أنور بدرصفحات الثقافة

اختبار الحرية وخيانة المثقف

 

أنور بدر

أتاح الهامش الزمني للثورة السورية التي دخلت منذ أيام عامها الثالث بالكثير من الانتصارات الحقيقية ضدً نظام يقتل شعبه ويدمر البلد، فرصة ثمينة لاختبار دعاة الحرية ومنظريها من الكتاب ومثقفي اليسار أو القوميين الذين بنوا أمجادا من النضالات التي تتغنى بالحرية وحقوق الانسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

فمنذ الصرخة الأولى لشبان ساحة الحريقة ‘الشعب السوري ما بينذل’ وحتى الانطلاقة الأولى لأطفال درعا في منتصف آذار/ مارس قبل عامين، بدأت عملية الفرز الحقيقي بين مثقفي السلطة الذين يذهبون في الدفاع عنها حدّ خيانة كل مبادئهم ونظرياتهم الثورية والإنسانية، وبين المثقفين العضويين الذين لا يمكن لبوصلتهم أن تخطئ الاتجاهات الصحيحة لحركة المجتمع ومصالح الشعب ودورهم في كل ذلك، حتى لو اضطروا لدفع ثمن مواقفهم سجنا وتعذيبا وصولاً إلى مرتبة الشهادة التي ارتقت إليها عشرات الأسماء من كتاب ومثقفين وإعلاميين رفضوا خيانة شعبهم تحت أية إغراءات مصلحية أو أيديولوجية. وما بين الفريقين مساحة واسعة احتلها الصامتون من مترددين وخائفين وانتهازيين شكلوا بعجزهم طابورا خامساً لبث الذعر بين الجماهير، ونشر الأضاليل وعلامات الاستفهام المحبطة باستمرار.

فالثورة السورية كشفت تناقض الكثير من المثقفين السوريين والعرب بين دعاويهم النظرية وبين انتماءاتهم السياسية، بين رفع شعارات الحرية والعدالة وبين الانحياز إلى الاستبداد والفساد، بين دعاويهم لإسقاط النظم الديكتاتورية وبين دفاعهم عنها ضد الإرادة الشعبية، فهم أصلاً كانتلجنسيا أو نخبة لا يثقون بالجماهير وخياراتها، لأن الجماهير جاهلة باستمرار لمصالحها، وهم وحدهم العارفون لمصالحها والمفوضون بالنضال عنها وتمثيلها سياسياً، وهذا يدل على بؤس هؤلاء المثقفين وبؤس الثقافة التي يدّعون، إذ لم تعد الثقافة إعادة انتاج معرفية لتطور علاقات الناس ضمن واقعهم، قدر ما أصبحت تبريراً لعجزهم وتخاذلهم في مواجهة قمع النظام وخوفا من سطوته.

ولا يعدم هؤلاء المثقفون تبريرات لمواقفهم وترددهم، وتنظيرات تتماهى في كثير من الأحيان مع فتاوى النظام وتبريراته، خاصة وأن الربيع العربي لم ينضبط وفق مقاييسهم الأيديولوجية المسبقة، أو انتماءاتهم العميقة التي قد يفصح البعض عنها ويخجل كثيرون من الاعتراف بها، حيث نرى لفيفاً متناقضاً من الانتماءات والهويات الأيديولوجية، بعضهم يدعي العلمانية وآخرون قادمون من خانة الأحزاب الشيوعية، وفريق ثالث قومي الهوى عروبي الانتماء، وبينهم كثير من المنظرين البراغماتيين الذين يقرأون ميزان القوى بعجزهم الفأري وخوفهم من المجهول، وفي أحيان كثيرة تتقاطع هذه الآراء مع انتماءات ما قبل مدينية، وبشكل خاص بين الأقليات التي وقفت بكتلتها المجتمعية مع النظام، سواء وعوا تلك البواعث العميقة، أم رفضوا الاعتراف بها. كلهم خانوا وظيفتهم كمثقفين عضويين في المجتمع، وخانوا مطلب الحرية والعدالة الاجتماعية، ولا يزالون عبر سنتين يرفضون الثورة التي تنطلق من الجامع، ويخشون من ثورة يرون منابتها أصولية وسلفية، أو يشككون بهوية الثورة القادمة من الخارج، وبعضهم مازال يمتح من شعارات الممانعة والتصدي التي دمرت البلد وقتلت الشعب قبل أن تحرر فلسطين أو تقضي على الصهيونية، ومع ذلك يرى أحد أقطاب الممانعة ‘أن فلسطين والموقف من العدو الصهيوني وداعميه من الأمريكان والفرنسيين والإنجليز هي البوصلة التي تفرز الوطني والشريف والحر من غيره ولا بوصلة غيرها’، لذلك هو يردد مقولة النظام عن مؤامرة امبريالية لتفتيت المنطقة وخلق شرق أوسط جديد.

مجموعة كبيرة من هؤلاء المثقفين احترفوا تصيد أخطاء الثورة وهفوات المعارضة، أو ما يشاع حولها باعتبارها حقائق دامغة حول أخلاقيات يرفضونها، ومن خلالها يرفضون الثورة، قانعين بما اعتادوا من فساد النظام وطغيانه، وكأنهم ينشدون ثورة نظيفة دون أن يسهموا بصناعتها، وديمقراطية لا يضحّون للوصول إليها.

كيف يمكن للخوف من وصول الإسلاميين إلى السلطة، أن يحول هؤلاء المثقفين إلى أبواق تردد مزاعم النظام، و تبرر جرائمه واستبداده؟ كيف يمكن للعلمانيين أن يتحالفوا مع نظام استبدادي يقتل شعبه ويدمر الوطن خوفاً من فزاعة الإسلاميين وسلطتهم؟

المسألة برأينا أبعد ما تكون عن النوايا الحسنة لقلة منهم، فهنالك حجم كبير من التناقض والتشوش في مواقف هؤلاء المثقفين، فلماذا يخشون الأصولية الإسلامية وينامون على حرير الأصولية الشيعية وتمفصلها الفارسي؟ وكيف يرفضون التدخل الخارجي ويرحبون بتدخل روسيا وإيران في الشأن السوري؟ ولماذا يتصيدون أخطاء المعارضة وينسون جحيم النظام البائد؟

ربما كانت بدايات الثورة تحتمل شيئاً من التردد أو عدم الوضوح في المواقف، لكن وبعد الدماء التي أهرقت خلال عامين من تضحيات الشعب السوري، لم يعد مقبولاً لأي مثقف أن يتردد في الانحياز لثورة الحرية والكرامة، ثورة تهدف لبناء سورية جديدة، سورية المواطنة والدولة المدنية. فهو خيار أخلاقي وإنساني، ومن يتلكأ في هذا الصدد لن تغفر له الأجيال القادمة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى