صفحات العالم

اسرائيل ‘القدوة’؟!


محمد كريشان

بعد ستة أشهر دامية عانى خلالها السوريون الأهوال من سلطة ركبت رأسها ولم تعد ترى أبعد من أنفها، من المؤلم جدا أننا بتنا نجد في بعض التصرفات الإسرائيلية ما يمكن أن نحيله على المسؤولين السوريين لعلهم يقتدون به حقنا لدماء العشرات يوميا!! وطالما أن دعوات وقف قتل المدنيين ‘فورا’ لا تلقى أي صدى إن لم تكن تعني العكس، فلا بأس من نكد الدهر أن نكتفي الآن بالطلب من ‘نظام الممانعة’ بعضا من ‘ترشيد القمع’ ليس أكثر كما رشـّــد من قبل ‘المقاومة’ حين ظل يسوّق نفسه مقاوما دون أن يطلق رصاصة واحدة.

الحكومة الإسرائيلية، وفي سياق الاستعداد لتحركات شعبية واسعة ينتظر أن يقدم عليها الفلسطينيون في الضفة الغربية وربما داخل الخط الأخضر تأييدا لاعتراف دولي مرتقب بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة ايلول/سبتمبر المقبل، قررت تعزيز ترسانتها القمعية للتصدي لهؤلاء. ماذا فعلت؟ اشترت من بلجيكا خمسة عشر حصانا مدربين على تفريق جموع المتظاهرين وسيارتين مزودتين بخراطيم رش المياه عليهم وبنادق خاصة تطلق عدة قنابل غاز مسيلة للدموع في وقت واحد ومن مسافة بعيدة وذلك لتجنب أي احتكاك بين هؤلاء ورجال الشرطة. كما شملت هذه المعدات التي سردتها صحيفة ‘معاريف’ نقلا عن مصدر رفيع في الشرطة الإسرائيلية، منظومة تصدر ضجيجا مزعجا يؤذي الآذان والرصاص المصنوع من الإسفنج وقنابل تبعث روائح كريهة وتسبب حالات غثيان وتقيؤ بين المحتجين.

بالطبع بلجيكا ليست في وارد مد دمشق الآن ببعض هذه المعدات مقابل وقف إطلاق الرصاص الحي على المدنيين وقذائف الدبابات وحتى البوارج الحربية، إذا ما تأكد، كما أن التوتر بين فرنسا وسورية تمنع أية مساعدة كالتي كانت وعدت بها الرئيس التونسي المخلوع بن علي وزيرة الدفاع السابقة حيث كانت الشحنة مهيأة للإرسال لولا سقوط الدكتاتور. وبالمناسبة فقد صبر المجتمع الدولي على ممارسات الرئيس بشار الأسد ما لم يصبره بالمرة على كل من بن علي ومبارك والقذافي وبما يوازي ربما صبره على علي عبد الله صالح ولا يزال.

لو لجأ الحكم السوري إلى ‘قمع معقول’، على الطريقة التي تستعد بها إسرائيل الآن لاحتمالات الشهر المقبل، لما وصل به الحال إلى ما وصل إليه من استياء دولي وعزلة خانقة وعدم اقتناع عام تقريبا بالحجج التي يسوقها ولا يمل من تكرارها لتبرير ما لا يمكن تبريره. الأغبى أن إطلاق النار على الناس العزل وقتل النساء والأطفال وتجاوز كل الخطوط الحمراء، بما فيها الاعتبارية الخطيرة، كضرب المساجد وإسقاط مآذنها، لم يعط أي نتيجة بل العكس فالسوريون الذين اكتشفوا حلاوة كسر قيود الخوف والمذلة لا يمكن أن يقبلوا العودة إلى كابوس الخوف والاستكانة من جديد. الثمن الغالي الذي دفعوه إلى حد الآن يجعل الرجوع إلى الخلف مستحيلا بالكامل. ومن هنا لا يمكن وصف إصرار القيادة السورية على خيار كسر إرادة السكان لردعهم سوى بأنه خيار مفلس بالكامل. العقل السياسي السوري الرسمي، إن كان هناك بقايا عقل أصلا، لم يعد يحركه سوى منطق الثأر من قطعان عبيد تجرأوا على التمرد على سيدهم وهو منطق لم يعد مثمرا كما كان في سنوات خالية سابقة.

وطالما بتنا من الغبن الشديد في وضع نستشهد فيه بـ’نماذج’ إسرائيلية علــّـنا نبز الأعداء بعد أن عجزنا على هزمهم، فإن الإسرائيليين أيضا في تعاملهم مع الانتفاضات الفلسطينية المتعددة لم يلجأوا، في غالب الأحوال، إلى إطلاق النار إلا بعد استنفاد، ولو شكلي، لأساليب أخرى لا دم فيها. ومثلما سارع العقيد القذافي إلى الطيران والأسلحة الثقيلة ارتكب الأسد وعلي عبد الله صالح نفس الحماقة. العالم الآن لا يمكن أن يفهم أبدا كيف يلجأ حاكم ما إلى أسلوب كهذا، حتى لو سلمنا جدلا بأن بين المحتجين مندسين مسلحين، لأنك بهذا الشكل تصبح كمن يلكم أحدا على وجهه لأن ذبابة حطت على أنفه!!

لاحظوا أننا لم نتحدث آنفا سوى عن درجات الذكاء والغباء في اللجوء إلى القمع أما الحوار والسياسة والحكمة في التعامل مع ‘الآخر’ المتمرد فلا مجال إلى الخوض فيها لأن إسرائيل ومعها الدول العربية التي تواجه بالقمع ثورات شعبية عارمة هي على هذا الصعيد بالتحديد على نفس المستوى من ‘الحمرنة’ !!

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى