صفحات الرأي

اختبار الوطن.. نكسات مضافة/ محمد جميل أحمد

 

 

لا يصلح المجاز، ولا التجريد، فقط، لبناء وتثبيت صورة وطن ليست له في مخيلة صاحبه سوى صورة مشوشة، أو عصية عن الضبط الذي يمكن أن يتعرّف عليه من صور أوطان أخرى لآخرين في هذا العالم.

ليس الوطن مقدّساً، ولكن لصورته في بعض عوالم الآخرين نصيب من القداسة الوضعية، إن جاز التعبير، وهي قداسة لا تأخذ معناها حيال الوطن إلا بتلك الصيغة التي تمثـَّلها مَن اخترعوا فكرة الأوطان في العالم الحديث.

نزاع فكرة الوطن مع المقدس في هذا الجزء من العالم المسمّى عربياً ليست طارئة، ولا هي، فقط، من تمثلات أيديولوجيا الإسلام السياسي؛ وإنما هي كذلك مأزق متجدّد لاختبار هويتين تتصارعان في اللاوعي، وتنعكسان في واقع عربي متذرّر بهويات صغرى.

لقد بدا الوطن/ الدولة القُطرية في لحظة ما، كما لو أنه بديل لشيء مسكوت عنه، معطوفاً على حالة استعمارية صنعته صناعةً؛ لكنه، مع ذلك، أسس ذاكرة حديثة لهويات جماعية تتمثل علاقاتها الموضوعية بالعالم من خلاله.

وإذا كان من الطبيعي أن تتداخل دوائر الهوية في ذات الفرد وذاكرته، فإن تداخل الإسلام، كما هو اليوم في ذاكرة التخلف العربي، مع هوية وضعية من عيار قابل للقداسة؛ كفكرة الوطن التي حلت ــ بحسب مفهوم اتفاقية وستفاليا الأوروبية ــ محل الدين في مركزية انتماء الفرد ودائرة اهتمامه في الفضاء العام المعرِّف لهويته بالمواطنة، سيصبح ضرباً من التناقض الخام في ذات وذاكرة الفرد في عالمنا العربي.

هنا والآن؛ في هذا الجزء من العالم سيظل التوتر قائماً بين الهويتين، وسيستثمر المتطرّفون أقصى تناقضاتهما التي ستهز الاستقرار ــ كما هو الحال اليوم ــ ما يعني أن ضرورة البحث عن منهجية فكرية لاستقطاب التناقضات ضمن بنية معرفية، تفضي إلى تسكين الهوية الدينية في الهوية الوطنية، هو الحل الذي لا بديل عنه.

إن اختبار الوطن، مُني على يد الدولة العربية الحديثة بنكسات مضافة؛ جعلت من القدرة على تمثّله في نفس الفرد على ذلك النحو الفظيع من التشويش والتمزّق؛ ما أدى في النهاية إلى بروز النزعات العرقية والقبائلية والمناطقية والطائفية بالضرورة.

ليس من المستحيل بناء صورة الوطن في إطار تأويل موضوعي للهوية الدينية؛ لكن المستحيل بعينه هو محاولة تسكين صراع التناقضات الظاهر لفكرتي الوطن والدين كما هما اليوم في ذهنية التخلف العربية. وستجري مياه كثيرة تحت الجسر حتى نصبح قادرين على استقطاب تناقضاتنا، بعد أمد طويل، ربما.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى