صفحات المستقبل

استعارة/ رامي العاشق

 

 

لم يكُن بيننا سوى الأغنيات، استعرنا أصواتًا لا تنتمي لحناجرنا، وذكرياتٍ لم تطرق أبوابَ ماضينا، وروائحَ لأجسادٍ أخرى، وابتساماتٍ من مشاهد تلفزيونيّة رأيناها في طفولتنا لممثّلين فاشلين، الأغنياتُ تعلّمناها سابقًا من مدرّسينا ومدرّساتنا، كنّا نراهم يغنّونها لبعضهم، ثمّ يغنونها ذاتها لغيرهم، حتّى أنّنا أحببناها كما هي، وحين سمعناها من أصحابها اعتبرناها نشازًا، رغم أنّنا لم نُحب معلّمينا يومًا، وكنّا نغصّ أكثر ممّا نأكلُ من ما حضّرته أمّهاتنا لنا من ساندويشات الجبنة والزعتر في الرحلات المدرسيّة، بينما هم يشوون اللحمَ ويصنعونَ التبّولة، ويجبروننا على جمع أغصان الشجر ليشعلوا نار ولائمهم.. وشهوتنا!

الأغنياتُ صورنا الأولى عن الفرَح، لم تعد كذلك في ما بعد، إلّا أننا ما زلنا نحاول أن نغنّي أغنياتهم بأصواتهم عندما نقرّر البحثَ عن الفرح، السهلُ الأخضرُ، الحقائبُ المنثورةُ كجثث خفيفةٍ، باصُ (سكانيا) بعناقيد العنب المتدلّية من سقفه، مقاعده الهلاميّة سابقًا والمنحوتة لاحقًا على شكلّ مؤخّراتٍ اعتادت الجلوس لوقتٍ طويل، الطبلةُ، ألوانُ وجوهِ المدرّساتِ القبيحاتِ، نظراتُ الإغواءِ الذكوريّة، روائح عرقِ المدرّسين حين تمتزج مع عطور المدرّسات الرخيصةِ، وروائحنا التي تشبه رائحةَ قطيعِ خرافٍ لم يتمشَّ منذ شهر، أحاديثنا عن فتياتِ الحيّ والمدرسة، جملُ آبائنا المكرّرة وشتائمهم المنقولةِ بتصرّف، يمكن تلخيصُ كلّ هذه الجرائم.. بالأغنيات.

وأنا أبحثُ عن السعادة لا عن الحبّ.. أتعثّر بجسدِها، وأسحبُ من أبوّيتها على أنوثةِ كلامي فيخرج شعرًا، أستعيرُ ذاكرةَ المدرّسِ، وأتقمّصُ شغبَ الأطفال، وأسقطُ تحتَ مقعدٍ قديمٍ أتلصّص كيفَ تهزّ قدمها، أرفع رأسي فأراها تقضم أظفارها، فأخرجُ من ذاكرتي التي استعرتها إلى خيالٍ أبنيه، وأرمي في بنك النطاف ملايينَ مني، وأنتظرهم قليلًا كي يكبروا ليشبهوها، وأبحثُ عنهم في الشوارع الغريبة، العيون ذاتها بشعر أشقر، الفم ذاته بلون بشرة جديد، الضحكةُ التي تشبه ضحكة مدرّستي على جسدٍ بطولِ مدرّستين تحمل إحداهما الأخرى لتتسلّق شجرةً وتأخذ صورةً مضحكة، وأرى وجهي، وجهي الذي أخبرتني به المرآةُ وأظنّه لي، على جسدِها هي! فأفرحُ، أركضُ، أصرخُ، أهجمُ أحضنُ هذا الكائنَ المقسومَ بأمومةٍ استعرتها فأُمنَحُ صفعة!

وهي تبحثُ عن الحبّ.. تفتحُ بابَ قصيدةٍ وتتركهُ مواربًا لأدخل، فتتناسى همزةً تعرف أنّها تستفزّني، وتوغلِ في مخاطبةِ المجهول، وتحبّ أن أكونَ مجهولًا لترى حسرتي وأنا أنظر في عيونِ الناس ولا أستطيع النطق:

– هذا أنا! أنا المقصودُ مهما كنتُ قبيحًا، أنا المذكورُ مهما كنتُ نكرة!

ولا أحد يسمع ما يدور في بالي، فأهجرُ السعادةَ وأبحث عن الحبّ، فأغرقُ، أسقطُ، أغارُ، أبكي، أتوحّد، أمشي في الشارع وأحادث غيابها، وأغنّي لها، الأغنياتُ هنا.. لم تعد أغنيات فرح، صارتْ أغنياتِ مراهقينَ ارتطموا بالفقد، فأستعير مجدّدًا ابتسامةً، وأحمرَ شفاهٍ على قبّة قميصٍ ليس لي، وأسرقُ بطاقةً بنكيّةً من صديقتي الأجنبيّة، وأجلس في المطعم، أبحثُ عن سهلٍ، وتبّولة، وبعض اللحوم المشويّة، وأركب باص (سكانيا) من أقصى مدينة أوروبيّة إلى هناك، هناكَ حيثُ الصور الأولى للأغنيات لأعلّم الأطفال الغناء!

(سورية)

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى