صفحات سورية

استراتيجية العصيان المدني: طريق الشعب السوري لتفكيك النظام


فاتح الشيخ

منذ 15/03/2011 والشعب السوري العظيم يثور للتغيير السياسي ، وإقامة نظام سياسي ديمقراطي تداولي ، باستخدام أدوات التغيير الجديدة التي أبدعها أبطال الشارع الاحتجاجي السلمي ، والمتمثلة بالمظاهرات المطالبة بالحرية وتطوير النظام كمرحلة أولى .

وعندما لم يستجيب النظام لمطالب الشعب والتف على مطالب الإصلاح ، طرح الشارع الاحتجاجي موضوعة الانتقال السلمي للسلطة ، خلال فترة زمنية معينة يتم الاتفاق عليها ، ووفق آليات محددة ، وعلى قاعدة رحيل النظام كمرحلة ثانية ، وذلك حقناً للدماء ، وعدم تعريض الأوطان لأهوال و مخاطر الانتقال الديمقراطي .

لكن النظام الشمولي السوري الممتنع عن الإصلاح لأسباب بنيوية ، لم يستجب لمطالب الشعب في المرحلتين الأولى والثانية ، ورد عليهما بالمزيد من القهر والقمع ، فقتل وجرح واعتقل وطارد وشرد وهجر مئات الآلاف من السوريين ، ومارس بحقهم العقاب الجماعي من خلال حصار المدن والبلدات والقرى ، وتجويعها والتنكيل بأهلها.

لذا كان الرد الثوري الشعبي هو رفع سقف المطالب الشعبية ، بشكل متوازي  مع رفع درجة الاحتجاج الشعبي كمرحلة ثالثة ، من المرحلة الاحتجاجية  التظاهراتية  إلى المرحلة العصيانية  التمردية ، من خلال تبني إستراتيجية العصيان المدني السلمي الشامل ، وتنفيذ برامج محددة ومتعاقبة ، وعلى سبعة مراحل تحت مسمى ( إضراب الكرامة ) ابتداءً من 11/12/2011 وهي :

إضراب المدارس وإضراب الوظائف وإغلاق الهواتف المحمولة ، ثم المحلات التجارية والجامعات ووسائل النقل والطرقات وموظفي الدولة وصولاً إلى الطرق الدولية .

وقد عرّف كتاب الفكر السياسي العصيان المدني أنه / قيام الشعب بالخرق المدني السلمي لقوانين معينة ، أو أوامر عسكرية يصدرها النظام الاستبدادي  كونها تتناقض مع مصالح الشعب .

أما الإضراب المدني / فهو التمرد الشعبي من خلال التوقف عن العمل لأسباب سياسية بمشاركة كافة الفئات المجتمعية

ومن يستقرئ التاريخ السياسي السوري سيجد أن الإضراب العام ليس جديداً على السوريين ، فقد قاموا عام 1936 بتنفيذ أعظم وأطول إضراب عرف حتى الآن ، والمعروف بالإضراب الستيني والذي استمر (55 ) يوماً احتجاجاً على عدم تنفيذ سلطات الانتداب الفرنسي لتعهداتها تجاه اتفاقية 1936 ، والذي عم كافة المدن السورية وفي مقدمتها العاصمة دمشق ، التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات ، وأضربت خلالها المدارس والجامعات ،وأغلقت المحال التجارية أبوابها ، مع استمرار الاحتجاجات والمظاهرات اليومية ، حيث كان المثقفون قادة الإضراب ، والطلاب أداته ووقوده ، والتجار ممولوه، ورجال الدين داعموه، وهو الإضراب الذي أجبر سلطات الانتداب على الانصياع لمطالب الشعب وإسقاط الحكومة الموالية لها .

ومن البداهة القول أن الشعب مالك الأوطان هو صاحب استراتيجية العصيان المدني ومبدعها ، من حيث تعيين موعدها ، وتحديد أوقاتها ، وتقسيم مراحلها وتنفيذ برامجها ، كونه العارف بمزايا قوة النظام وضعفه .

وإذا كانت الاحتجاجات الشعبية قد انفجرت بشكل عفوي في بداياتها الأولى ودون رأس تنظيمي ، ولم تطرح سوى موضوعة إصلاح النظام في المرحلة الأولى ، وتحديد الفترة الانتقالية لرحيله في المرحلة الثانية ، فإن الثورة الشعبية في الوقت الراهن أصبحت تمتلك استراتيجية عليا لإسقاط النظام مجسدة بالعصيان المدني السلمي ، مع تكتيكات تنفيذية عملية وبرامج عمل محددة علاوة على رسم الملامح الأساسية للمرحلة الانتقالية القادمة لسورية الديمقراطية .

إن دخول الشعب السوري الثائر مرحلة العصيان المدني السلمي ، ستحرك القوى الكامنة فيه ، وتعلمه الاعتماد على نفسه في تحصيل حقوقه وحرياته  ومعالجة مشاكله الحالية والمستقبلية ، وتزيد من لحمته الوطنية من خلال انضمام المزيد من المكونات والفئات المجتمعية والمناطق الجغرافية إليه.

 لقد وعى السوريون تماماً أن سلوك سبيل النضال الاحتجاجي السلمي، المتوج بالعصيان المدني، هو ضامن الانتقال نحو نظام ديمقراطي تداولي ، ومانع الانتقال نحو ديكتاتورية جديدة ، رغم ادعاء القلة المحدودة أنها ستحمل السلاح للدفاع عن كرامة الشعب والتي ستدعي لاحقاً : (أنا من حَررَكُم ! ، وأنا من سَيحْكٌمُكُم !) وهي في حقيقتها تتآمر على الثورة وتهدف إلى إجهاضها ، ولقد أثبتت تجارب التاريخ السياسي أن كل من سلك سبيل العنف للوصول إلى السلطة ،لم يقم ببناء نظام ديمقراطي تعددي وتداولي ، بل مارس الحكم بأحادية فكرية وثقافية وسياسية، وبشكل أسوأ من النظام السابق ، تحت دعاوي أيديولوجية : دينية أو قومية أو يسارية ( آيات الله في إيران – دول اليسار العربي – الدول الشيوعية ).

وبشكل عام فقد برهنت جميع حروب العصابات ضد الأنظمة الاستبدادية منذ منتصف القرن الماضي ، أن أسلوب الكفاح المسلح كان أسلوباً فاشلاً ، وعاد على الشعوب المقهورة بأوخم العواقب والويلات ، بل وزاد من قوة وسطوة الأنظمة الاستبدادية ، مع استثناء شرفاء الجيش الوطني الحر من هذا التعميم كونهم ردة الفعل على قتل النظام للمدنين السلميين ، ولا تتعدى أعمالهم المهام الدفاعية عن المواطنين ، والرافضين قتل أبناء شعبهم.

إن الشعب السوري العظيم الذي قدم التضحيات الجسام ، ينبذ عسكرة الثورة وتطييفها ، والمواجهة العسكرية – المدنية ، ويرفض العنف المادي المتمثل بتخريب الممتلكات العامة والخاصة ، ويرفض العنف الجسدي ضد الأفراد والجماعات، والعنف المتبادل سبيلاً لإسقاط النظام ، ولا يقنع إلا بسلوك سبيل العصيان المدني السلمي باستخدام أدوات القرن الحادي والعشرين وهي

       الاحتجاج السياسي             الاحتجاج الاقتصادي                  الاحتجاج الاجتماعي

وهو الأسلوب المبني على العناد الشعبي من خلال نبذ التعاون مع السلطة وامتلاك الإصرار والقدرة على معارضتها ، ورفض التعاون معها ، والتحدي السياسي الجماعي لها ، من خلال طرح شعار  (الشعب يريد … الشعب قرر….. ) حيث تنصهر كافة إرادات أبناء الشعب في إرادة  واحدة . ، وعليه فإن جوهر العصيان المدني لا يعني سوى :رفض الشعب لما يريده النظام ، وقيام الشعب بما يرفضه النظام .

إن من الحرام الثوري الديمقراطي سرقة ثورة الشعب المدنية السلمية ، من خلال استخدام العنف أثناء سريان العصيان المدني السلمي، باعتباره عملاً تخريبياً يتوجب الإدانة ، ويدفع إلى تحويل الثورة الشعبية الديمقراطية المعلنة إلى حركة مسلحة سرية ، مما سيدفع بالكثير من المواطنين للابتعاد عنها والتخلي عن دعمها ، علاوة على خسارة تعاطف الرأي العام العربي والدولي ومنظماته الحقوقية .

إن الآلة العسكرية هي نقطة قوة لدى النظام السوري ، لذا كان من الضروري تحييدها ، وعدم إتاحة الفرصة له لاستخدامها ، وهو المتمتع بالتفوق المطلق فيها ، مع تأكيدنا أن أعداد الضحايا المدنيين السلميين ستكون أقل حتماً في حالة عدم حمل السلاح لمواجهة القوة العسكرية والأمنية للنظام ، رغم الخسائر الكبرى التي دفعها الشعب، وقدم خلالها قرابين الشهداء الأكرم منا جميعاً ، وعليه نرى ضرورة توخي الحيطة والحذر والانضباط أثناء تنفيذ استراتيجية العصيان المدني السلمي .

ومن الضروري بيان أن خيار العصيان المدني السلمي ليس خياراً أخلاقياً فحسب ، بل هو الخيار القائم على الحجة التي تقول أن النظام الشمولي القمعي كغيره من الأنظمة السياسية بحاجة إلى مساعدة الشعب الذي يحكمه ، وبدون هذه المساعدة لا يمكن للنظام المحافظة على مصادر قوته السياسية (السلطة – البشر – المهارات – الخدمات – الموارد المالية …..) ومن هنا كان تعاون وطاعة أبناء الشعب هو ما يوفر مصادر القوة اللازمة للنظام الذي يقمعهم ، لذا كان عدم تعاونهم معه ، وسلبيتهم تجاهه هو الكفيل بقطع مصادر هذه القوة التي يعتمد عليها.

ونحاجج بالقول أن القوة العسكرية والأمنية ليست العماد الوحيد للنظام السوري  بل يقوم على منظومة متعددة ومترابطة ومتفاعلة من الأعمدة وهي :

الجيش – الأمن – السياسة – الإعلام – الاقتصاد – الاجتماع- الأيديولوجيا – المؤسسة الدينية الرسمية – العلاقات العربية والإقليمية والدولية .

وبناءً على ما ورد أعلاه جاء تبني استراتيجية العصيان المدني ، الهادفة إلى تحييد القوة العسكرية والأمنية للنظام باعتبارها الحلقة الأقوى ، وتركيز الهجوم الشعبي على الحلقات الأضعف المشار إليها لإلحاق الخسائر بالنظام .

إن الشعب السوري المحاصر والمقموع يستطيع قلب الطاولة على النظام ، من خلال ممارسة الحصار المعاكس عليه ، وسحب الدعم الشعبي الممنوح له   حيث أن قدرته على التصرف ستنخفض كلما زاد عدد السوريين المشاركين في العصيان ، واتسعت رقعته الجغرافية ، وشملت حصار النظام سياسياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً وأيديولوجياً وإعلامياً …. لذا كان من الضروري التركيز على تجفيف الموارد المادية والمعنوية التي تغذي النظام من سياسة واقتصاد واجتماع وأيديولوجيا …. وعلى الشعب أن يقوم بتسديد ضرباته المحددة لها ، باعتبارها نقاط استناده عوضاً عن الاتجاه صوب المواجهة العسكرية – المدنية باعتبارها مكمن قوته .

لهذا كان من السخف القول أن نهج العنف سيعمل على إسقاط النظام السوري بفترة أقصر وسرعة أكبر ! وأن العصيان المدني السلمي سيتطلب وقتاً أطول!

حيث أن انهيار الأنظمة الشمولية في العقود الثلاثة الماضية لم يتطلب سوى أيام أو أسابيع أو أشهر، وذلك في كل من :ألمانيا الشرقية – وتشكوسلوفاكيا – بلغاريا – رومانيا – بولونيا – الفلبين– تونس – مصر ….. والتي سقطت جميع أنظمتها الدكتاتورية من خلال تبني الشعوب لاستراتيجية العصيان المدني السلمي ، وهز الأنظمة الشمولية من الأسفل ، باعتباره الخيار الواقعي والموضوعي الذي تمتلكه الشعوب ، والتي أثبتت انتصار القوة الناعمة الشعبية على القوة المعدنية السلطوية .

إن أدوات العصيان المدني تختلف من بلد لآخر ، ومن نظام لآخر ، ومن مرحلة لأخرى ، ونرى أن ما يناسب معركة كسر الإرادات مع النظام السوري وتفكيكه تملي علينا استخدام الأدوات التالية :

إضراب المدارس – عدم دفع الرسوم والضرائب – سحب الودائع البنكية – عدم دفع فواتير الخدمات – الإضراب العام – مقاطعة الانتخابات – رفض الخدمة الإلزامية – قطع خطوط اتصال الأوامر والمعلومات للسلطة – إيقاف وسائل المواصلات – مقاطعة منتجات المقربين من السلطة – البقاء في البيوت – الانسحاب من المؤسسات الاجتماعية – مقاطعة وسائل إعلام السلطة – مقاطعة صحف السلطة – امتناع الموظفين عن الدوام – الاحتجاجات اليومية – إغلاق الهواتف النقالة – قطع الطرق الداخلية والدولية – الطلب من دول العالم طرد سفراء النظام – سحب دول العالم لسفرائها لدى النظام – السلبية في كل شيء تجاه النظام .

إن العصيان المدني السلمي هو وسيلة وليس غاية بحد ذاته، كونه يهدف إلى رفع تكلفة بقاء النظام السوري سياسياً واقتصادياً ومالياً – وعربياً وإقليمياً – ودولياً ، وأمام المنظمات الحقوقية العالمية (شرشحة النظام )، بمعنى أن وظيفة العصيان هي خلق المشاكل للنظام لإرباكه تمهيداً لدفنه  .

ومن المعروف أن العصيان المدني السلمي الذي طبقته محافظة حماة المجاهدة لمدة اثنا عشرة يوما متواصلا ، كان العصيان الأنموذج للمحافظات السورية الأخرى من حيث سلميته التامة والمدة التي استغرقها و المشاركة الشعبية الواسعة، والتي تجلت بالإضراب العام لكافة مناحي الحياة ، حيث أن المواطنين هم من بدأ العصيان وهم من أنهاه ليصبح أنموذجاً يقتدى به من قبل المحافظات الأخرى ، لذا عمد النظام إلى اجتياحها عسكريا صبيحة أول أيام رمضان، وهي التي كانت خطا أحمر.

       وأخيرا/

•                    إن قدرات الشعب ومقوماته تبقى دائماً وأبداً هي الأقوى والأبقى  من   النظام  ،مهما تمتع بالقوة والجبروت .

•                    ضرورة تزامن حصار النظام من الداخل والخارج معاً .

•                    إن النظام السوري المتجذر منذ عدة عقود ، قد يحتاج أكثر من عصيان مدني تمهيداً لتفكيكه  ، مع قناعتنا التامة أن كل عصيان سيلحق به المزيد من الخسائر وتجفيف الموارد داخليا و خارجيا ، وهذا ما يتطلب التقييم السياسي والاقتصادي والمعنوي الدوري والمستمر .

•                    إن المتضرر الأكبر من العصيان المدني هو النظام القائم والبرجوازية الطفيلية المتحالفة معه ، والتي ستعمل على فك ارتباطها به وتركه إلى مصيره المحتوم.

إن جوهر العصيان المدني السلمي لا يعني سوى :

رفض الشعب لما يُريده النظام ، وقيام الشعب بما يَرفضه النظام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى