صفحات الناسياسين السويحة

اسبينوزا نصير السوريين.. خطفته “داعش”/ ياسين سويحة

نهاية آب الماضي، وحين كان الجدل على أشدّه، حول الردّ الدولي على مجزرة الكيماوي في الغوطة، نشر خافيير اسبينوزا مقالاً بعنوان “دعهم يقتلون بعضهم البعض” في مجلّة “جوت داون” الثقافيّة الاسبانيّة. في المقال، سرد اسبينوزا جزءاً من مشاهدات مأخوذة من أكثر من عشر زيارات إلى سوريا منذ اندلاع الثورة، جاعلاً إياها رداً قوياً على الخطاب الإسلاموي الذي لم يرَ حينها حرباً في سوريا إﻻ تلك التي يُفترض أن الولايات المتحدة كانت ستشنّها. لم يكن هذا الموقف غريباً على خافيير، الذي كان دوماً نموذجاً ﻻمعاً للدوافع الإنسانية والأخلاقية المحرّكة لعمل صحافي محترف.

بعد نشر المقال بأقل من عشرين يوماً، خطفت “داعش” خافيير اسبينوزا، ورفيقه المصوّر ريكاردو غارثيا بيلانوبا، في ريف الرقة الشمالي، حين كانا في طريقهما لمغادرة الأراضي السوريّة بعد تغطية وتوثيق جانب من الحرب الوحشيّة التي شُنّت على دير الزور.

اسبينوزا مراسل حرب متمرّس، خلفه عقدان ونيف من تغطية الحروب والكوارث، خصوصاً في الشرق الأوسط. يقيم في بيروت منذ سنوات مع شريكته، الصحافيّة مونيكا غارثيا برييتو، وطفليهما. غطى اسبيتوزا، خلال عمله كمراسل في الشرق الأوسط لجريدة “إل موندو”، الأحداث الكبرى التي عصفت بالمنطقة العربية منذ أواسط التسعينات. لكنّ الثورة السوريّة كانت نقطة فاصلة في عمل خافيير، إذ انغمس سريعاً في تغطية مجرياتها من دون إخفاء انحيازه للثورة وتعاطفه مع ضحايا الحرب المسعورة التي شنّها النظام على السوريين.

شكّل حصار بابا عمرو في شتاء 2012 محطة أساسيّة في عمل اسبينوزا في سوريا، وفي حياته الصحافية ككل. نجا بأعجوبة من قصف المركز الإعلامي في الحيّ، والذي قُتلت فيه ماري كولفين وزميلها ريمي أوشليك. خرج اسبينوزا من بابا عمرو في آخر قافلة غادرت الحي، مشاركاً في إجلاء الجرحى. أعلنت وكالة “سانا” يومها أن عناصر الجيش وجدوا جثّته، رغم أنه كان قد وصل إلى بيروت قبلها بساعات. كان النظام قد استعدى اسبينوزا قبلها بأسابيع، رسمياً، حين سلّم الأمم المتحدة قائمة بالصحافيين غير المرغوب فيهم في البلاد، وضمّت اسمه، وذلك بسبب “خرقهم (الصحافيين) قوانين الدخول، العمل من دون تصريح، وتقديم أخبار كاذبة ومنحازة”، بحسب النظام.

بعد بابا عمرو، توجّه عمل اسبينوزا نحو الشمال: حلب، فادلب، فالرقة، فدير الزور. في الشمال بدأت مرحلة العمل المشترك مع ريكاردو غارثيا بيلانوبا، وهو مصوّر فوتوغرافي متخصص في مناطق الكوارث والحروب، وله سمعة مهنية طيّبة ويشكّل، برفقة مانو برابو (أحد حائزي جائزة “بوليتزر” لهذا العام عن تغطيته لقصف مشفى دار الشفاء في حلب)، جيلاً جديداً من المصوّرين الصحافيين، يلي جيل خرباسيو سانجيث في الثمانينات والتسعينات. غطّى بيلانوبا محطات عديدة من المقتلة السوريّة، ﻻ سيما في حلب، والتي عاش فيها شهوراً عدة، في شقة مشتركة مع أطباء وناشطين. من هذه الشقة اعتقلته “داعش” للمرة الأولى، قبل أن تطلق سراحه بعد فترة وجيزة.

على عكس حالة مارك مارغينيداس، الصحافي اﻻسباني الذي خطفته “داعش” في بداية أيلول، أي قبل خطف زملائه بعشرة أيام، ثم أُعلن عن خطفه بعد أيام قليلة، لم يُعلن عن اختطاف اسبينوزا وبيلانوبا حتى العاشر من هذا الشهر. كان هناك أملٌ في إمكان التفاوض عبر وسطاء ومن دون ضجيج إعلامي، لا سيما أن “داعش” ادّعت في اللحظات الأولى أنها فقط تريد التحقق من إخباريات وردتها ومفادها أن هؤﻻء الصحافيين “جواسيس”.

اختطاف خافيير اسبينوزا وريكاردو بيلانوبا يرفع عدد الصحافيين الأجانب المخطوفين والمفقودين إلى 37، يُضاف إليهم حوالى 60 صحافياً وناشطاً إعلامياً سورياً. ثمة عناوين كثيرة يمكن استخدامها  للإشارة إلى ضرورة الوقوف طويلاً عند هذا الواقع، والعمل على ابتداع وسائط لحلّه. من الواجب التضامن مع المخطوفين وعائلاتهم، والمرافعة عن حقّ الصحافة بالعمل بحرّية، لكن هناك أيضاً مصلحة سوريّة، إنسانيّة أو سياسيّة في أن يتم التصدّي لهذه الآفة.

إرهاب “داعش” للصحافيين والإعلاميين، السوريين منهم والأجانب، يسدل ستاراً من الظلام الإعلامي على المناطق الخارجة على سيطرة النظام، مع كل ما يعني ذلك من انعدام إمكان تظهير الواقع الإنساني في هذه المناطق. أما سياسياً، فتعود بنا “داعش” وأخواتها إلى الزمن الذي كان السوريون يطالبون فيه بإجبار النظام على السماح بدخول وعمل الإعلام في سوريا لكي يوثّقوا انتهاكات النظام بحقّ شعبه. اليوم “داعش” تقمع أي عمل إعلامي في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، فيما يلتقط النظام اللحظة لاستقطاب صحافيين أجانب كي يجولوا في دمشق. إنه مشهد من زمان منقلب، وما أكثر هذه المشاهد اليوم.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى