صفحات الرأيموريس عايق

استشراق إدوارد سعيد وعالم الحقائق البديلة/ موريس عايق

 

 

 

في أحد لقاءاته («الاستشراق، والمثقفون العرب، والماركسية، والأسطورة في التاريخ الفلسطيني» ومنشور في «السلطة والسياسة والثقافة») عبّر إدوارد سعيد عن امتعاضه من القراءة السيئة، الإسلامية خصوصاً، لعمله «الاستشراق» في العالم العربي، وهو العلماني الذي لا يثق في الحركات الإسلامية ولا يوافقها على رؤاها وقيمها.

هل كان سعيد محقاً في امتعاضه مما يحسبه قراءة سيئة لعمله؟ لا تنبع أهمية التساؤل وحسب من الرغبة في الوصول إلى القراءة العميقة والصائبة لعمله، بل مما يحصل هذه الأيام من صعود الشعبويات والأصوليات في كل مكان من حولنا. لم يتحدث سعيد في «الاستشراق» عن الإسلام، بل عن دراسة الإسلام ووصفه، وهذه النقطة أشار إليها سعيد بنفسه. نظر سعيد إلى الاستشراق بوصفه خطاباً ينتج معرفة حول الإسلام، خطاباً تحكمه علاقات القوة والهيمنة الخاصة بالغرب، بخاصة في عهده الاستعماري، حيث لا تقتصر وظيفة الاستشراق على معرفة الإسلام، إنما تتعداه إلى تحديد هوية الغرب نفسه.

المهم في هذه المقاربة السعيدية هو العلاقة التي تُقام بين القوة والمعرفة، وما يرتبط بالمعرفة مثل الحقيقة والمعنى. تُشتق الحقيقة والمعرفة من الخطاب وعلاقات القوة التي تحكمه. تقول الحكمة «المعرفة قوة»، ولكن هذه الحكمة تفهم العلاقة بين المعرفة والقوة في شكل وظيفي، أن تعرف أكثر فهذا يعطيك قوة أكبر. المعرفة الأفضل بقوانين الفيزياء ستمكننا من بناء صواريخ وطائرات. لكن المقاربة التي اعتمدها سعيد في «الاستشراق» تقوم على تصور معياري، وشديد الجذرية، للعلاقة بينهما، حيث تنتج القوة حقائقها ومعارفها الخاصة. المعرفة هنا تابعة للقوة.

فمعاني العبارات وصلاحيتها تتحدد في بنية الخطاب الذي أنتجها وعلاقات القوة التي تسود في بناه المؤسساتية والسياسية. الفكرة ليست جديدة، فجذورها ترجع إلى نيتشه، وسعيد يدين بها لفوكو، وهي ستكون من العلامات الفارقة لتيارات ما بعد الحداثة الفرنسية وتطبيقاتها المتنوعة، وإن كان استخدام سعيد لها لا يرقى إلى حذق وحرص فوكو.

هذا التعامل مع الاستشراق كخطاب قوة ينتج حقائقه حول الإسلام، عدله سعيد لاحقاً في «الثقافة والإمبريالية»، مخففاً من تطرف طروحاته ومعيداً الاعتبار إلى المحليين كفاعل في إنتاج المعرفة، وربما كانت قلة الراديكالية التي ميزت «الثقافة والإمبريالية» مقارنة بـ «الاستشراق» هي ما جعلته لا يحظى بذات شهرة ومكانة «الاستشراق» في حقل الدراسات ما بعد الكولونيالية. غير أن هذا التعديل اقتصر على توسيع مجال المساهمين في إنتاج الخطاب ولم يتضمن تصوراً جديداً للعلاقة بين الخطاب وما يحيل إليه، ما هو خارجه. مشكلة «الاستشراق» تكمن في أطروحته نفسها. تتعلق صحة الادعاءات أو خطأها بتوافقها مع ما تحيل إليه، فعندما أدعي مثلاً أن «عدد كواكب المجموعة الشمسية ثمانية»، فإن صحة الادعاء أو خطأه تتعلق بما يحيل إليه، فننظر إلى المجموعة الشمسية وما فيها من كواكب للحكم على صحة الادعاء. نعرف من السجالات الفلسفية مدى صعوبة وإشكالية العلاقة بين الادعاء وما يحيل إليه، وللفلاسفة آراء شديدة التنوع بصدد هذه العلاقة، هل هي وصفية أم سببية أو يتوسطها التواصل، ولكن نقاد الروايات لا يأبهون لمثل هذا النقاش.

في «الاستشراق»، تم الفصل بين الادعاءات (معناها وصوابها) وما تحيل إليه، فصار معنى الادعاء وصوابه يتحدد في الخطاب الذي ينتجه وعلاقات القوة داخله. في هذه الحالة ومن أجل فهم أن «عدد كواكب المجموعة الشمسية ثمانية» يجب دراسة علاقات السلطة وإنتاج المعرفة التي تحكم الفيزياء، أي الجامعات والمخابر كمؤسسات وعلاقات تمويل وهلم جرا. قد تبدو الفكرة مختلة في حالة الفيزياء، لكنها لعلة ما تحظى بالجاذبية في الإنسانيات. سعيد تبنى، في «الاستشراق»، الفكرة ذاتها، وهو ما يشاركه فيه كل من ينظر إلى الحقيقة باعتبارها منتجاً الخطاب وعلاقات القوة. وعليه، فمن أجل أن نفهم ادعاءات المستشرقين حول الإسلام، ليس علينا أن ننظر إلى المسلمين وتاريخهم وممارستهم لنقرر مدى صحة ادعاءات المستشرقين أو خطأها، إنما إلى بنية الاستشراق نفسه كخطاب.

سبق للأنثروبولوجي إرنست غيلنر أن اعترض على ما بعد الحداثة، لأنها وباختزالها معنَى العبارات وصوابيتها في الخطاب الذي ينتجها ستجعل من البحث الأنثروبولوجي يدور حول ما يقوله الأنثروبولوجيون حول المجتمعات المدروسة، وليس عن المجتمعات نفسها التي ستختفي من البحث.

النظر إلى الحقيقة باعتبارها نتاجاً لعلاقات القوة سيواجه معضلة منطقية، تتعلق بالسؤال عن صواب هذه الدعوى نفسها، وهو نفسه متعلق بالقوة. لكن هناك أيضاً المعضلة السياسية، وهي التي تهمنا ونواجهها اليوم.

مثلاً، يمكن أحدهم أن يدعي أن كل ما نقوله حول مساواة البشر ليس سوى تعبير عن هيمنة الخطاب الليبرالي و «إنتاج للحقيقة عبر علاقات القوة»، مشيراً إلى علاقات القوة التي تحكم إنتاج المعرفة مثل منع أي آراء عنصرية وقمعها من ساحة الجامعة. كيف يمكننا أن نثبت له خطأه؟ بالإحالة إلى ماذا؟ لا شيء يستطيع إقناعه بخطأ ادعاءاته طالما أن كل ما سنحيل إليه لا يأخذ معناه إلا من الخطاب الذي أُنتج فيه، أي في الجامعة والمخبر وهي كلها تخضع لعلاقات السلطة والسيطرة بالنسبة له. هو سيتحدث عن حقائق بديلة في وجه الحقيقة التي صنعتها الهيمنة الليبرالية؟

هذا ليس تمريناً فكرياً، وقد صرنا نراه اليوم في تكتيكات اليمين الشعبوي، حيث يدور الحديث عن الحقائق البديلة ورفض ما حسبناه زمناً حقائق متفقاً عليها باعتبارها كذباً وتزييفاً وصناعة تقوم بها المؤسسة (الاستبلشمنت). كل ما يقدمه الإعلام، ليس سوى صناعة للحقيقة والرأي العام، ففي النهاية الإعلام خاضع للسلطة. في تظاهرات بيغيدا في ألمانيا يرفض كثرٌ من أنصارها الحديث إلى أي من وسائل الإعلام ويصفونها بالميديا الكاذبة.

يعتقد بعضهم أن هذه المقاربة ذات طبيعة نقدية، تسعى إلى الكشف عن دور القوة في صناعة الوعي، تماماً مثل الدور الذي قامت به الماركسية يوماً. لكن الماركسية سلمت تماماً بوجود وعي حقيقي في مقابل الوعي المزيف، ويمكن الفصل بينهما بالرهان على الحقيقة والعقل في مواجهة الزيف والسلطة. تابعية الحقيقة للقوة والخطاب تعني أن لا مصدر نحتكم إليه في كشف الزيف. لكل خطاب حقيقته الخاصة، لا فرق بين الادعاءات وكلها تتمتع بالمقدار ذاته من الصواب داخل خطاباتها، أكانت دعوى مقاتل من تنظيم الدولة الإسلامية أو نصير للتمييز العرقي أو ليبرالي.

في خطابها السياسي اليوم، تستخدم حركات اليمين الشعبوي والأصوليات حجة ما بعد حداثية عن إنتاج الحقيقة من خلال الهيمنة والقوة. فتقدم هذه الحركات «حقائقها البديلة والخاصة» في مقابل حقوق الإنسان والعقلانية، والتي تعتبر جزءاً من هيمنة خطاب النخب الليبرالية. واليوم نشاهد عدداً من تلامذة سعيد في الجامعات الغربية، وهم يهاجمون أي دفاع عن حقوق الإنسان والمرأة والأضعف فينا بذريعة تورطهم في الخطاب الاستشراقي. لا يخطئ الإسلاميون في قراءة سعيد، فلا توجد حقيقة يسعى الاستشراق إلى معرفتها حول الإسلام، بل هو خطاب هيمنة، وفي مقابلها يقدم الإسلاميون «حقائقهم الخاصة». سعيد نفسه هاجم المستشرقين وسخف آرائهم ومعرفتهم من دون أن يحيل إلى موضوع النقاش، أي الإسلام وتاريخه.

الشائع لدى ما بعد الحداثيين في مواجهة كل نقد لهم هو أن يدَّعوا أن الناقد لهم أساء فهم الفكرة في شكل تام، لدرجة أن المرء يستطيع أن يسأل ساخراً: هل يمكن أحداً منهم أن يفهم نفسه في شكل صحيح؟ في حالة سعيد تبدو الإجابة على الأرجح بلا.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى