صفحات سوريةغازي دحمان

اختفاء الأب باولو.. نكسة جديدة للثورة/ غازي دحمان

 إعتقال “الثوار” للراهب باولو ديلو، والذي أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان أمس بمقتله على يد جماعة “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، نقلاً عن نشطاء في الرقة، مطالباً بتأكيد الخبر المتداول منذ أيام بين ناشطين سوريين، شكّل صفعة خطيرة في وجه الثورة، فالرجل كان يوماً أيقونة لطالما زينت معمار الثورة السورية.. لقد كان “أبونا”، كما يحلو للثوار أن يسموه تحبباً، حالة منفردة من بين رجالات الدين الذين يؤيدون الثورة السورية، بمواقفه السياسية ورؤيته للثورة، فضلاً عن عمله التنويري الجاد، في إطار المجتمع السوري، طوال أكثر من عقود ثلاثة.

 ولعل من أهم عناصر رؤيته هذه إعتبارها ثورة مدنية بإمتياز تنتمي إلى عصرها بتمثيلها قيم الحداثة من حقوق للإنسان والحريات العامة، من دون تمييز طائفي أو عرقي، ورفضه للإشارات التي من شأنها الإيحاء بطائفية الحراك الثوري السوري، والتي لطالما استند إليها مناوئو الثورة في إتهاماتهم.

 ما ميّز سلوك الأب باولو هو عمله في إطار المكوّن السنّي. إذ أن غالبية من إنخرط معهم في الحراك الثوري كانوا من أبناء هذه الطائفة، ومثّل مرجعاً يستأنسون بآرائه ويسترشدون بها، وتأتي أهمية ذلك من كونه عمل في منطقة انقسام طائفي، حيث تنمو الأفكار المتطرفة بسهولة. كما استبطن هذا السلوك بُعداً تنويرياً واضحاً، حيث غابت الوظيفة الدينية ذات الطابع التبشيري، أو الدعوي، لتحل مكانها خدمة الإنسان أيّاً تكن طائفته، ما يذكرنا بسيرة الأم تيريزا.

 وما يشدّ الإنتباه في سيرة هذا الرجل، أنه لم يكن مجرد ناسك في دير، على ما تظهره الصورة النمطية لمثل هذه الحالات، ولم يكن منغلقاً ضمن ثقافته الدينية ومتطلبات التقرب من الرب، لناسك إعتزل صخب الحياة الأوروبية في دير على تخوم الصحارى السورية، إستطاع أن يجعل منه مركزاً للحوار بين الطوائف الدينية والأعراق المتعددة في سوريا، وتعاون كذلك مع جماعات مسلمة، لتحسين مستقبل الشباب، وتشجيع الحوار بين رجال الدين، واحترام البيئة المحلية.

 بل أكثر من ذلك، يذهلك الراهب باولو بمعرفته بتفاصيل التاريخ السوري الحديث، خصوصاً في جانبه المقاوم للإستبداد، ومتابعته لتعبيراته المختلفة، والتي يعجز حتى بعض الباحثين المهتمين برصدها وتحقيبها وتفصيل مستوياتها وأشكالها، عن “الكتابة والاستقلالية ونظافة الكف والحفاظ على القيم داخل البيوت وعلى الدين الخالي من الفساد”، في مواجهة نظام فقد كل مبررات وجوده الأيديولوجية والأخلاقية، وأصبح هيكلية قمع واحتكار للسلطة ونهب للأموال العامة.

 إنحياز الراهب باولو للثورة وقواها، لم يكن مطلقاً أو على بياض، كما يقال بالمثل الدارج. فهو لم يتردد في إنتقاد أخطاء الثورة إنطلاقاً من حرصه على صفائها وإيمانه بأن “الثورة التي لا تضبط نفسها، هي ثورة خاسرة اليوم وغداً”. لذا، ورغم قناعته بأن المجتمع السوري غني في تنوعه وقيم حسن الجوار والتعايش المشترك والاحترام المتبادل بين الناس، فإنه حذّر من التطرف الذي سرعان ما يجفف الوسط الثقافي والروحي والأخلاقي والأدبي، الحامل للتنوع، ويسحبه في اتجاه التطرف.

 وبصراحة جارحة، إفتقدت الثورة السورية مثل هذا النمط من رجال الدين، ومن كل الطوائف من دون أي إستثناء. فبين سلوك محابٍ للنظام، رغم كل إرتكاباته، وسلوك ينتهج التطرف بحجة محاربة النظام، كشفت الثورة السورية عن ثقافة دينية إنتهازية ومتخلفة وغير أمينة، وربما نبهت إلى ضرورة تحييد هذه الفئة من المجتمع السوري، والإعتماد على رؤى الجيل الشبابي وتصوراته عن التغيير والمستقبل، لأنها الأضمن للعبور إلى سوريا المشتهاة، لا سوريا المظلمة والمفككة، المستبطنة في عقول رجال الدين وهواجسهم، والتي لا يمكن أن تخدم سوى الطغمة الحاكمة وأحلامها في البقاء.

 طوبى لأبي الثورة السورية وأيقونتها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى