صفحات سوريةغازي دحمان

استراتيجية تحويل سوريا إلى دولة فاشلة لعقود/ غازي دحمان

بحسب تقديرات الاستخبارات الأميركية، فإن الأزمة السورية قد تستغرق عشر سنوات أخرى على أقل تقدير، مما يعني أن البلاد ما زالت في المراحل الأولى من حربها الضروس، علماً أن هذا النوع من التقديرات يستند إلى مروحة واسعة من المعطيات ولعل أهمها ما تؤكده دراسات علم الاجتماع والخبرة التاريخية من أن زمن الحروب الأهلية عادة ما يمتد من عشرة إلى خمسة عشر عاماً.

الوقائع، على الأرض، تقول أكثر من ذلك أيضاً، ثمة بنية تحتية كاملة صارت مجهزة لمثل هذا الاحتمال، كل الموارد والإمكانات في الإقليم صارت تعزز مثل هذا الاتجاه، كما أن مفرزات الحدث نفسه تسير باتجاه تكوين بنية رديفة لمثل هذا التطور، لا يمكن إلا أن تفرض وقائعها.

الواقع يشير إلى تكريس سورية ساحة هامشية يمكن ان يمارس فيها كل شيء، من التخلص من الجماعات التكفيرية إلى حد تجريب السياسات الدولية، وصولاً إلى جعلها ساحة مناطحة دائمة، هذا ليس خياراً يجري الإعداد له، ولا إستراتيجية تنوي الدول تطبيقها على الأرض السورية، بقدر ما هو واقع حال، سيجري تكريسه بسبب الإهمال أو العجز أو التقاعس، لكنه بعض من ملامح مستقبل سورية القادم.

على المستوى اللوجستي يجري بناء منصة المعركة وتجهيزها من أجل قتال أكثر ولزمن أطول، انبت في المراكز قواعد لتزويد الحرب بكامل عددها من سلاح وأيديولوجيا ورجال ومال، هذه البنية يصعب تفكيكها بالزمن المنظور، بل إن محاولة النكوص عنها من شأنه خلق حالة من الارتباك في تلك المراكز.

لا تبدو البيئة الدولية بعيدة عن مثل هذا التطور، حيث يجري، بقصد أو من دونه، تحويل سورية إلى ساحة لتفريغ التوتر الدولي فيها، الأمر ربما لم يصل بعد إلى حد التجهيز العملاني للساحة من أجل هذه الوظيفة، بمعنى عدم تبلور دوائر مختصة بهذا الأمر حتى اللحظة، ولكنها على المستوى النظري تسير بهذا الاتجاه، إذ لا يبدو وجود مشكلة لدى مراكز القرار في الدول الفاعلة بأن تتحول سورية إلى هذا المآل، ليس في الأمر سراً، الأمور تتطور بهذا الاتجاه والأزمة تنقل ذاتها إلى الإطار الأوسع.

على المستوى الاجتماعي تتغير عناصر القضية لتسير باتجاه مفارق، حيث يشكل سيل النازحين معطى ثابتاً في الواقع الإقليمي وهو يسير إلى التحول إلى واقع مكرس وخاصة على مستوى توطن اللاجئين في البلاد التي هاجروا إليها، مع الزمن وتقادم الأزمة وبحث اللاجئين لحلول لأوضاعهم المعيشية وقيام علاقات مصاهرة وعمل وترابط مع شعوب البلدان التي يهاجر إليها السوريون، كل تلك بنية محفزات ستسهم في توطين السوريين، ولن يقتصر الأمر على مكون سوري واحد، فالأكراد كما السنة كما المسيحيين والدروز، معرضون لمثل هذه الخيارات.

النظام من جهته والأطراف الداعمة له، يسعى إلى تدمير بيئة الثورة نهائياً، وسبيله في ذلك، تهيئة ظروف الهجرة والتشرد، لذا فهو يعمل على إفراغ مناطق كثيرة عن قصد، كما يعمل على تحويل الحياة في مناطق أخرى إلى جحيم بحيث يبدو معها خيار الهجرة أفضل الخيارات الممكنة، ولا شك أن إيران التي تدعم خطط بشار الأسد يوافقها مثل هذا الاتجاه، وذلك لخلق واقع ديمغرافي مناسب لمشروعها حيث تدرك أن أحد شروط استمرار هيمنتها على سورية تكمن في تنفيذ هذه الإستراتيجية على الجسد السوري، ويبدو هذا الأمر واضحاً من خلال مشاركة حزب الله المكثفة والجدية في الحرب في مناطق سورية معينة مثل القوس الذي يمتد على طول الحدود الشرقية للبنان والتهجير الذي شمل مناطق واسعة وعدد من السكان يتجاوز المليون نسمة والعبث بالتركيبة السكانية لهذه المناطق، وهو الآن يكمل المنهجية نفسها باتجاه حمص شرقاً التي صارت فارغة من سكانها الأصليين باستثناء جيوب بسيطة في الرستن وتلبيسة.

يحاول الحلف الداعم لبشار الأسد تهيئة الأرضية المناسبة وإيجاد المسوغات الكفيلة لإنضاج هذا المشروع، في هذا السياق يتم الترويج لمخطط إسرائيلي لإقامة مشروع دويلة في الجنوب السوري، تشبه دولة جنوب لبنان من حيث الوظيفة والدور، وذلك إما لتشتيت جهود حزب الله أو لأجل المضاربة على دمشق وإلهائها بصراع دائم. في موازاة ذلك يجري الحديث عن قيام الأردن بتجنيس مليون فلسطيني وذلك تلبية لاتفاقات سرية يقوم على ترتيبها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، في إطار ما يسمى بـ«خطة كيري للسلام«، وهو ما سرّبه الوفد الأردني الحليف لبشار أثناء زيارة الأخير لدمشق، ليتعهد بشار الأسد بحماية الوطنية الأردنية من الضياع، والغريب أن يتزامن ذلك مع إعلان إسرائيل اكتشاف باخرة سلاح وصواريخ «سورية المنشأ« مهربة إلى قطاع غزة، كيف ولماذا ومن أين لنظام الأسد الذي لا يوفر التنك في محاربة شعب سورية صواريخ فائضة عن حاجته ليرسلها للفلسطينيين!

الواضح أن المقصود من هذا السياق الذي تتعاون على صناعته من العدم مراكز إعلامية في بيروت ودمشق وعمان وحتى في الداخل الفلسطيني، إعادة ترشيق فكرة المقاومة وإبرازها كونها ضرورة في مواجهة إسرائيل التي توسع أهدافها مرة باقتطاع جزء من سورية، ومرة بتضييع حق الفلسطينيين، لكن الهدف الأهم من وراء كل ذلك هو تبرير قتل السوريين وتهجيرهم عبر تصوير ثورتهم ككيان عميل قريب من إسرائيل، في هذه الحالة تصبح أفعال نظام دمشق مشرعنة وتعطيه زخماً تبريرياً لإكمال مشروعه وخاصة في هذا الواقع تجري صناعته في سورية يوماً بعد آخر، بمنهجية وخطة واضحة، وتصرف ميزانيات وتخصص موارد هائلة من اجل إنجاز هذه الإستراتيجية، فقد جرى تدمير البنية العمرانية لثلثي سورية، وجرى أيضاً تدمير الحياة الاقتصادية لملايين من الناس وهو أمر على عكس ما يتصور الكثير لن يمكن إعادته للإنتاج قبل وقت طويل، هذا في حال افترضنا انتهاء الحرب على السوريين في وقت قريب، فقد دمر النظام أدوات إنتاج القسم الأكبر من السوريين، وخاصة على مستوى المشاريع الصغيرة في الأرياف والضواحي، كما عمد إلى قتل وتهجير واعتقال أعداد كبيرة من الكوادر المدربة والخبيرة، أما المشاريع الكبيرة فقد هاجرت إما لدول الجوار، تركيا والأردن، أو عبرت البحار بعيداً عن سورية.

لا يعني ذلك خلو الساحة للنظام، ولا يعني أنه مقبل على الانتصار، على العكس من ذلك، فهو أيضاً يمر بمرحلة منازعة بيئته المؤيدة تعيش أسوأ أوضاعها التاريخية، وقد عمل على تدميرها بالمال الإيراني، وثمة تأكيدات بأن جيلاً كاملاً من البيئة المؤيدة للنظام استهلكته الحرب بين قتيل ومعوّق، فلم يفعل النظام سوى تدمير سورية بكل مكوناتها، وما زال يعد بالمزيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى