صفحات الرأيعبدالله أمين الحلاق

استشراق عربي واستشراق غربي/ عبدالله أمين الحلاق

في كتابه “هل القلب للشرق والعقل للغرب؟”، ينتقد مهدي عامل أطروحة إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، من وجهة نظر ماركسية، وينتقد عبرها تلك النظرة إلى الشرق التي تعتبره بنيةً غير قابلة للتغيير والاختراق، والنظرة إلى الغرب باعتباره مستعمِراً كــ”غرب”، لا كمنظومات سياسية في هذا الغرب، ويتهم إدوارد سعيد بــ”إغفال البعد الطبقي وصراعاته” ودور هذا العامل في عملية التغيير الاجتماعي.

تقادمَ هذا الكتاب لأسباب إيديولوجية وسياسية أساساً، إلا أنه لا يزال يحمل راهنيةً ما في هذه المرحلة، قد تفيد في فهم ما يحدث من صدام مخبوء وغير معلن بين الشرق والغرب، ارتكازاً على “البنيوية” في نظرة كلٍّ منهما إلى الآخر، وهذا ما كان جوهر فكرة مهدي عامل في نقده لإدوارد سعيد.

في كلام إدوارد سعيد ونقده للاستشراق، ما يفضي إلى فكرة مفادها أن كل إبداع او فعل تغييري او نزعة تحررية، ستكون مرتبطة بـ”الأمة” وخاضعة لها، وفق الفكر القومي في الغرب، إذ “ليس في وسع أي باحث أن يقاوم ضغوط أمته”، على ما يقول سعيد عن المستشرق لويس ماسينيون. إذاً. لا يرانا الغرب، كل الغرب، إلا كمستعمَرات له، وهذا ما ينسحب ويتعمم، وفق هذا المنطق، على الأفراد في الغرب ونتاجهم وتفكيرهم في الشرق، كما ينسحب على الجماعات البشرية والأمم الغربية كلها. هذا تحليل بنيوي ليس قائماً على الاستثناء، بقدر ما هو قائم على محو ما يفترض أن لا يكون استثناء، حيث تتساوى نظرة غربية إلى الشرق في وصفه شرقاً غامضاً دينياً غارقاً في السحر والتخلف، مع نظرة شرقية إلى الغرب في اعتباره غرب الاحتلال والاستعمار والكولونيالية الكلاسيكية المواصِلة رحلات فاسكو دي غاما، وإن في عصر العولمة.

عربياً، وسورياً، عاد العرب إلى العالم والتاريخ بعد غياب مديد عنه، ومن بوابة الثورات هذه المرة لا من بوابة الفتوحات والسيف، أقله في بداية تلك الثورات، التي لم يُعرَف عنها لجوءٌ إلى السيف أو السلاح عموماً إلا في اثنتين منها، الثورتان الليبية والسورية. قد يفيد بعض “المستشرقين” العرب المتشبهين بالنموذج الغربي، أن يواصلوا تلك النظرة الاستشراقية الغربية، سورية وعربية خصوصاً، في النظرة إلى الحدث الثوري العربي الذي بدأ في 17 كانون الأول 2010 ولمّا تنته فصوله بعد، وهو ما كان ولا يزال يثير هذه المسألة بقوة، ذاك أن ثوراتٍ تحدث اليوم في شرقٍ “متلازم” مع التخلف والسحر والدين، وهذا ما لا يصح وفق “حداثة الغرب الراسخة وقدامة الشرق الأكثر رسوخاً”.

هي ليست ثورات إذاً من وجهة نظر المستشرقين العرب، وإنما عودة إلى العصور الدينية الوسطى كما يرونها، وهو الأمر الذي لم تتأخر الحركات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم في مصر مثلاً، أو التي لم تصل كما هي الحال في سوريا، بما فيها الحركات الموسومة بالاعتدال الديني، كـ”الإخوان المسلمين”، لم تتأخر في دعمه وتقديم المستند الفكري والعملي له، وفي تقديم صك براءة لهؤلاء المستشرقين العرب من انحيازهم إلى جلادي الشعوب الثائرة ممثلين بالحكّام، وإن يكن هذا الانحياز “اعتدالاً”، حيث يقف الكتّاب أو المستشرقون الآنفو الذكر من مجزرة الكيميائي في الغوطة على المسافة نفسها التي تفصلهم عن استعانة لاجئي دول الجوار في خيمهم القماشية في صلواتهم وعباداتهم بالغيب المفترَض، وليس عن قطع الإسلاميين للرؤوس والذبح بالسكاكين.

الفكر البنيوي لا يؤمن بالجديد بوصفه جديداً يحمل احتمالات الانتشار كنموذج، لذا تبدو الثورات اليوم للمستشرقين العرب تمرداً طارئاً حدثياً، ولا يمكن أن تكون ثورات بالمعنى الذي عرفته البلدان التي ينسخون تجربتها في الحياة والمأكل والمشرب وحتى في اللغة المطعمة ببعض العربية، مع ثبات بعضهم على معاداة التدخل الغربي الخارجي على أرضٍ ممانِعة بالطبع. لأنّ تحول الحدث إلى مشروع تغيير، بكل ما يحمله من احتمالات تقدم ونجاح في هذا البلد، أو احتمالات نكوص وفشل في ذاك البلد، هو ما يقول عنه مهدي عامل في كتابه ذاك: “سينفي الفكر البنيوي قدرة المختلف أو النقيض على إنتاج أدوات إنتاجه المختلفة، لأن منطق الفكر التجريبي في الفكر البنيوي ليس له من أدوات يتمثل بها المختلف أو يتعقلنه، سوى أداة الطرد من العقل”.

لا يفسر كلام مهدي عامل كل الأسباب التي تجعل الغرب خارج دائرة تحمل المسؤولية باعتباره مهد الديموقراطيات الحديثة في هذا العالم والارض الراسخة للعلمانية في هذا العالم، بعكس مجتمعاتنا ما قبل العلمانية، التي لن يتنطح هؤلاء المستشرقون لعلمَنتها المستقبلية المأمولة بطبيعة الحال، إلا أنه يضيء على جانب أساسي خارج المجالات السياسية والحسابات والتفاهمات بين القوى الكبرى على الملف السوري، ألا وهو الجانب الثقافي.

عود على بدء، إذ يبدو أننا سنبقى مطرودين من دائرة العقل، في نظر الغرب، وهو لا يزال يرانا “قلبيين لا عقليين”. فالعقل مطلوب أمام الضرب بالسلاح الكيميائي وأسنان الجرافة وصواريخ السكود، وهذا ما يثبته مستشرقون سوريون علمانويون برهنوا ان التطرف والإرهاب بنيةٌ لدينا لا لديهم “وإن نكن علمانيين”، بدليل أنهم لم يتطرفوا على رغم البراميل وغيرها من أسلحة.

هي ليست دعوة إلى التطرف في التفكير بالطبع، وإنما لوقف القتل حيث لا بقاء لقاتلٍ في الحكم، وللعمل من دون تثبيط ويأس، على رغم كل مقومات اليأس المحيطة، انطلاقاً من الواقع وصعوبة تغييره، والتمسك بهذا التغيير مساهمةً مع سوريين آخرين وما أكثرهم. وهي ليست جهادية كلامية وإنما محارَبة للإحباط، حيث “الإحباط ليس قدراً”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى