مراجعات كتبيارا بدر

اديت بوفييه.. تكتب «غرفة تطل على الحرب»: الصحافيّة الناجية من قصف المركز الإعلامي في حمص

 

 

يارا بدر

بيروت- «القدس العربي» تقول اديت بوفييه: «الشيء الوحيد الذي أعرف أن أفعله: أن أحكي، أن أتكّلم، أن أشهد. كي لا أسمع أحدا يقول: لم نكن نعلم، كي لا تُنسى أولئك النسوة، أولئك الأطفال وأولئك الرجال، الشباب والشيوخ، المتمرّدون، الشجعان، تلك الإنسانية المُهانة والمذبوحة. الذين لا يقاتلون من أجل المال والجاه، بل من أجل الحريّة».

هذا مقطع صغير من استهلال الصحافية الفرنسية إديت بوفييه لكتابها «غرفة تطلّ على الحرب»، الصادر مؤخرا بترجمته العربية ضمن سلسلة «شهادات سورية» عن «بيت المواطن» للنشر والتوزيع، وهو برنامج من برامج الرابطة السورية للمواطنة.

إديت بوفييه هي واحدة من الناجين من القصف الذي استهدف المركز الإعلامي في حي «بابا عمرو» في مدينة حمص السورية يوم 22 شباط/فبراير 2012، الذي راح ضحيته كل من الصحافية الأمريكية ماري كولفن 56 عاما المُراسلة الحربية لصحيفة «الصنداي تايمز» «، والمصوّر الصحافي الفرنسي ريمي أوشليك 29 عاما، الذي عمل لصالح وكالة «آي بي 3» الفرنسية.

تقول بوفييه: «ريمي لم يكن يتظاهر بعدم معرفة الخطر، بل على العكس تماما. لقد جاء ليحكي تاريخ السوريين، من رجال ونساء وأطفال، كانوا يقاومون مخاطرين بحياتهم. كان يعلم أنّ مكانه هو هنا، وليس في أيّ مكانٍ آخر. لن يعود ريمي من هناك. ومن أجله، ومن أجل أولئك الذين ذهب ليقابلهم، سوف نواصل».

بهذه الشاعريّة الناهضة من قسوة الحرب، وألم الفقَد والغياب، تكتب بوفييه بما يُفاجئ القارئ العربي، الذي يتوقع كلاما مُنمقا، دقيقا، وربما حتى مواربا من صحافية أجنبية متمرسة بما يكفي لتكون مراسلة لصحيفة مثل «لو فيغارو» الفرنسية. صحافية لا تثقل الإنشائية على لغتها كما نُعاني في الإعلام الصادر من العالم العربي. وإنمّا الدقة في المعلومة، الاختصار والتكثيف في الوصف، الجمل القصيرة، ومحاولات للتقيّد بقيم الموضوعية والحياد.

إلاّ أنّ بوفييه ومنذ الإهداء لا تدخل حتى في هذه اللعبة. هي هنا لا تعد تقريرا إخباريا، هي هنا ناجية تروي حقيقة ما جرى معها. تحاول أن تنقل بعيني ناج ما شاهدته في سوريا في ربيع عام 2012، حين كان العالم بأغلب قواه السياسية والإعلامية والدوليّة يُهاجم أو يتآمر على حراك شعبي غير منظّم سياسيا أو عقائديّا لدفعه إلى الانزلاق نحو خنادق الموت، من التطرّف إلى العسكرة العالية المستوى وحتى الحرب الأهليّة، أمور استنزفت البلد بحاضره ومستقبله، بعناصره المادية والمعنوية، حتى نكاد نشهد تفتت الدولة السورية. تقول بوفييه: «أعرف أنّ السوريين لم يكونوا ليتركونا على الأرضيّة، لكنهم يعرفون أنّ جيش بشار كثيرا ما ينتظر وصول النجدة ليقصف من جديد ويقتل مُسعفي الجرحى، مدنيين أو مقاتلين، من دون تمييز».

كلام بوفييه هذا، ربما لا يختلف عن مناشدات وصرخات أطلقها عشرات السوريين طوال عام أو أكثر منذ بدء انتفاضة آذار 2011، لكنها اليوم تأتي من ثقافة مختلفة، تأتي من ذاك الآخر الذي توجّه المُناشدة إليه. ومن شخص نتوقع من مهنيّته الإعلاميّة أن يقول عوضا «الجيش الحر» عن «السوريين»، فهؤلاء هم الذين تعلن بوفييه هويتهم كمنقذين في أولى لحظات الهجوم العسكري الذي استهدف المركز. لكن بوفييه لا تخشى الانحياز، بل تريد هذا الانتماء وتسعى إليه. هو ليس انتماء إلى صف مقاتلين ضدّ مقاتلين آخرين في حربٍ عسكرية مُتكافئة، بالنسبة إلى بوفييه، وربما إلى كثيرين آخرين، هو انتماء لجهة الضحيّة وحقها، في زمنٍ كانت الفروق فيه واضحة، وشاسعة، فكيف وقد غدت بوفييه ذاتها ضحية. خسرت زميلا، وأصيبت في قدمها، ولم تجد من يُنقذ حياتها سوى عشرات من الشباب السوري وقد قتل كثير منهم في محاولة تهريبها الأولى، التي كشفها عناصر الجيش السوري وأحبطوها.

في ذلك الوقت ردّت الحكومة السورية على المناشدات الدبلوماسية الدولية التي طالبت الحكومة بتحمّل مسؤوليتها السياديّة وضمان سلامة الإعلاميين الأجانب الناجين، وهم كل من اديت بوفييه، المصّور الصحافي البريطاني لصحيفة «صاندي تايمز» بول كونري، المصوّر الصحافي الحربي الفرنسي ويليام دانييلز، المراسل الإقليمي لصحيفة «إلموندو» الإسباني خافيير اسبينوزا، وتأمين خروجهم سالمين من مدينة حمص، خاصة بوفييه وكونري المُصابين فكان ردها «أنّها لا تملك أي معلومات عنهم لأنهم دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية».

كتاب بوفييه الصادر في مئتي صفحة تقريبا من القطع الوسط هو ليس مجرد كتاب عن هول حرب غير متكافئة بين طرفين متقاتلين، بل انه شهادة قاسية، مليئة بالإدانات التي تفضح هولا من انتهاكات حقوق الإنسان، لكنها في الوقت نفسه لا تخشى قول ما تجنّب كثير من المنتمين إلى الحراك الثوري قوله، والاعتراف به، مُفضلين اتباع دبلوماسية السلطات السورية في المواربة، وهو حقل ليسوا خبراء به. تقول بوفييه على لسان «أبو أحمد» أحد مقاتلي المدينة: «لقد حملنا السلاح منذ بداية الثورة، وشكلنا مجموعات من المقاومين. اليوم يتناقص عددنا لكننا سنصمد، سنقاتل حتى آخر واحدٍ منّا. لم يعد لدينا خيار آخر. فإمّا أن نعيش ونحن نحاول أن نكون أحرارا، وإمّا أن نموت».

تحاول بوفييه أن تختم كتابها بلمحات أمل.. وبأنّ المقاتلين عادوا إلى الانتفاض، على الرغم من «انسحابهم التكتيكي»، وعلى الرغم من سيطرة القوات السورية على الحي وتدميره بشكل شبه كامل، وبناء جدار عازل من حوله. لكنها تختم في الواقع بالإدانة الدولية مستشهدة بتواريخ وأرقام، تختم بالتقرير الصحافي لمراسل حربي. تختم شهادتها الإنسانيّة عن حكاية في زمن ضيّق من زمن حربٍ طويل. عن ناجية من موت ابتلع مئات الآلاف من السوريين. اليوم يحصد الموت السوريين من مختلف الجهات. اليوم ربما لن ينقذ أحد بوفييه لأنها سافرة، وغير مُسلمة، وربما سيرفضون حتى الجلوس معها أو استقبالها، وفي مكانٍ آخر من المناطق الخارجة عن سيطرة القوات السورية ربما كانوا ليتاجروا بحكايتها وألمها الشخصي وحتى حياتها. إلاّ أنّ هذا وعلى مرارته، لا يُمكن أن يُلغي أن ذاك ما حدث، هكذا كانت البداية. وربما ليست هذه نهاية النفق. إنّها بالتأكيد ليست كذلك. هي محاولات مُحبَطَة لجميع الأطراف التي تحاول التقدّم في كلا اتجاهي النفق. لكن يوما ما سيصل أحد الأطراف إلى نهاية النفق. سيخرج إلى الأرض، ويبدأ في إعادة بناء المدينة، والدولة، والهويّة، والوطن، كمفاهيم وحقائق. والأهم وربما الأكثر ثقلا ووطأة على الناجين سيكون في إعادة بناء الذاكرة الجمعيّة للسوريين.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى