. بل خصوصاً لكي نكون أكثر قدرةً على تحمّل الأوجاع والوقائع، وهؤلاء الوحوش الضارية.

ولأنني مصرٌّ على الذهاب بالمغامرة إلى آخرها، وهي – للعلم والخبر – مقامرةٌ غير محسوبة النتائج، أدعوكم إلى الحبّ، إلى الرفض، إلى السعادة المتواضعة، إلى الفرح الرومنطيقي، إلى الغناء، إلى السباحة في الفجر والليل، ومساءلة القمر عن أحواله، وهواء أيلول عن رعشاته. وأدعوكم إلى النوم في العراء، لتلقّي الرؤيا على أصولها.

ولأنني أريد أن أشتري كتباً مدرسية، وأن أسدّد الأقساط المتراكمة، أدعوكم، بأعلى ما في حنجرتي من صراخ، إلى نجدتي، ومضاعفة أحلامي، لكي لا يتسنّى لي أن أفكّر، أكثر من اللزوم، في معطيات هذا الأمر الواقع، كما ينبغي لرجلٍ واقعيٍّ وعاقلٍ أن يفعل.

* * *

أحلم، وأدعو القرّاء إلى الحلم، لا هرباً، بل للتمكّن من مواصلة المواجهة.

كلما حلمنا، أرجأنا توقيت الوقوع في فم الوحش، أو بالأحرى، تفاديناه، وحقّقنا انتصاراً موقتاً على مَن يتحرّق لرؤيتنا مستسلمين.

ومَن يدري، ربما إذا حلمنا كثيراً وجيّداً، حقّقنا ما قد لا يُستطاع تحقيقه في المواجهة الملموسة.

يجب أن يحصل ذلك. “بالقوة”!

أن نحلم، يعني أن ننتصر، وهو انتصارٌ وديعٌ، متواضعٌ، عابرٌ، نافلٌ، لكنه يؤذي “الواقعيين”، القتلة الماديين والمعنويين بدم بارد، شركاء الأمر الواقع، المباشرين وغير المباشرين، هؤلاء الذين يمنعون علينا – موضوعياً – حتى أن نكون أحراراً في الحلم.

* * *

لكنني حالمٌ خطير. لم أترك، بالحلم، سلطةً جائرة إلاّ أنزلتُها عن عرش جورها. لم أدَع سارقاً يسرح ويمرح خارج السجون. ولا فاسداً يتملّص من غرفة الجراذين والصراصير.

لقد أطلقتُ أحلامي الخطيرة على هؤلاء، لتلاحقهم حيثما حلّوا ورحلوا.

كلّ الذين ارتكبوا، وهم لا يزالون يرتكبون بالطبع، ها هنا، “يقعون” في مرمى أحلامي.

أقول لهؤلاء: لا تستخفّوا بالأحلام. فهي خطيرة. لا أحد منكم يعرف كيف. ولا متى تتحوّل هذه الأحلام إلى واقع. ولا متى تقعون في فخاخها.

* * *

لا أحد ينجو من خطر الأحلام. لا أحد.

أقول لبعض النساء خصوصاً: لا امرأة اشتهيتُها إلاّ صارت بعضاً من رأسي وجسمي. للعلم والخبر: كلّما خضعتُ للفحص بالأشعة السينية، انكشف ذلك كفضيحة، على طريقة “الجرم المشهود”.

وأقول للقصائد: لا قصيدة رغبتُ في أن تكون قصيدتي، إلاّ صارت جزءاً من رأسي، أو بعضاً من ديوانٍ مخطوط.

* * *

فلنحلم. إلى أن يستتبّ “منطق” الحلم.

وإذا ليس ليستتبّ هذا “المنطق”. إذا ليس لشيء، أو لسببٍ نفعي، فلنحلمْ من أجل الحلم في ذاته. ولنحلمْ نكايةً. نكايةً بالذين يريدوننا جثثاً، أو حجارةً بكماء، أو أرقاماً انتخابية. وعلى الأخص، نكايةً بالذين ليس في مقدورهم أن يحلموا، لأن رؤسهم وقلوبهم وضمائرهم مبلّطة. هؤلاء مخصيّون، وسيقتلهم الواقع، عاجلاً أم آجلاً. سيكونون داخل غرفهم المغلقة، عندما يختنقون بالواقع. وسيتلفعون بأموالهم وجرائمهم، وهي ستكون لهم بمثابة توابيت وضرائح مشهودة.

فلنحلم نكايةً بهؤلاء.

فلنحلم نكاية بالأسد. بالبعث. بـ”داعش”. بالتكفيريين. بالحكم الديني في الخليجين العربي والفارسي.

يكفي أن نحلم، لكي نفوز عليهم. حقدنا الحلمي هذا، سيلاحقهم إلى غرفهم السرية، وسيفوز عليهم. الحلم هو حقدنا الوحيد، وهو انتقامنا. إنه فوزٌ مطلق. يفوز ولا يُفاز عليه.

* * *

لا أعرف تماماً متى أحلم ومتى لا. ليس من جدارٍ فاصل بين الوعي الواعي الكامل والوعي الناقص الذي لا يمكن ضبط النزف فيه. شيءٌ ما يتسرّب باستمرار من منطقة مجهولة فيَّ، يبلّل عقلي، ويجعلني وسيطاً شخصياً ولغوياً بين عالمَين متكاملَين، لكنْ متنافرَين. هذه مسألة لا أحبّ أن أعيرها اهتماماً عقلياً، ولا أن أفكّكها نقدياً أو نفسياً. بل أميل إلى تركها على غاربها لتأخذ مجراها الحرّ. من شأن ذلك أن يجعلني على وئام – خصام، ليس مع العالم فحسب، بل خصوصاً مع الذات التي هي أنا، المتباهية بقدرتها على التجوال بين المنطقتين، من دون أن تتعرّض لقنصٍ يرديها هنا أو هناك. لقد أمضيتُ عمري على هذه الحال، وجنيتُ من الخسارات والأرباح ما لا يُجمَع في مصرف أو في كتاب. ليس بي رغبةٌ، في الأفق العقلي، تجعلني أحيد قيد أنملة عن الشغور الهائل الذي يلمّ بي من أقصايَ إلى أقصاي، وأنا مستسلمٌ لمنطقٍ كهذا، يخلو من المنطق. شغورٌ يملأني بما لا تملأني به الحياة المعقلنة. شغورٌ سحيق، ممتلئ بذاته، هو وجودي حرّاً، عاشقاً، مجنوناً، عاقلاً، ماجناً، كاتباً، ولا حدود. تبّاً لي! كيف أتلذّذ بما أنا بي، وفيه، وكيف أستطيع أن أتحمّل الفصام الهائل الذي ينجم عن التوأمة بين هذين الشقيقَين اللدودَين.

لستُ واعياً ولستُ لاواعياً. لا أعرف ماذا أنا، ومتى ينحاز بعضي إلى هذه الدفة أو إلى تلك. لم أذهب يوماً إلى عملي بوعيي الكامل. لم أعد يوماً إلى بيتي بوعيي الناقص. لا أذكر أنني فعلتُ شيئاً، وأنا على أهبة واعية أو لاواعية، كاملتَين. أذكر فقط أنني شخصان اثنان ولستُ واحداً. لذا لم أنجح نجاحاً كاملاً كشخصٍ واعٍ، لاقتناعي بأنني لا أريد هذا النجاح، وليس ثمة في طبقات وجودي الدفينة ما يشتهي هذا النجاح ويرغب به.

نجحتُ في الحبّ عندما أسلستُ له القياد. لم أنجح في الحبّ عندما تركتُ للوعي أن يتدخل فيه. هذه حقيقةٌ أشهد لها على سبيل البوح، ومن أجل المصالحة مع ذاتي، وليس من أجل أيّ حقيقة عامة خارجية. لستُ شخصاً صالحاً لأداء وظيفة عائلية أو اجتماعية أو سياسية. لستُ مؤهلاً للخدمة العامة. أنا شخصٌ صالحٌ فحسب لخدمة الحلم. كلما شئتُ للحلم أن يتبلور، انزاحت غيمة من رأسي، مثلما ينزاح شتاءٌ أو بحرٌ بأكمله، فيتخربط المعيار. ليس عندي مصلحة مادية أو معنوية في بلورة أحلامي، بما يجعلها قريبة من التحقق، أو قابلة له. كلما فعلتُ شيئاً من هذا القبيل، سقط حلمٌ من رأسي مثلما تسقط تفاحةٌ قبل أوانها.

* * *

هذه البلاد تموت كلما كانت قليلة الأحلام. فلنجعلها تحلم. لعلها تستيقظ!

يجب أن نجعل هذه البلاد تحلم. فلنجعلها تحلم “بالقوة”!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى